فيلم “الليلة الأخيرة”.. فلسفة بين الموسيقى وحركة الكاميرا

تختلف الأفلام البوليسية عن الأنواع الأخرى من الأفلام في أن الفيلم البوليسي يستنفد الغرض من مشاهدته بمجرد انتهائه، لأن المشاهد يكون قد توصل إلى حل اللغز، ومن ثم لم تعد هناك حاجة لمشاهدته مرة أخرى، فجماليات الفيلم البوليسي تعتمد، في شق كبير منها، على التشويق والغموض، ويكون للسيناريو، في الغالب، اليد العليا في بناء الفيلم وإدارة دفة الأحداث. لهذه الأسباب، قد لا يهتم مخرجو هذه الأفلام كثيرا باللغة البصرية للعمل ويعتمدون أكثر على الحوار وأداء الممثلين.

خلافا لهذا المبدأ، يمكننا أن نعثر على أفلام بوليسية لا تخلو من جماليات للصورة، ولا تعدم رسائل مضمرة وأبعادا سياسية أو فلسفية، بحيث لا يمل المشاهد مشاهدتها أكثر من مرة، بل لعله يجد نفسه مدفوعا لأن يكرر المشاهدة لإحساسه بأن ثمة أشياء غامضة لم تزل في حاجة إلا إيضاح، أو أن هناك أسئلة مفتوحة مازالت تحتاج إلى إجابة.

ولعل على رأس هذه الأفلام تلك التي أخرجها ألفريد هيتشكوك في السينما العالمية، والتي أخرجها كمال الشيخ في السينما المصرية. وليس أدل على ذلك من أن هذا الأخير بدأ مسيرته الإخراجية بفيلم “حياة أو موت” وهو فيلم تشويق محمل بدلالات فلسفية، وانهي هذه المسيرة بفيلم “قاهر الزمن” وهو فيلم خيال علمي يقوم، أيضا، على فكرة فلسفية، وهي فكرة الخلود.

ومن الأفلام التي تحققت فيها الرؤية الجمالية والفكرة الفلسفية، فيلم “الليلة الأخيرة” الذي أخرجه كمال الشيخ عام ١٩٦٣م، وقام ببطولته فاتن حمامة وأحمد مظهر ومحمود مرسي. وترجع شهرة هذا الفيلم لدى المشاهد العربي من غرابة الفكرة، التي كتب لها القصة والحوار يوسف السباعي، عن رواية “المرأة المجهولة” للكاتبة مارجريت واين، وجماليات موسيقاه التصويرية المميزة   للموسيقار الأمريكي هوجو ولترهلتر.

وبالرغم من أن أحدا، في الغالب، لم يقرأ رواية مرجريت الأصلية إلا أن الغالبية العظمى من المشاهدين، من مستمعي الإذاعة المصرية، كانت قد اعتادت أن تسمع موسيقي ولترهلتر في برنامج “في طريق النور” الذي كان يقدمه الشاعر فاروق شوشة في البرنامج العام قبيل صلاة الجمعة من كل أسبوع.

والحقيقة أن ارتباط موسيقا الفيلم ببرنامج ديني ساهم في إضفاء بعدا روحيا على مشاهد الفيلم، خاصة تلك المحملة بدلالات ميتافيزيقية مثل مشهد زيارة المقابر، وسهلت على المُشاهد الدخول إلى الجو النفسي للفيلم والتفاعل مع بطلته التي كانت تكافح من أجل إثبات هويتها الضائعة وسط عالم يصر على أن يعاملها بوصفها شخصية أخرى غير شخصيتها الحقيقية!

لا شك أن سؤال الهوية يمس قضية فلسفية بامتياز، وأن الفيلم بهذا المعنى يحق أن يندرج تحت الأعمال السينمائية الفلسفية، أو ذات البعد الفلسفي على أقل تقدير. فالأحداث تدور حول شخصية نادية برهان (فاتن حمامة) التي تصحو من نومها ذات يوم لتكتشف أن العالم كله من حولها يعاملها باعتبارها شخصية أخري لها زوج وابنه على غير الحقيقة، وأنها تحمل اسم اختها التي ماتت منذ خمسة عشر عاما.

