فيلم “بيت الروبي”.. ذروة التطور الفني في حياة هؤلاء!

د. ماهر عبد المحسن

الحديث عن فيلم “بيت الروبي” والوقوف على مكانته الفنية ضمن أفلام هذا الموسم، يستدعي الحديث عن ثلاث شخصيات مهمة من العاملين بالفيلم، المخرج بيتر ميمي وبطلي العمل كريم عبد العزيز وكريم محمود عبد العزيز.

بيتر ميمي عُرف بالأعمال التي تعتمد على الحركة والإبهار، فقدم في التليفزيون المصري مسلسلات “الأب الروحي” و”كلابش” و’الاختيار”، وقدم في السينما حرب “كرموز” و”كازابلانكا”، وارتبطت هذه الأعمال، عدا الأب الروحي، بالنجم أمير كرارة، الذي أعاد ميمي اكتشافه بعد عدة محاولات تليفزيونية محدودة النجاح جعلت كرارة يقف محلك سر، محتلا موقعا متوسطا في منطقة رمادية من الدراما التلفزيونية. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى اصطبغت أعمال ميمي الأولى بالصبغة الدعائية، خاصة في “كلابش” و”الاختيار”، فأحدهما كان يروج لبطولات الشرطة والآخر كان يروج لبطولات الجيش.

وبهذا المعنى، بدا أن ميمي قد اختار المنطقة الآمنة التي سيقدم فيها أعماله، والتي ستضمن له النجاح مسبقا، التوابل التجارية والدعاية السياسية، أي مغازلة الشباك ومغازلة السلطة، غير أنه، فاجأ الجميع وتخلى عن هذا الاتجاه عندما قرر أن يتخلى عن كرارة وعن الدعاية ويستعين بكريم محمود عبد العزيز في فيلم الخيال العلمي “موسى”، وفيه لم يشأ أن يغازل أحدا عدا محبي السينما على الأصالة المتطلعين لكل ما هو جديد، ومن خلال فكرة لا تخلو من فلسفة أطلق عليها “المستضعفون”.

ولأن تحول ميمي في “موسى” لم يأت وليد المصادفة فقد استمر في الاستعانة بكريم محمود عبد العزيز، لكن في اتجاه الكوميديا الاجتماعية خاصه بعد نجاح “من أجل زيكو”، الذي تلاه بفيلم “شلبي” ووصل إلى ذروة النجاح في “بيت الروبي” عندما نجح في الجمع بين النجم المخضرم كريم عبد العزيز والنجم الصاعد كريم محمود عبد العزيز.

في “بيت الروبي” يجمع ميمي بين الإبهار البصري وبين الفكرة، فنجد كادرات خارجية معبرة عن التفاوت الكبير بين الحياة الهادئة في الصحراء وبين الحياة الصاخبة في المدينة، كما نجد تتبعا للكاميرا لتفاصيل الحياة اليومية في شوارع المدينة وفي مصالحها الحكومية، الذي يعكس عشوائية الحياة وفوضوية التفكير. لم يبالغ ميمي في الاعتماد على الإبهار البصري، لكنه نجح في وضع المشاهد داخل العالمين، الواقعي والافتراضي، بنفس الدرجة. اختياره لموضوع السوشيال ميديا وتأثيرها على حياة الناس يؤكد أنه دائم البحث عن الجديد والمختلف، ما يجعلك تتساءل عن فيلم بيتر ميمي الجديد، ربما يعيبه اعتماده، منذ فيلم “حرب كرموز”، على الكليشيهات السينمائية الجاهزة، لكن تظل الجدية هي أهم ما يميز أعمال ميمي حتى الكوميدية منها مثل “بيت الروبي”.

كريم عبد العزيز أصبح الورقة الرابحة لأي عمل والماركة المسجلة لكل نجاح، ومسيرة كريم السينمائية تضعه على قمة نجوم هذا الجيل، بل يمكنك اعتباره، كما أشار بعض النقاد، الأقرب إلى جيل النجوم الكبار من أمثال نور الشريف وعادل إمام ومحمود عبد العزيز وأحمد زكي. فقد بدأ مسيرته من داخل بيت فني، ووقف أمام الكاميرا، طفلا، بجوار عادل إمام في فيلم “المشبوه”، وظل متأثرا بأداء إمام لسنوات عديدة قبل أن يصطنع لنفسه أسلوبا متميزا ثقلته خبرة السنين وكاريزمته الخاصة. ويمكن اعتبار كريم هو النجم بألف ولام التعريف، لأنه يجيد التلون ما بين التراجيدي والكوميدي، وفي كل الأحوال يظل محتفظا بمذاق خاص يلمسه جمهوره الكبير في أعماله وحتى في لقاءاته التليفزيونية.

