فيلم “الوداع” كذب نبيل وسرد لعالم مفعم بالحياة

عدد قليل من الأفلام هي التي تجعلك تشرد بخيالك لتتخيل أحداث ما بعد النهاية صحيح ان كلمة النهاية قد ظهرت لكنها تعني انتهاء العمل فقط، فداخل العقل الباطن الأحداث مستمرة في شكل تخيلي تتعلق بمدى تقبلك واستقبالك للفيلم.

هذا ما حدث مع الفيلم الصيني الأمريكي (The Farewell) أو(الوداع) للمخرجة الأمريكية من أصل صيني لولو وانج، فالنهايات في الأفلام عادة إما تغيير جذري يحدث، إما إبقاء الوضع على ما هو عليه، وإما العودة لنفس النقطة من جديد أو بمفاجأة تخدع المشاهد وتقلب الموازين.

هناك أفلام قليلة نهايتها تكون بداية لإطلاق العنان حول شكل جديد للأحداث بعد عنوان النهاية، ليس جزء ثان منه لكنه استكمال لتفاصيل يتم استنتاجها نتيجة التعلق الشديد بالعمل أو ما يلمسه داخلك.

في السينما المصرية مؤخرا ينطبق هذا على فيلم “سكر مر” الذي دارت أحداثه خلال يوم رأس السنة في ثلاثة أعوام متتالية وينتهي في يوم رأس السنة للعام الرابع من خلال علاقات متشابكة بين ثمانية أشخاص تتبدل وتتغير، ومن هنا كان إطلاق العنان للعقل الباطن في تخييل اتجاهات تلك العلاقات في شكلها الجديد بعد تتر النهاية والتي لم يتطرق لها الفيلم لكن التأثر الشديد بالأحداث يجعلنا نتخيل هذا.

على تتر مقدمة فيلم “الوداع” تكتب عبارة (الفيلم مأخوذ من كذب حقيقي) وبالمشاهدة يتضح إن الأحداث مبنية على كذبة لكنها كذبة نبيلة تسير في إطارين الأول يعد الإطار العام للفيلم، عن أسرة بيلي وهي فتاة أمريكية من أصل صيني تعيش في الولايات المتحدة الامريكية منذ أن هاجر والديها من ما يقرب 20 عاما.

علاقتها جيدة جدا بجدتها (ناي ناي) التي تعيش في الصين وتأتي لزياتهم بين الحين والآخر على عكس علاقة بيلي بوالديها فهي متوترة فاترة.

تقرر أسرة بيلي العودة إلى الصين بعد علمهم بإصابة الجدة بمرض السرطان ويتبقى لها ثلاثة أشهر فقط، وتتفق العائلة التي تنقسم إلى أسرة هايان والد بيلي وأسرة العم هاي بين الذين هاجروا إلى اليابان، على العودة إلى الصين بحجة إتمام زواج شكلي لإبن العم هاو هاو على صديقته اليابانية إيكو حتى يمكثوا مع الجدة لعدة أيام دون إخبارها بحقيقة مرضها عن طريق التلاعب في نتائج الفحوصات كنوع من أنواع الوداع النبيل.

الإطار الثاني للكذبة يرتبط بالفكرة الرئيسية للحبكة وهي المقارنة بين حياة الصينيين في بلدهم الصين وحياتهم في المهجر مع وضع عنصر أساسي للمقارنة وهو مرض الجدة وكيفية التصرف في الدولتين.

في الصين تعتاد العائلات على إخفاء المرض لعدم إزعاج المريض وتأذيه نفسيا، أما في أمريكا فهذه تعتبر جريمة يعاقب عليها القانون لأنهم يعتبرون إخبار المريض بحقيقة مرضه حق أصيل له.

من هنا كان المدخل حول التشتت الفكري لدى مواطني المهجر بين التكيف مع حياتهم الجديدة في دول المهجر، وبين التمسك بعادات وتقاليد بلد المنشأ، فالوالد هايان والعم “هاي بين” رغم هجرتهما إلى أمريكا واليابان قرابة ال 20 عاما ورفضهما العودة حتى لرؤية الجدة، تظل فكرة تمسكهما بالعادات ليست لأنها متوارثة بل لأن ما يظهر مع الاحداث يؤكد رفضهما لبعض الأمور في دول المهجر لكنهما مضطرين لقبولها بهدف استمرار الحياة.

