فيلم “العائد”.. ذلك البحث الإنساني الشاق عن النجاة

أخيرا أنجز المخرج اليخاندرو جونزاليس إيناريتو مشروعه الكبير “العائد” The Revenant الذي التهم ميزانية تجاوزت 160 مليون دولار، بعد أن أصر على تصوير الفيلم في الأماكن الطبيعية، في الغابات والسهول والجبال التي تغطيها الثلوج مصورا المشاهد التي تدور في المناطق الطبيعية خارج مستعمرات الغرب الأمريكي في عشرينيات القرن التاسع عشر، أي في زمن الاكتشاف والمغامرة والرغبة في تحقيق الثراء عن طريق البحث عن الذهب، أو كما في حالة فيلمنا هذا، صيد الحيوانات والحصول على الفراء الثمين.

تقول العناوين الأولى التي تظهر على الشاشة في بداية الفيلم، إن قصته مأخوذة جزئيا من رواية مايكل بونكي التي صدرت عام 2002، والتي تعتمد بدورها على شخصية حقيقية هي شخصية “هيو غلاس” Hugh Glass (يقوم بالدور ليوناردو ديكابريو) صائد الحيوانات الذي يعمل لحساب شركة أمريكية متخصصة في تجارة الفراء، والذي يقود مجموعة من زملائه، لاكتشاف الأماكن الجديدة وسط الغابات القريبة من نهر ميسوري في الغرب الأمريكي، مما يعرض تلك “البعثة” لمواجهات عنيفة مع السكان الأصليين كما نشاهد في المشاهد الأولى المؤثرة من الفيلم.

يضل “هيو غلاس” طريقه بعد أن يبتعد عن جماعته داخل الغابة، ليجد نفسه أمام دب عملاق يهاجمه بوحشية، ويدور صراع ضار بينهما، ينتهي بأن يقتل غلاس الدب ولكن بعد أن يكون قد أصيب إصابات خطيرة تعجزه عن الحركة والكلام. يعثر زملاؤه عليه، ويلحق به ابنه من زوجته التي نعرف أنه فقدها بعد أن قتلها رجال البعثات الاستكشافية لكونها من السكان الأصليين. ينقلونه إلى حيث يمكن تضميد جراحه لكنه يبدو مشرفا على الموت. يُكلف زعيم المجموعة اثنين هما جون فيتزجيرالد (توم هاردي) والشاب جيم برديجر (ويل بولتر) بالبقاء مع “غلاس”، مقابل مبلغ من المال، لكي يقوما بدفنه بعد وفاته المرتقبة، بينما تغادر المجموعة المنطقة وتتفرق من أجل النجاة من السكان الأصليين الذين يعتبرونهم لصوصا، سرقوا أرضهم وخيولهم ودمروا مستعمراتهم.

ينجو “غلاس” من غضب الحيوان ليدفع ثمن الحقد المخيف الذي ينهش قلب زميله الإنسان، “فيتزجيرالد” الشرس الذي يقتل الإبن، ثم يدفن غلاس رغم أنه مازال حيا، ويهرب مع بريدجز مهددا إياه بالقتل إذا خالف تعليماته.

يتمكن “غلاس” من التغلب على بعض جروحه، ويتحامل على نفسه ويزحف ببطء، بعد أن يستر جسده بجلد دب من تلك التي الجلود التي تركها وراءهم زملاؤه، ومنذ تلك اللحظة نتابع رحلة غلاس الشاقة من أجل الخلاص، أو النجاة من المصير المأساوي، ثم الانتقام ممن كان وراء مأساته المركبة.

خلال الطريق، الذي يتدرج من الغابات الى الأنهار والسهول التي تغطيها الثلوج، في درجة حرارة تحت درجة التجمد، يلتقي غلاس بزعيم قبيلة من السكان الأصليين يبحث عن ابنته التي اختطفتها جماعة من المستكشفين الفرنسيين الذين يعسكرون في الغابة، يساعده الرجل في تضميد جروحه باستخدام وسائل الطب الطبيعي، ثم يتركه فيواصل غلاس مقاومته الشديدة لما حل به، ويواصل رحلته نحو النهاية الدامية، عندما يتمكن أخيرا من تحقيق انتقامه.

