فيلم “السيد تيرنر”.. غرابة الفن وطموح العبقرية
اختار المخرج الانجليزي مايك لي الرسام الانجليزي الشهير جوزيف مالورد ويليام تيرنر كي يقدم سيرته في فيلمه الجديد ” السيد تيرنر” Mr Turner، وصنع مايك لي فيلما يمكن تصنيفه ضمن فئة السيرة الشخصية إلا أنه فيلم شديد الغرابة والاختلاف مقارنة بأفلام السيرة الشخصية التي نألفها ونعتاد عليها.
ويليام تيرنر رسام رومانتيكي عاش في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، ولد في لندن لأسرة فقيرة مكونة من أب يعمل في الحلاقة وصناعة الشعور المستعارة، وأم أصابها الجنون ثم انتقلت لاحدى المستشفيات حيث توفيت في النهاية.
يبدأ الفيلم بعد أن أصبح تيرنر رساما مشهورا متخطيا بذلك الفترة الأولى من حياته حيث النشأة والنبوغ والمعاناة ثم التقدير، تحديدا منذ عودته من الرحلة التي قام بها لكثبر من بلدان أوربا (إيطاليا وهولندا وفرنسا) وفي يده دفتر الاسكتشات يتأمل في الطبيعة ويرسم بعض الخطوط ويأسر الكثير من الانفعالات.
يتناول السيناريو السنوات الأخيرة من حياة تيرنر وهي الفترة التي تحول فيها تدريجيا من الرسم التاريخي الواقعي المهتم بالتفاصيل الدقيقة الذي أكسبه شهرته الواسعة في البداية، إلى الرسم التعبيري الانطباعي المهتم بالأحساسيس الداخلية في لحظة معينة، وهو في كل أحواله رسام رومانسي مولع بتصوير البحر والعواصف والمراكب والصيادين، ويمتاز بكل خصال الفنانين الرومانسيين الثائرين على القواعد والقوالب الفنية الجامدة مثل الألفة مع الطبيعة والغرابة بين البشر، والبحث الدائم والمستمر نحو اللامتناهي والغامض داخل النفس البشرية والطبيعة ، و الميل للانعزال والوحدة، وجمود الملامح التي تخفي وراء جمودها أي شيء وكل شيء ، والإحساس الداخلي العميق بالغرابة والعبقرية ، والقدرة على التشبع بروح العصر والرؤية الصادقة للتطور والاختلاف في أزمنة الانتقال العنيفة من حقبة تاريخية لآخرى وذلك حتى قبل أن يشعر به الآخرون .
غرابة الشخصية
تيرنر- كما يقدمه الفيلم- شخص غريب المنظر، قليل الكلام، حاد الطباع، نبرة صوته غليظة وغير مفهومة أقرب ما تكون للحشرجة، لا يبدي أي اهتمام للعلاقات الانسانية وللعادات المجتمعية المألوفة. عندما تزوره زوجته المنفصل عنها مع إبنتيه، يبدوعليه الضيق والغضب والنفور كما لو كان لا يعترف بزوجته ولا بأولاده، وعندما يتم سؤاله في أحد مشاهد الفيلم عما إذا كان لديه أولاد يجيب بالنفي باصرار ودون تفكير.
يمارس تيرنر الجنس مع خادمته المشوهة بطريقة أقرب للاغتصاب، ولا يبدي أي اهتمام بها وهي التي تعاني من مرض جلدي يتفاقم مع الوقت، فهي بالنسبة له أقرب للشيء الذي يستخدمه دون أن تنشأ علاقة حقيقية بينهما من ناحيته. وفي احدى زيارته لمدينة مارجيت يتخذ عشيقة ثالثة هي صاحبة المنزل الذي يستأجر فيه احدى الغرف المطلة على البحر كي يرسم اسكتشات المناظر المائية المفضلة لديه، وتبدو تلك العلاقة الأخيرة حقيقية إلى حد ما مقارنةً مع العلاقتين السابقتين وبها بعض الدفء والتقدير مثلما يكون بين زوجين كبيرين في السن.
ومع ذلك لديه علاقة خاصة جدا مع أبيه الذي آمن به وبموهبته، ونرى الأب يعمل مساعدا له في الاستديو الخاص بالرسم ويقوم بشراء الألوان وتجهيزها، ويصطحب الزائرين لمشاهدة اللوحات في المعرض الملحق بالاستديو، ويقوم أيضا بعملية بيع اللوحات.
