فيلم “خارج التغطية”.. تحية إلى روح عبد اللطيف عبد الحميد
أمير العمري
يعتبر المخرج الراحل، عبد اللطيف عبد الحميد من أهم السينمائيين السوريين وأكثرهم إنتاجا، وهي ميزة لا شك أنها ساهمت في تطوير قدراته الحرفية، ومنحته ثقة كبيرة جعلته يقدم على اقتحام الكثير من المناطق المحرمة، بأسلوبه الخاص، وبلغة شاعرية رقيقة، تبتعد عن الخطابة والسرد المعقد ومحاولات التفلسف الكاذب.
فيلم “خارج التغطية” هو فيلمه السابع بعد “ليالي ابن آوي” (1988) و”رسائل شفهية” (1991) و”صعود المطر”(1994) و”نسيم الروح” (1998) و”قمران وزيتونة” (2001) و “ما يطلبه المستمعون” (2003)
“خارج التغطية” ليس فيلما عن الحب والعلاقات الإنسانية السوية التي تصادف مشاكل اجتماعية تعيق تطورها وبلوغها نهاياتها الطبيعية كما في بعض أفلام عبد اللطيف السابقة، بل هو في الحقيقة فيلم عن انعكاسات القهر في بلد من بلدان العالم الثالث، تغيب فيه الحرية، ويشعر الإنسان فيه شعورا مزدوجا بالانسحاق والحرمان من التحقق، على المستويين العام والخاص، في إطار المجتمع ككل، وفي إطار حياته الخاصة أيضا.
الاعتقال السياسي
والذين استقبلوا الفيلم “وحاكموه” باعتبار أنه لم يشبع موضوع الاعتقال السياسي، ولم يشأ الاقتراب منه كما كان ينبغي، ظلموا الفيلم كثيرا، فليس هذا فيلما من تلك الأفلام السياسية المباشرة التي تتوق إلى تفكيك قضية الاعتقال السياسي وتحلل أسبابه ومظاهره.
إنه ليس فيلما عن السجين في الداخل، أي في داخل المعتقل، بل عن أولئك “السجناء” في الخارج، الذين تركوا مطلقي السراح لكنهم ظلوا سجناء في ظل ذلك السجن الآخر في الداخل.
يروي “خارج التغطية”- الذي كتبه مخرجه- قصة تبدو من الظاهر اجتماعية، تدور في محيط مجتمع مدينة دمشق، حيث يجد بطل الفيلم أو الشخصية المحورية فيه “عامر” نفسه وقد أصبح مسؤولا عن أسرتين: أسرته المكونة من زوجته وابنه، وأسرة صديقه زهير السجين المعتقل منذ عشر سنوات، والمكونة من زوجته وابنته.
عامر يبذل أقصى ما يمكن أن يتحمله إنسان من أجل تلبية احتياجات الأسرتين، فهو يقوم بتوصيل ابنة صديقه إلى المدرسة ثم يحضرها كل يوم، ويقضي طلبات زوجة صديقه الشابة الحسناء “ندى”، ويلهث بين منزله ومنزل صديقه، إلى جانب أنه يمارس أيضا عملا شاقا في محل صنع الحلوى والمخبوزات، كما يقوم بتدريس اللغة العربية لمستعرب ياباني، ثم يجد نفسه أيضا يعمل سائقا لسيارة تاكسي.
حرمان ورغبة
عامر يصبح ركنا أساسيا في حياة زوجة صديقه “ندى” التي تعاني بوضوح من الحرمان العاطفي والجنسي، وهو لا يبدو منسجما في حياته مع زوجته “سلمى” بل يجد نفسه أكثر قربا وتعاطفا مع ندى، واشتهاء لها في الوقت نفسه.
زوجة عامر “سلمى” تشعر بما يحدث من تغير في حياة زوجها بعد أن أصبح يقضي وقتا أطول في الخارج، يقضي طلبات ندى أو يبذل جهده في شراء الأطعمة التي تتولى المرأتان إعدادها تمهيدا لزيارة “زهير” في السجن، يحاول أن يصبح “الزوج البديل” أو بديل الزوج فهل ينتهي به الأمر إلى احتلال فراشه أيضا!
هناك في البداية نوع من التعاطف بين سلمى وندى، سرعان ما يتحول إلى تشكك ثم غيرة وحقد، الأمر الذي يدفع الزوجة التي ترغب في الحفاظ على زوجها إلى الاستعانة بصديقة لها، هي في الوقت نفسه زوجة رجل “مهم” مرتبط بأجهزة الأمن، للتدخل من أجل الإسراع بإطلاق سراح زهير من السجن.