ربما يؤخذ على كريم، مثل أبيه الروحي عادل إمام، اعتماده على نجوميته أكثر من قدراته التمثيلية بحيث نجد الكثير من العقد الدرامية يمكن أن يحلها عن طريق عبارات رنانة مباشرة يطلقها كشعارات سحرية تحمل في ذاتها قوة التغيير كما في فيلمي “ولاد العم” و “بيت الروبي”. ولعل في هذا يكمن السبب في أنك لا تتذكر لكريم شخصيات فنية علقت بذهنك عدا شخصية كريم عبد العزيز نفسه التي حفرها في وجدان المشاهدين على مدار سنوات، يستثنى من ذلك شخصية “يحيي” في فيلم “الفيل الازرق” بجزئيه.

بدأ كريم كوميدياً رومانسياً مع موجة أفلام الكوميديا التي انتشرت في التسعينيات، وبرزت من خلالها أسماء محمد هنيدي وعلاء ولي الدين ومحمد سعد وأحمد حلمي، وقدم كريم “حرامية في كي جي تو” و”حرامية في تايلاند” و “الباشا تلميذ” و “أبو علي”، ومع صعود نجم أحمد السقا وتربعه علي عرش أفلام الحركة في الألفية الثالثة يتحول كريم إلى أدوار الأكشن، ليقدم “واحد من الناس” و “خارج على القانون” و “ولاد العم” و “فاصل ونعود”. وبالرغم من النجاح الكبير الذي حققه كريم في فيلمي “واحد من الناس” و “ولاد العم” يقف سوء الحظ أمام فيلم ” خارج على القانون” عندما يعرض في نفس توقيت عرض فيلم “الجزيرة” لأحمد السقا، فيمر مرور الكرام، وأمام فيلم “فاصل ونعود” عندما يتوقف عرضه بسبب ثورة يناير، وإن أصاب الفيلمين شيء من النجاح حين إعادة عرضهما على شاشات التلفزيون.

وفي مرحلة ثالثة يحاول كريم أن يحقق شيئا من التوازن بين أعماله الكوميدية وأعماله التراجيدية، فيقدم مرة عملا كوميديا ومرة عملا تراجيديا، فيقدم في عام ٢٠١٩م “نادي الرجال السري” و “الفيل الازرق ٢” ويقدم في عام ٢٠٢١م “البعض لا يذهب للمأذون مرتين” و”كيره والجن”.

وفي كل الأحوال، يُلاحظ أن مجموع أفلام كريم لم يتجاوز ال ١٥ فيلما، وهو رقم صغير قياسا بعمره الفني في السينما المصرية، والملاحظة أدركها كريم نفسه وعبّر عنها في كلمته التي ألقاها في حفل تكريمه بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته ال ٤٣ عندما ذكر أنه، وجيله، لم يخلص للسينما مثل الأجيال السابقة. والمسألة يمكن أن تجد تفسيرها لدينا في أن كريم يتعامل مع السينما بروح الهواية، أي أنه ليس لديه مشروع يعمل عليه، أو قضية يدافع عنها، أو رؤية شاملة لفن السينما بعامة وموقفه كنجم من هذا الفن عدا كونه محب للسينما ويعمل بدافع من هذا الحب.

ربما لهذا السبب لا تعلق نصف أفلام كريم بالذاكرة، خاصة الكوميدية منها، لأنها صنعت للتسلية، فلا يمكنك أن تتذكر تفاصيل أفلام مثل “الباشا تلميذ” و” حرامية في كي جي تو” و “في محطة مصر” و”نادي الرجال السري” مثلما تتذكر أفلام تراجيدية مثل “واحد من الناس” و”ولاد العم” و”الفيل الأزرق”. في هذا السياق، يأتي فيلم “بيت الروبي” كتجربة مختلفة وذات خصوصية بالنسبة لكريم عبد العزيز.