تيرنر رغم جموده وغرابته وقسوته وعدم اهتمامه الظاهر بالناس الذين يحيطون به في أغلب مشاهد الفيلم وخصوصا مشهد وفاة أبيه، ومشهد معاتبة زوجته بسبب عدم حضوره جنازة ابنته الصغرى، إلا أننا نحس في أفعاله ومن حالة الفيلم العامة شيئاً أعمق مدفوناً تحت السطح والجمود؛ نلمس بداخله تقديراً عميقا للحياة وامتلاء خفيا بالطموح وشغفاً حقيقيا بالجمال. فهو يبكي بدون سبب وهو يرسم رسما لعاهرة وهي تتعرى في مكان مخصص للدعارة، ويتنازل عن المال الذي يدين به أحد الرسامين المنافسين، ويقول له عندما يراه يائساً بسبب كثرة ديونه “الألم الذي تعانيه يخصك وحدك، لا تعكسه على الذين تحبهم.. ونشعر بداخله إحساسا عميقا بالإشفاق على هذا الفنان اليائس الذي يمتلك طموحا كبيرا وموهبة متواضعة ولا يستطيع أن يحصل على اعتراف الناس بذوقه وفنه ورؤيته مما يجعله غريبا هو الآخر، وعندما يعرض أحد الأثرياء على تيرنر شراء كل أعماله بمبلغ 100 ألف جنية وهو مبلغ كبير جدا وقتها، يرفض ويقول إن لوحاته يجب أن تكون ملكا للشعب الانجليزي!
جوهر الفن الرومانسي
سيناريو مايك لي مكتوب بطريقة تحاول أن تعبر عن جوهر الفن الرومانسي المتمرد على كلاسيكية الشكل والبناء حيث لا توجد بداية ومعاناة ونهاية كعادة أفلام السيرة الشخصية أو صعود وهبوط أو تصاعد معين للأحداث أو حتى ارتباط بين اللقطات المتتابعة (ربما نستثني تتابع لقطات النهاية)، ولا يهتم السيناريو بالتوضيح والشرح والبناء، كأنه لا يهتم بالمشاهدين وخلفيتهم عن تيرنر أو العصر الذي يعيش فيه والأجواء التي تحيط بطبيعة عمل رسام في ذلك العصر.
فالأحداث تبدأ وتدخل مباشرة في اللحظة التي اختارها مايك لي من حياة تيرنر، ثم تتكرر المشاهد كأنها تحاول أن تترك انطباعا أكثر من أن تحكي قصة، لقطات متعددة ومختلفة لنفس الأماكن: تيرنر وهو في الأكاديمية الملكية يضيف اللمسات النهائية لرسوماته بطريقته الغريبة التي يستخدم فيها بصاقه ويخلطه بضربات فرشاته السريعة وسط انبهار الرسامين من حوله، ثم الأكاديمية في لقطة آخرى وتيرنر يمر على اللوحات التي يعمل بها الرسامون الآخرون ويعطيهم ملاحظات في منتهى السرعة والدقة، ثم الأكاديمية مجددا وتيرنر مختبئ وراء الجدار ويستمع إلى تذمر الملكة من رسوماته قائلة ” فوضى صفراء قذرة “، ثم وهو في الأكاديمية مرة آخرى يتأمل اللوحات المعروضة ويبتسم ساخرا من التصوير الكلاسيكي وعدم قدرة الرسامين على ادراك روح العصر وحتمية التغيير ولعل ذلك الاحساس يتضح في مشهد آخر عندما كان الرسام الذي بجواره يلون تفصيل دقيق للغاية باللون الأحمر في لوحة كبيرة فأخذ تيرنر فرشته وبضربة واحدة عريضة وضع في منتصف احدى لوحاته بقعة كبيرة حمراء ساخرا من الاهتمام الكلاسيكي بالتفاصيل ومشابهة الواقع. ونرى أيضا مشاهد متكررة لتيرنر يعمل في الاستديو الخاص به ، ومشاهد آخرى وهو يعمل في البيت الكبير في مدينة تشيلسي الذي اشترته عشيقته الأخيرة ، ومشاهد متكررة لتيرنر في بيوت النبلاء المهتمين بالفن وكذلك مع عائلة الناقد الشاب جون رسكين الذي كان من أكبر المتحمسين لتيرنر إلا أن الفيلم يسخر منه ويقدمه في صورة المتحذلق والمغرور.