لكن المحظور يقع، وتنشأ علاقة جسدية، كانت محتمة، بين عامر وندى، قبل أن يعرف الاثنان أن قرارا صدر بالإفراج عن زهير.
يكاد عامر ينهار تحت وطأة الشعور بالتمزق بفعل ثلاثة عوامل: أولا خيانته لصديقه بعد أن أقام علاقة جنسية مع زوجته، وثانيا: رغبته في الاستحواذ على ندى وعدم قدرته، بسبب إدمانه عليها، عن الابتعاد عنها، وثالثا: قلقه على زوجته سلمى التي لا يمكنه في الوقت نفسه أن يتخلى عنها تماما.
الإحساس بالقهر
يعبر عبد اللطيف في فيلمه عن ذروة الإحساس بالقهر كما ينعكس على الشخوص الثلاثة الرئيسية في فيلمه بسبب سيطرة منظومة قمعية لا تظهر لنا مباشرة، وإن كان يخلق لها معادلا دراميا في الفيلم بأشكال مختلفة.
إنه يحول منزل عامر ومنزل زهير إلى سجن له قضبان حديدية، رغم أنه يشرف من علٍ، على دمشق البعيدة في الأسفل، ويبدو في أعلى، معزولا، عاجزا عن الفعل رغم أنه في قلب المدينة طوال الوقت، فقد تحول أيضا إلى سجين داخل جلده.
وحتى عندما تضطره ظروف ما للعمل كسائق للتاكسي في غيبة صاحب السيارة الذي ذهب في رحلة عمل للخليج، نراه عاجزا عن إقامة أي علاقة مع الواقع من حوله، رغم حضوره الذي يجعله دائما جاهزا للقيام بالمهام الصعبة.
صديق عامر، صاحب “كشك” بيع الحلوى والسجائر، مخبر يتعاون مع الأجهزة، وعامر لا يتردد في اللجوء إليه كلما اقتضى الأمر لمساعدته في الحصول على تصريح لزيارة زهير في السجن.
وعندما يجد عامر في النهاية أنه قد أصبح متورطا بالكامل في العلاقة مع ندى، يلجأ، وهو الصديق الوفي الذي كان يتمنى دوما خروج صديقه من السجن، إلى المخابرات لكي يشي، كذبا وزورا، بصديقه ويتهمه بالتورط في عمل “كبير ضد أمن الوطن”، قد يكون عملا إرهابيا.
وفي مشهد من أجمل مشاهد الفيلم وأكثرها تعبيرا عن “رؤية” عبد اللطيف عبد الحميد التي تسخر من المنظومة السائدة، يدخلون عامر إلى شخص قد يكون رئيس المخابرات، يقوم بدوره، إمعانا في السخرية، المخرج عبد اللطيف نفسه بطريقة كاريكاتورية واضحة، ويطلب من مساعده أن يذهب بعامر إلى حيث يمكنه أن يكتب اعترافات كاملة تفصيلية على صديقه.
ويجلس عامر في غرفة خالية إلا من منضدة وأوراق وقلم، يحاول عبثا أن يكتب وأن يروي وأن يختلق قصة مقنعة.
عامر فيما يبدو يفشل في إقناع “النظام” بخطورة صديقه، فيخرج زهير في النهاية ويفقد عامر زوجته سلمى التي تطلب الطلاق منه بعد أن تيقنت من خيانته، كما يفقد ندى التي تعود إلى زوجها.
غير أن الشك يملأ نظرات الزوج، وتشي تصرفاته مع زوجته منذ ما قبل خروجه بتضاؤل ثقته فيها، ويسيطر عليه الإحساس بالتشكك والاسترابة في الجميع بعد أن قضى عقدا من الزمان وراء القضبان.
لقد انتهى الجميع إذن إلى التيه والضياع: فقد الزوج “زهير” زوجته بعد “خيانتها” له، كما فقد الصديق، وفقد عامر الزوجة والعشيقة والصديق، وفقدت الزوجة زوجها، والعشيقة عشيقها وزوجها. لقد أصبحت الحياة بعد خروج السجين أكثر تعقيدا عما كانت.
أسلوب الإخراج
أسلوب عبد اللطيف في الإخراج واقعي تشوبه لمسة شاعرية حزينة، ويتميز بالاهتمام بالتكوين، وتخفيف قتامة الأحداث والأجواء المحيطة بالشخصيات من خلال الأداء الكوميدي أحيانا كما يتمثل في علاقة البطل بشانتاني، الياباني الذي يتعلم العربية، ويبدو أحيانا كما لو كان يعلق بسخرية على الأحداث.
دمشق في الفيلم تظهر بشوارعها وأسواقها وحوانيتها، في مشاهد النهار والليل، متألقة، لكنها تخفي أكثر مما تظهر، بيد أنها حاضرة دوما، فالمكان هنا أساسي، لا يغيب عنا ولا تنفصل عنه الشخصيات، فهو محور الحدث.