يقدم كمال الشيخ الفكرة في قالب تشويقي بوليسي، ولا يعتمد على الحوار فقط في طرح قضيته الفلسفية، لكنه يعبّر بالصورة عن فكرة الفيلم الأساسية، وهي مسألة لا نشاهدها كثيرا في السينما المصرية، خاصة في زمن عرض الفيلم الذي جاوز النصف قرن. فكيف نجح كمال الشيخ في تحقيق ذلك؟

على مستوى الصورة، هناك ست حركات للكاميرا ذات أهمية خاصة في التعبير عن فكرة الهوية، خمس منها جاءت في الثلث الأول، والأقوى سينمائيا، من الفيلم. الحركة الأولي كانت في المشهد الافتتاحي بعد التتر مباشرة، وهو مشهد خارجي للفيلا التي تعيش فيها نادية، عمد الشيخ إلى أن يجعله ثابتا، أثناء تتر البداية، على خلفية موسيقى ولترهلتر، دلالة على توقف الزمن في لحظة مفصلية من حياة شخوص، لم نتعرف عليها بعد، سوف تستأنف مسيرتها بعد قليل. الموسيقى لا توحي بجو بوليسي يهيئ المشاهد لحركة خارجية، لكن، على النقيض، توحي بحركة داخلية وبحياة يكتنفها شيء من الغموض الميتافيزيقي الذي يغلف الأفكار والمعاني الكبرى. حركة الكاميرا حول الفيلا مع صوت فاتن حمامة الذي يؤكد على تاريخ اليوم (٥ أكتوبر، سنة ١٩٤٢) يحددان المكان والزمان الذي ستدور فيهما الأحداث.

 الحركة الثانية تأتي في المشهد التالي مباشرة، عندما تصحو “نادية” من نومها وتكتشف أنها تنام في غير غرفتها، فوق سرير يخص امرأة أخري. وتتبدى أهمية الحركة في هذا المشهد عندما تحل محل عينيي الشخصية، وتبدأ في تفحص أشياء الغرفة لترصد تفاصيل صغيرة لا تخصها. إن نادية في هذا الموقف تقف كذات مغتربة تجاه عالم لا تشعر تجاهه بأي انتماء.

والمسألة تتجاوز المعنى البوليسي للاختطاف، أو الدلالة الاجتماعية للتيه والضياع، لتصل إلى مستوى الأزمة الوجودية. فالوعي الذي تتحدث به نادية لا يصمد كثيرا أمام التفاصيل الكثيرة التي تهدم معتقداتها الذاتية الراسخة، بدءا بالمكان والزمان، وانتهاء بالملابس التي لا تشعر أنها تخصها، مرورا بالشخصيات الغريبة التي تتحرك بحرية، فتدخل الغرفة وتخرج منها غير عابئة بموقفها الغارق في الخجل باعتبارها امرأة غريبة تنام فوق سرير رجل غريب!

إن المعنى العميق الذي يمكن استخلاصه من هذا المشهد، هو أن علاقتنا بالعالم هي التي تحدد هويتنا الحقيقية، وأن انهيار هذه العلاقة من شأنه أن يهدد الهوية، فالذي يضمن لذاتيتنا التماسك والثبات هو بقاء الأشياء والأشخاص التي ننتمي إليها بالقرب منا، وإلا فإن الشعور بالاغتراب سيكون هو الخيار البديل، وهو شعور تزداد وطأته إذا ما وجدنا أنفسنا متورطين في حمل هوية أخرى لا تخصنا، وشعرنا أن الآخرين يتطوعون، بوعي أو دون وعي، لسبب ما، مشروع أو غير مشروع، لإعادة بناء علاقات جديدة بعالم لم نكن ننتمي إليه. وتلك كانت أزمة “نادية” التي وجدت نفسها تلعب دور الأخت “فوزية” مرغمة، حتى تمضي حياة الآخرين في سلام، أو بمعني وجودي، لكي يحتفظ العالم من حولها بتماسكه حتى لو كان ذلك على حساب هويتها المتداعية!