فالفيلم يناقش قضية مهمة، وشخصية إبراهيم الروبي التي يلعبها كريم شخصية مأزومة، تنبع همومها من الداخل وليس من صالة العرض، فربما يكون إضحاك الجمهور وإسعادهم هو هدف كريم في أفلامه السابقة لكنه ليس الهدف الأول أو الأوحد في ” بيت الروبي”. فنجومية كريم وحدها لن تحل الأزمة، كما كان الحال سابقا، ولكن قدرته على نقل الأزمة للجمهور ولو من خلال الكوميديا. إننا أمام لون من الكوميديا السوداء التي لم يلعبها كريم من قبل، الكوميديا التي برع فيها الريحاني ولم يجاريه فيها أحد حتى الآن!

إبراهيم الروبي أستاذ جامعي تتعرض زوجته لأزمة أثناء عملها كطبيبة بأحد المستشفيات، فيقوم بالسفر، هو وأسرته، للعيش في بيئة صحراوية بعيدا عن صخب المدينة وفضائح السوشيال ميديا، وبالرغم من نجاحه النسبي في عزل حياته بعيدا عن الناس يظهر أخوه الأصغر إيهاب الروبي (كريم محمود عبد العزيز) ويطلب منه العودة للمدينة لاستخلاص بعض الأوراق الحكومية اللازمة لفتح محل كوافير.

ومن خلال رحلة العودة إلى المدينة يتورط إبراهيم الروبي في العالم الذي سبق وأن هرب منه، بل إنه يصير واحدا من نجوم السوشيال ميديا عن طريق المصادفة التي تكشف عن حجم خواء هذا العالم وعبثية الحياة فيه. في هذا السياق، يقدم كريم عبد العزيز واحدا من أفضل أدواره، خاصة في المشاهد التي جمعته بكريم محمود عبد العزيز، فالعلاقة بين النجم المخضرم والنجم الصاعد صنعت نوعا من كيمياء النجاح التي انعكست إيجابيا على الفيلم وبالتالي على الجمهور. ويكفي أن كريم تخلص من شخصية الجان النمطية، وتعامل كأب وكأخ أكبر، في الواقع وفي الفن، وبالرغم من ذلك لم يفقد شيئا من ألقه وجاذبيته التي اعتاد عليهما جمهوره.

أما كريم محمود عبد العزيز فقد بدأ حياته الفنية مبكرا بأدوار صغيرة في بعض الأفلام والمسلسلات، التي قام ببطولتها محمود عبد العزيز الأب، وهو في هذا يشبه كريم عبد العزيز كونه ينحدر من أسرة فنية ودخل الحقل السينمائي طفلا. لكنه خلافا لكريم عبد العزيز كان ينتمي لجيل محمد رمضان وسعد الصغير ومحمود الليثي الذي تربى وترعرع فنيا على أفلام السبكي، التي سادت فترة ما بعد ثورة يناير وتوقفت فيها عجلة الإنتاج السينمائي. وقد نجحت شركة السبكي في استقطاب مجموعة من الشباب الموهوب مثل محمد رمضان وكريم محمود عبد العزيز ومحمد فراج لتقدم من خلالهم أسوأ أفلام تلك الفترة، وهي أفلام تعتمد على خلطة تجارية حملت اسم السبكي كعلامة مميزة للون من السينما متدني المستوى، فنيا وفكريا. وكان من أهم عناصر هذه السينما وجود راقصة ومطرب شعبي وممثل هزلي، وفي هذا السياق لعب كريم محمود عبد العزيز دور الممثل الهزلي في أفلام “حصل خير” و”عش البلبل” و”عمر وسلوى”.

ومن مساوئ هذه السينما أنها صدرت العنف من خلال أفلام محمد رمضان، وصدرت الإسفاف من خلال أغاني سعد الصغير ومحمود الليتي، وصدرت العري من خلال الراقصات خاصة دينا وصافينار، وكان التحدي الذي واجه نجوم هذه المرحلة من الشباب الموهوب هو القدرة على الإفلات من هيمنة هذه السينما، ومحاولة تقديم فن مغاير، وقد تحقق ذلك لرمضان في الغناء، وتحقق لمحمد فراج في الدراما التلفزيونية، كما تحقق لكريم محمود عبد العزيز في السينما.