في أحد المشاهد، تصل الرغبة المتبادلة بين ندى وعامر إلى ذروتها، يوقف عامر سيارة التاكسي في بقعة صحراوية خارج المدينة، وتنزل ندى من السيارة لترقص رقصا عنيفا بينما يتطلع إليها عامر ويبكي.
ويعقب هذا المشهد مباشرة حدوث الاتصال الجنسي بينهما في بيتها، إلا إن هذا المشهد الذي يأتي بعد تمهيد طويل له في مشاهد عديدة، لم يستطع المخرج أن يجسد من خلاله عنفوان اللحظة، بل جعله قصيرا مبتورا، منعزلا في لقطات قريبة، بدا مهتما في تلك اللقطات، بالتعبير عن الألم والحزن، كما يتبدى على وجه ندى، أكثر من التعبير عن الانتشاء والإشباع، ربما تأكيدا على حُرمة الفعل. ولعله لذلك يجعلها تطلب منه بحدة، بعد أن يكتمل الفعل مبتورا بينهما، أن يغادر المنزل على الفور.
ثقافة المحمول
يعاني الفيلم من بعض الاستطرادات في السرد مثل ذهاب عامر بسيارة التاكسي لتوصيل سيدة ما إلى حلب، بعد أن ألقى بها زوجها في عرض الطريق في منتصف الليل، بعد أن تزوج بأخرى، وهو أمر لا يحدث هكذا في الواقع، وبصفة أساسية، لا يضف شيئا إلى موضوع الفيلم بل يبدو خارج السياق.
ويبدو الفيلم بأكمله كما لو كان تعليقا ساخرا على ما يمكن أن نطلق عليه “ثقافة الهاتف المحمول”، فالهاتف هو البطل الأول هنا، الذي ينظم الاتصالات والعلاقات بين البشر، ويبدو وهو مغلق، أو “خارج التغطية”، أخطر منه وهو “مفتوح”، فكل طلبات الزوجة والعشيقة تتم من خلال “الموبيل”، وكذلك بحث الزوجة عن زوجها، واتصال عامر بندى، واتصاله مع صديقه الذي يرتب زيارة السجين.. ومحاولة زهير ابن عامر (أسماه على اسم صديقه المعتقل) وهو يحاول الاتصال بوالده في نهاية الفيلم لكن الهاتف يكون “خارج التغطية”.
ينجح عبد اللطيف عبد الحميد في إبداع شريط صوتي شديد الحيوية والجمال والرقة من خلال استخدامه للأغاني مثل أغاني فيروز وعبد الحليم حافظ التي تحمل من الشجن بقدر ما تعبر عن الهم والرغبة والشوق والحنين.
أداء الممثلين
ولا شك أن الممثل فايز قزق أدى دوره ببراعة وحيوية واثبت أنه طاقة هائلة، رغم الكاريكاتورية التي شابت أداءه أحيانا، وبدت عائقا ربما، أمام تعبيره عن مشاعر الرغبة والحب.
وتألقت الممثلة فدوى سليمان في دور “سلمى” زوجة عامر، بتعبيرها أولا عن الشعور بالقلق الطبيعي، ورغبتها في الاحتفاظ بزوجها بل وتملكه، ثم تحولها من الوفاء للصديقة “ندى” والتعاطف معها، إلى الغيرة منها ثم الغضب والحقد عليها، ثم لجوئها لتناول الخمر، وسيطرة الهاجس القهري عليها إلى النهاية.
وأدت الممثلة المتألقة ذات الحضور الخاص المميز على الشاشة الصغيرة، صبا مبارك، دور ندى بشكل راسخ ومتمرس، واستخدمت التعبير بوجهها ونظرات عينيها وحركات يديها وجسدها، وعكست الألم والرغبة والندم والحنين كأفضل ما يكون، لامرأة متفجرة بالأنوثة والرغبة في الحب والحياة. ولم يكن مطلوبا للشخصية التي لعبتها أن تتجاوز نطاق الحضور الإنساني، فليس هذا فيلما عن النضال بل عن القهر.
“خارج التغطية” فيلم عن عذاب الروح وعذاب الجسد، عن المرارات التي تتراكم بفعل الطغيان العام، والمكابرة بالباطل فوق البشر، والتلاعب بالمصائر من وراء الأحجبة الثقيلة.. ولا شك أنها رؤية تجعلنا كمشاهدين، نتعاطف مع ضحاياها جميعا، الزوج والزوجة والصديق، بقدر ما نكره ونرفض مضطهديهم والمتسببين في عذابهم.