الحركة الثالثة تأتي في المشهد الذي تذهب فيه “نادية” إلى حي جليم مسقط رأسها بالإسكندرية في محاولة للعثور على والدها والبيت الذي تربت فيه، فهذا هو عالمها الذي تنتمي إليه وتشعر بوجودها وكينونتها الحقيقية بداخله. في هذا المشهد تستقل “نادية” سيارة أجرة، ومن خلال المقعد الخلفي تحل الكاميرا، مرة أخرى، محل عيني الشخصية وتقوم بعملية مسح بصري لمفردات الشارع، التي هي في الحقيقة مفردات العالم الذي يرتبط به وعي نادية، المدرسة والجامع وكشك السجائر. ونادية هنا تريد أن تتحدى الزمان بالمكان، أن تسقط من وعيها خمسة عشر عاما لم تعشها ويُراد لها أن تعترف بوجودها في ماضيها الذي لا تتذكر منه شيئا. فالمكان هو الحاضر الأكثر صلابة، والأب الغائب الحاضر، الذي يرمز إلى الأصل، هو الذي يملك مفتاح اللغز، الإجابة الوجودية حول معنى الهوية الحقيقية. فعندما تتعقد المصائر ينبغي العودة للبدايات، هكذا كانت تدرك نادية وتفكر، غير أن منطق التشويق الدرامي يأبى إلا أن يطفئ شعلة الأمل التي أضاءت للحظات في وعي نادية، لتجد أن منزل الاب اختفى وحلت محله بناية كبيرة متعددة الطوابق، وعندما تسأل البواب وبائعة الكشك عن بيت الأب لا يذكران سوى أنه كان أرض خلاء تُعرف باسم “أرض برهان”، فالحقيقة صارت ذكرى مشوشة، والهوية باتت معلقة في حاضر منبت الصلة بالماضي.

الحركة الرابعة نجدها في المشهد التالي الذي تذهب فيه “نادية” إلي منزل “صلاح” الحبيب والخطيب السابق لنادية، وفيه تتحرك الكاميرا في ممر طويل ينتهي بحديقة تصطف فيها الأشجار بنحو يجمع بين الغموض والجمال، وتلمح نادية “صلاح” واقفا على سلم خشبي ويقوم بتقليم أحد الأشجار بنحو يشبه الحلم، وعندما تقترب الكاميرا أكثر يتبدى صلاح، ككيان حي، بنحو أكثر وضوحا. وهنا تشعر “نادية”، ولأول مرة، أنها تلمس شيئا من الحقيقة الضائعة يتجسد أمامها، وأنه لم يبق أمامها سوى خطوة واحدة تفصلها بين الموت (شخصية فوزية) والحياة (شخصية نادية). فإذا كان الأب هو رمز الأصالة التي تؤكد الهوية، فإن “صلاح” يرمز إلى الحب الذي يؤكد الهوية أيضا، غير أن عاطفة الأب تتجه إلي الماضي وعاطفة الحبيب تتجه إلى المستقبل>

 وبالرغم من أن كلاهما صار ماضيا إلا إن وجود صلاح في الحاضر كحقيقة ملموسة، لا كمجرد فكرة مثل حضور الأب، هو ما جعل “نادية” تشعر باقتراب أزمتها الوجودية من الانفراج. فهي بالقطع ليست واهمة أو مريضة، فقط تحتاج إلي حقيقة واحدة حية تنتمي إلى عالمها الذي سقط من الوعي واستبدل به عالم آخر.