وبهذا المعني، استطاع كريم محمود عبد العزيز أن يقوم بدور البطولة في واحد من الأفلام الجادة التي أخرجها بيتر ميمي عام ٢٠٢١م، وهو فيلم “موسى”، حيث لعب دور “يحيى” طالب العلوم، العبقري ذهنيا والضعيف جسديا، ما جعله يخترع إنسان آلي يعوض به ضعفه في مواجهة العالم الذي كان يسخر من هذا الضعف ويجعل منه موضوعا للتنكيل. ويعتبر هذا الدور بمثابة الميلاد الجديد أو الحقيقي لكريم محمود عبد العزيز.

وكما نجح كريم في أن يلعب دورا تراجيديا في “موسى” فقد نجح أيضا أن يلعب أدوارا كوميدية في “من أجل زيكو” و “شلبي” و “بيت الروبي”. ولم يسر كريم على خطى والده كما فعل محمد إمام عندما سار على خطى عادل إمام، لكن ملامح محمود عبد العزيز(الأب) بدأت تتضح في أفلام كريم الكوميدية الأخيرة، وإن كان ذلك لم يقلل من إجادة كريم لأداء هذه الأدوار، ومحاولاته الدائمة للخروج من عباءة الأب حتى ولو من خلال اختيار الموضوعات ونوعية الأدوار.

في فيلم “بيت الروبي” تشعر أن كريم يقف على أرض صلبة عندما يشارك النجم كريم عبد العزيز بطولة الفيلم، ويؤدي بثبات من خلال الثقة التي راكمها عبر أفلامه الثلاثة السابقة التي أخرجها بيتر ميمي. فشخصية إيهاب الروبي تتمتع بخفة ظل عالية، وحضور قوي أمام الكاميرا، ويأتي نجاح الشخصية من خلال المفارقة القائمة بين إيهاب الروبي، الأخ الأصغر، الذي يعرف تفاصيل الحياة في المدن وفي الأحياء الشعبية وبين إبراهيم الروبي، الأخ الأكبر، الذي كان يعيش في الصحراء ويتصرف كأنه قادم من كوكب أخر.

إيهاب الروبي فشل في العمل في دول الخليج وعاد إلى القاهرة ليفتح محل كوافير، ولا سبيل أمامه، لإتمام الإجراءات، سوى اصطحاب أخيه الأكبر وأسرته إلى المدينة، بصحبة زوجته الحامل، المهووسة ببرامج السوشيال ميديا. فالمفارقة ليست بين الأخين فقط، لكن بين الأسرتين كذلك. فهناك مجتمع صغير يحيا دون وسائل تواصل اجتماعي ومجتمع آخر لا يستطيع أن يعيش دونها. كريم محمود عبد العزيز كان موفقا في أداء المواقف الكوميدية والدرامية بنفس القدر، وبدا واضحا أنه يتحرك بثبات ووعي، وأنه يسعي لتحقيق إضافة حقيقية لرصيده الفني الذي لم يزل في البدايات، غير أنها بدايات مبشرة إذا قصرناها على مرحلة بيتر ميمي الأخيرة، والتي تم تتويجها بفيلم “بيت الروبي”. فقط يحتاج كريم إلى التخلص من بعض المبالغات في الأداء، والبعد عن التنميط في الشخصيات التي يلعبها، ولعل في تجربة الأب أسوة يمكن أن يتعلم منها الإبن، عندما غير محمود عبد العزيز جلده، وتحول من الأداور الرومانسية النمطية إلى الأدوار الكوميدية والدرامية المتنوعة.

وأخيرا، يعتبر فيلم الروبي من أفضل افلام هذا الموسم، إن لم يكن أفضلها على الإطلاق، من خلال طرافة موضوعه وبراعة مخرجه وتألق نجومه، وفوق هذا وذاك جدية الطرح التي غابت عن معظم أفلام هذا الموسم، وحل محلها التلفيق والاستسهال.

Visited 4 times, 1 visit(s) today