مفاجآت الفيلم

الخط الروائي في الفيلم بسيط، فليست هناك تعقيدات درامية وشخصيات متعددة، ولكن هناك الكثير من المفاجآت، أكبرها بالطبع مشهد تلك المعركة الشرسة بين غلاس والدب الضخم الذي يهاجمه، وهو مشهد يستغرق خمس دقائق كاملة على الشاشة. يبدأ المشهد بغلاس في الغابة بعد أن ابتعد عن رفاقه، يبحث عن صيد بين الدببة الكثيرة المنتشرة في المنطقة، تدور الكاميرا معه 360 درجة، وهو يرصد الدب بالقرب منه، ثم يصوب بندقيته نحوه إلا أن الدب يهاجمه ويسقطه أرضا وينهش لحمه ويغرز أنيابه في جسده، بينما يحاول غلاس المقاومة، ثم يقفز الدب فوق جسده تماما، وتستمر هذه اللقطة- المشهد لمدة 4 دقائق، دون قطع، ينتقل خلالها المصور من الأحجام العامة إلى المتوسطة ثم القريبة والقريبة جدا، في إيقاع شديد الحيوية ومشهد غير مسبوق في السينما، يجسد الصراع الأزلي بين الإنسان والحيوان. إنه ذلك “العقاب” الذي تنزله الطبيعة بالإنسان بسبب اعتدائه على غيره من الكائنات البريئة.

وبعد أن يتمكن غلاس من سرقة حصان من رجال البعثة الفرنسية، يهرب به فيتعقبونه، وفجأة يسقط الحصان من فوق ربوة جبلية في هوة عميقة في الأسفل، وبذلك ينجوغلاس من مطارديه بعد ان يسقط فوق كتلة من الجليد، بينما يُقتل الحصان على الفور بعد أن يرتطم بالأرض. وفي أحد أجمل مشاهد الفيلم، في الليل، تحت الجليد ومع بلوغ درجات الحرارة حدها الأدنى، يشق غلاس بسكينه بطن الحصان الميت (نرى اللقطة من الطرف الآخر من جسد الحصان) ثم يدخل يده داخل تجويف جسد الحصان لينتزع أحشاءه الداخلية ويلقي بها خارج الجثة، ثم يدخل بجسده كله داخل جلد الحصان ليرقد محتميا من شدة البرد.

مناطق الجمال

يكمن جمال هذا الفيلم في قدرة مخرجه على تصوير العالم تصويرا يجعلنا كأننا نتعرف عليه للمرة الأولى، الأرض والسماء، الأنهار والجبال والسهول والحيونات والطيور، إنها رحلة الإنسان نحو المعرفة، والثمن الذي يتعين عليه أن يدفعه بسبب اعتدائه الفظ على الطبيعة والحيوانات وعلى السكان الأصليين. ويعمد المخرج إلى تجريد المكان ليمنحنا إحساسا بأننا نشاهد بدايات الخلق، مصورا بحساسية نادرة علاقة الإنسان بالطبيعة وبالحيوان وبأخيه الإنسان، في صراعه بين الخير والشر، مصورا رغبته التي لا تهدأ في الانتقام، مبرزا أقوى غرائز الإنسان التي غرسها الله فيه، غريزة حب البقاء، أي إصراره المدهش على النجاة.

إن فيلم The Revenant (ومعناها “العائد من الموت”)، فيلم عن الألم، وعن الرغبة في البقاء، عن قدرة الإنسان الهائلة على مقاومة قسوة الطبيعة، وتحقيق النجاة، أحيانا، بفعل نوع من المعجزات أو تصاريف القدر، والفيلم بذلك يبدو قريبا من حيث تجريديته وأسلوبه الطبيعي، من فيلم “الخلاص” (1972) لجون بورمان، ولكنه من ناحية أسلوب التصوير يذكرنا في الكثير من مشاهده، بفيلمي “العالم الجديد” (2005) و”شجرة الحياة” (2011) لتيرنس ماليك، ولا غرو في ذلك، فمدير التصوير هو نفسه، إيمانويل لوبيزكي الذي صور فيلم إيناريتو السابق “بيردمان” وحصل عنه على جائزة الأوسكار.

لوبيزكي يجعل الفيلم قصيدة بصرية بديعة عن علاقة الإنسان بالطبيعة، وهو يحرص- مع إيناريتو بالطبع- على أن يبدأ معظم مشاهد الفيلم، بلقطة عامة من زاوية منخفضة تتطلع إلى أشجار الغابة التي تشكل تكوينات بصرية مدهشة في تآلفها وتعانقها معا واحاطتها بقلب اللقطة، أو إلى السماء الزرقاء التي تتحرك فيها السحب البيضاء، ثم يحرك الكاميرا تدريجيا إلى أسفل ليتابع حركة الأشخاص أو انتقالات بطل الفيلم في المكان. وكثيرا ما يستخدم الحركة الدائرية للكاميرا في لقطات محسوبة جيدا، ليس فقط من أجل الإحاطة بالمكان، بل لتأكيد الإحساس بالخطر، بالمفاجأت التي يمكن أن تبرز فجأة، بالسيطرة المطلقة للطبيعة وهيمنتها على الإنسان، وبتجسيد الإحساس بالحصار الخانق الذي يواجهه البطل خلال رحلته نحو النجاة، يستعين تارة بتناول قطعة من لحم حيوان نافق، أو استخراج بعض الأعشاب الطرية، يمضغها في لهفة لكي تمنحه بعض طاقة تكفل له مواصلة طريقه.