ارتكزت المخرجة لولو وانج على عنصرين، الأول المقارنة الدائمة حتى في أدق التفاصيل بين حياة ومشاعر الصينيين داخل الصين وفي المهجر حتى على مستوى إجادة اللغة الصينية.

والعنصر الثاني إعطاء مساحة أكبر للعلاقة بين الحفيدة بيلي التي قدمت دورها الممثلة الأمريكية ذات الأصل الصيني (أكوافينا) وبين الجدة ناي ناي التي قدمت دورها (شوزين زهاو) وهي ممثلة صينية رغم تقدمها في العمر إلا إن هذا الفيلم يعد الأول لها،.

العلاقة بين بيلي والجدة ناي ناي كانت جيدة فهما دائمتا التواصل عبر الهاتف وتبدو علاقة بيلي بجدتها أقوى بمراحل من علاقتها بوالديها لهذا كانت بيلى أكثر المتأثرين بمرض الجدة وطبقا لتربيتها الأمريكية كانت ترغب في إخبارها بالحقيقة لكنها تتراجع خصوصا بعد المشهد الذي جمعها بالطبيب (ووه) الذي لم يخبر والدته بحقيقة مرضها أيضا برغم أن دراسته كانت في لندن.

حالة إنسانية

يمثل فيلم (الوداع) حالة إنسانية شديدة الخصوصية لا تتعلق فقط بالمرض بل ترتبط بمشاعر مختلفة مثل دفء العائلة والحنين إلى الوطن الأصلي مهما كانت قسوته لكنه يظل المكان الوحيد الذي يشعر فيه الإنسان بالراحة والأمان حتى لو كانت مشاعر لحظية، فطوال الأحداث كانت المقارنة الثقافية والاقتصادية بين الصين وأمريكا لصالح الثانية وهي الإشكاليات التي تعكس خلفية مخرجة الفيلم وبطلته أيضا.

 تظل المقارنة الاجتماعية تصب في مصلحة الوطن الأصلي بعاداته وتقاليده الموروثة التي ظهرت عن طريق رصد بعض الأمور المتعلقة بالعادات الصينية في الطعام وإقامة الأفراح وزيارة المقابر لكن ظل ارتكاز مخرجة الفيلم على فكرة (الكذب النبيل) كموروث صيني أصيل فقد اكتشفت بيلي أن جدتها أيضا أخفت مرض زوجها حتى لا يتألم في أيامه الأخيرة، ومنذ المشهد الأول أثناء مكالمة بيلي مع جدتها يلجأ الثنائي للكذب حفاظا على مشاعر الآخر فالكذب النبيل موروث ثقافي تحول إلى أمر اعتيادي للصينيين.

المخرجة وكاتبة السيناريو لم تعتمد على الحوار كثيرا لكن بشكل أكبر على نظرات العيون وتعبيرات الوجوه عن طريق استخدام اللقطات القصيرة والمتوسطة خصوصا التي ترتكز على الوجوه فمن نظرات العيون نستطيع تلخيص العلاقات المتشابكة علاقة الجدة والحفيدة، والحفيدة مع الأب والأم، الأم مع الجدة ومع شقيقة الجدة، الأب مع العم، العم مع الجدة حتى على مستوى ضيف الجدة (العم ين)، كل تلك العلاقات تطورت خلال الأحداث .

ومن هنا تأتي فكرة التفكير في ما بعد النهاية، بالتأكيد علاقة بيلي مع والديها ستأخذ مسار آخر، وأيضا علاقة الشقيقان هايان وهاي بين ستكون أقوى، علاقة زوجة مع هايان مع الجدة ستكون أكثر حميمية، غير نظرتهم تجاه شقيقة الجدة وابنتها، التغييرات ستكون مختلفة من شخصية لأخرى لكن يظل أمر واحد يجمعهم كلهم هو الحنين للوطن والعودة لمعنى العائلة.

وصل الفيلم للقائمة النهائية في جائزة جولدن جلوب كأفضل فيلم غير ناطق بالإنجليزية/ فقد خلقت لولو وانج حالة إبداعية بها مزج بين الحزن والمرح،  فيلم فكرته قد تبدو كئيبة وفي نفس الوقت خفيف الظل،  فيلم تدور أحداثه حول المرض وقرب النهاية لكنه مفعم بالحياة.


Visited 89 times, 1 visit(s) today