وبنفس منطق التشويق، لا يتعرف “صلاح” على “نادية” في البداية، وينكر صلته بها، غير أنه يعود ليتذكرها بوصفها شخصية أحبها ذات يوم قبل أن يغيبها الموت في حادث أليم، ويذكر لها أنه عانى كثيرا من جراء هذا الحادث، غير أن الزمن جعله ينسى آلامه ويتزوج وينجب أطفالا، فقد خرج “صلاح” من عالم “نادية” من بوابة النسيان، واستطاع أن يعيد بناء عالمه بنحو جديد. وفي هذا ما يفسر لنا تلك النظرة المحايدة التي تبدت في عيني “صلاح” طوال اللقاء، والتي تبدت كذلك في عيني “نادية” في نهاية اللقاء، فكلاهما صار ينتمي لعالم مختلف عن الآخر، ومن ثم أصبحا كالغرباء.

الحركة الخامسة، وهي الأكثر حسما في رحلة “نادية” للبحث عن الذات، تتبدى في مشهد مدافن المنارة عندما ذهبت “نادية” لتتعرف على الجثمان الذي يرقد في القبر، هل يخص “نادية” أم “فوزية”؟ وفيه تتحرك الكاميرا من داخل المدفن، وتدور من خلف جذوع الأشجار، ومن خلف الأعمدة المهيبة، لترصد حركة “نادية” وخطواتها السريعة تجاه مقبرة العائلة، وهي الخطوات نفسها التي قطعتها تجاة منزل الأب، وتجاه منزل “صلاح” في محاولة دؤوبة للوصول إلى الحقيقة. وتأتي حركة الكاميرا على خلفية موسيقي ولترهلتر ذات البعد الروحي، وكأن العالم الميتافيزيقي الذي يكتنف المكان ويحمل الحقيقة المروعة، يرقب حركة “نادية” ويدخر لها المفاجأة الكبرى، أن “نادية” هي التي في القبر!

وهنا يعود التساؤل الوجودي ليتردد بقوة داخل وعي “نادية” “أمال أنا أبقى مين؟!”. لا تجد “نادية” مفر من الإذعان لحقيقة تخالف كل ما تعرفه وتشعر به، حتى تجاه نفسها وهويتها، أنها “فوزية”. فالهوية هنا “هوية إذعان” فرضها الأمر الواقع. والسؤال الأعمق الذي تطرحه حركة الكاميرا بين شاهد القبر الذي يحمل اسم “نادية برهان” وبين وجه “نادية” المذهول، أين تكمن الهوية الحقيقية؟ في الاسم أم في الشخصية؟ بعبارة أخرى: هل الهوية مسألة رمزية أم واقعية؟ هل هي علاقة رسمية مستندية أم شعور داخلي؟

يتجاوز الفيلم هذه التساؤلات ليقدم لنا صورة مختلفة للهوية، في نهاية الأحداث، عندما تقرر “نادية”، بالرغم من إثبات هويتها الحقيقة، أن تستمر في الحياة بوصفها “فوزية” من أجل “سامية” الابنة، خاصة بعد موت الزوج الشرير في حادث، وتطلب من طبيبها المعالج أن تظل حقيقة “نادية” سرا بينهما، على أن تظل “فوزية” أمام الناس. فإذا كانت الهوية لا يمكن أن تكون معنى يفرضه الآخرون على الأنا، إلا أنها يمكن أن تكون دورا يختار الإنسان أن يؤديه.

وفي حركة أخيرة، ترجع الكاميرا إلى الوراء، تاركة نادية مع طبيبها المعالج بعد أن قررت أن تكون “فوزية”، وكأن الكاميرا نوع من الميكروسكوب الذي كشف عن أزمة “نادية” عندما اقترب من وعيها في لقطات مكبرة في بداية الفيلم، ثم ابتعد في نهاية الفيلم عن الشخصية لتبدو من بعيد وكأنها “فوزية”، ما يعني أن الحياة مليئة بالبشر الذين يحملون هوية، ويختارون أن يمارسوا حياتهم بهوية أخرى، رغبة في تحقيق قدر من التوازن النفسي، أو حفاظا على نظام العالم من الانهيار!

Visited 48 times, 1 visit(s) today