الأداء التمثيلي

بعد مرور أكثر من ساعة من زمن الفيلم البالغ 156 دقيقة، يقف غلاس قرب النهر يمسك غصن شجرة ويصوبه كأنه بندقية، في اتجاه سرب من الوعول يعبر النهر سباحة، تتحرك الكاميرا معه وهو يحرك الغصن الخشبي وكأنه بندقية، وكأنه يحلم باصطياد أحد هذه الحيوانات ليصنع منه وجبة شهية. وفي اللقطة التالية مباشرة يجلس فوق الأرض الصخرية قرب النهر، ينحت حروفا على الأرضية الصخرية، ثم يسمع أصواتا بشرية فينتبه ويرفع رأسه إلى أعلى، تقترب الكاميرا منه تدريجيا لتنتقل من لقطة متوسطة يظهر فيها النهر في الخلفية الى لقطة قريبة لوجهه فقط مع ازدياد توتره بعد ان أصبح الصوت البشري قريبا منه، يزحف بسرعة مختبئا بجانب السياج الصخري، يلمح اثنين من راكبي الجياد، على الضفة القريبة، تتحرك الكاميرا مبتعدة عنهما لتعود نحو غلاس وهو يتراجع زحفا الى الوراء ثم تتركه لتتحرك في الاتجاه العكسي مرة أخرى لنرى رجلا يسير على قدميه بالقرب منه بينما ينتظره الفارسان على مقربة.. تبتعد الكاميرا في حركة سريعة عن الرجل في اتجاه النهر، تمسح صفحة الماء بسرعة قبل أن تدور لتستقر مجددا على وجه غلاس، وهو يجذب زمزمية الماء بيده ويتراجع زحفا الى الوراء مبتعدا عن المكان والكاميرا تتحرك معه تتابعه في حركته المتراجعة داخل مياه النهر، ثم تقترب منه وهو يختبيء خلف حاجز صخري في لقطة قريبة.. يسمع غلاس صوت رجل من السكان الأصليين صادر من أعلى فترتفع الكاميرا تدريجيا، لنرى رجلا ثم رجلا آخر وكلاهما يحمل سلاحا، ثم تهبط الكاميرا لنرى رجلا ثالثا في الأسفل يلمح غلاس، فيصيح بينما يتراجع غلاس بسرعة داخل مياه النهر، وتغوص الكاميرا معه داخل الماء في حركة مهتزة تعكس توتره ورعبه. يستغرق هذا المشهد وهو مصور في لقطة واحدة تمتليء بالحيوية والحركة، أكثر قليلا من دقيقتين. يسبح غلاس تحت الماء لينجو من رمح صوبه أحدهم نحوه، ثم يغوص في مياه النهر عند منطقة شلالات متدفقة، وهو مشهد يؤديه ديكابريو نفسه دون بديل، كما يفعل في معظم مشاهد الفيلم التي يبذل فيها أكبر جهد بشري بذله ممثل في فيلم سينمائي، في أداء عبقري، من خلال مشاهد ولقطات طويلة تتابعه فيها الكاميرا وتقترب منه لنرى كيف يتحكم في مشاعره وانفعالاته وتعبيرات وجهه والتحكم في حركة جسده ببراعة مثيرة للإعجاب.

ربما يكون “العائد” أكثر توحشا، وأقل شعرا من فيلم “العالم الجديد” لماليك، وربما يعاني من الإفراط بعض الشيء في طوله، وربما كان في حاجة إلى مزيد من التحكم في بعض مشاهده وجعلها أكثر انضباطا، مع ضبط المشاهد التي يظهر فيها الممثل الإنجليزي توم هاردي (في دور فيتزجيرالد) وهو يغالي كثيرا في التعبير عن انفعالاته، كما يمضغ الكلمات ويلوكها في فمه بحيث يستحيل فهم ما يقوله، ولاشك أن المخرج يتحمل مسؤولية هذا العيب بعد أن تركه يؤدي كيفما اتفق، مما أفسد دوره تماما.

ورغم الملاحظات السابقة تظل البنية التشكيلية في فيلم “العائد” هي الأكثر بقاء في الذاكرة، وتظل فكرة النجاة وحب البقاء مرتبطة بأداء ليونارديو ديكابريو في هذا الفيلم الذي تجاوز كثيرا فيلم “الخلاص” لبورمان في مناظره الطبيعية. ورغم اختلافه الواضح عن أفلام إيناريتو السابقة التي منحته شهرته العالمية، إلا أنه سيظل دون شك، المغامرة الأكبر في تاريخ هذا السينمائي الكبير.

Visited 65 times, 1 visit(s) today