تكرار المشاهد
اعتمد إذن السيناريو على تكرار المشاهد كأنه يريد أن يحفر انطباعا خاصا في نفسية المتفرج، ويضعه في أجواء الفترة الزمنية، والأهم يريد أن يساير نفسية وذهنية تيرنر وميله للفن الانطباعي الذي يهتم بالمشاعر الجوانية والخبرات التأثيرية العميقة أكثر مما تهتم بتصوير الواقع الخارجي الحقيقي. في أحد المشاهد يطلب تيرنر أن يتم ربطه بأعلى ساري السفينة كي يواجه العاصفة ويختبر الإحساس ويصوره في لوحاته الانطباعية التي لم تعجب الناس وقتها وسخروا مما ظنوا فيها من عشوائية وضبابية، ولكنها مع ذلك ألهمت رسامي الحركة الانطباعية الفرنسية- وفي مقدمتهم كلود مونية- الذين بدأو مرحلة جديدة من فن التصويرالحديث.
يتوقف تيرنر أمام مشهد للقطار (وسيلة المواصلات الحديثة وقتها) والبخار المتصاعد منه، ويلهمه ذلك المشهد تصوير لوحته المشهورة “المطر والبخار والسرعة” التي أثارت سخط الناس وقتها لغرابتها وعدم وضوح تفاصيلها، وفي مشهد آخر نراه يستقبل سيدة تشرح له عمل منشور الضوء الذي يحلل الضوء الأبيض إلى مكوناته والطاقة الخفية الكامنة في كل لون التي يمكن تحويلها إلى قوة جذب وتحريك مغناطيسي، وفي مشهد قرب النهاية يذهب لالتقاط صورة فوتوغرافية باستخدام الكاميرا التي لم يمض وقت طويل على اختراعها، ويسأل الرجل الذي يقوم بتصويره أسئلة دقيقة بخصوص طريقة عمل الكاميرا ودور العدسة والمرآة العاكسة، ويتساءل هل بإمكان ذلك الصندوق أن يصور من نفسه دون تدخل الانسان! ثم يأخذ عشيقته لالتقاط صورة آخرى لهما.. هذه المشاهد تعكس حالة الانتقال والتغير في بدايات العصر الفيكتوري في أوروبا وتعبر عن الارهاصات الأولى لظهور الحركة الانطباعية في الفن مثل الثورة الصناعية، والاكتشافات الفيزيائية فيما يخص الضوء والالوان، واختراع الكاميرا الفوتوغرافية التي يمكنها أن تنقل الصورة بواقعية ودقة أكثر من الرسم الواقعي الكلاسيكي، كل ذلك يعبر عن مرحلة في طريقها إلى الأفول ومرحلة جديدة في طريقها إلى الظهور.
تصميم المناظر والديكور من أبرز عناصر الفيلم خصوصا وهو يعتمد على تكرار اللقطات لنفس الأماكن من زوايا تصوير مختلفة، أما التصوير فهو إنجاز حقيقي للمصور ديك بوب الذي استطاع أن يجعل الصورة السينمائية تضاهي الأسلوب البصري لتيرنر في لوحاته، حيث نجد معظم مشاهد الفيلم في النهار وضوء الشمس جزء أساسي من تكوينها وذلك انعكاس لولع تيرنر بالشمس والضوء لدرجة حرصه على الاستيقاظ دائما في الصباح الباكر مع طلوع الشمس كي يمسك بلحظة وانطباع ضوء الشمس ، كل شيء في الصورة من ديكور وإضاءة مغلف بالالوان الناصعة المحببة للرسامين الانطباعيين خصوصا اللون الأصفر بدرجاته المختلفة.
أسلوب الإخراج
يمتاز أسلوب مايك لي في الفيلم بالغموض الذي يخفي أكثر مما يظهر ويحمل الكثير تحت السطح، ومع سيناريو شديد الغرابة كان عليه أن يتحكم بايقاع الفيلم حتى يجعله انطباعا نفسيا مستخدما اللقطات الطويلة المسرحية التي تضفي الجاذبية والسحر للفترة التاريخية المصورة ، واللقطات الواسعة التي تدمج الطبيعة وتجعلها وحدة واحدة مع باقي مكونات الكادر تعبيرا عن روح الرومانتيكية والغموض والشغف بالكمال والطموح إلى الكل . يقول تيرنر في الفيلم ” اللون متناقض ، لكن لا يمكن التنبؤ به ومع ذلك متناغم ” ، ذلك الغموض والتناقض والفوضى المتناغمة هو روح الرومانتيكية وأساس رؤيتها الفلسفية للعالم.
يؤدي تيموثي سبال أعظم أدواره في شخصية تيرنر، ويقدم تجسيدا حقيقيا يجعلنا نتساءل عن علاقة الغرابة بالفن وعلاقة العبقرية بأن تكون غريبا، ويجعلنا نتأمل الفنان الذي لديه رؤية واستبصار بحتمية التغيير ويعاني من الاضطراب والفوضى الناشئين عن طموح العبقرية في زمن الانتقال من عصر إلى عصر.