فيلم “الدب الدمية”.. أزمة الجسد الساعي نحو الكمال

دائما ما تثير انتباهنا تلك البنية الجسدية القوية وضخامة الحجم، ويزيد الاهتمام أكثر مع العضلات المفتولة، فهي توحي كأن صاحبها يتفانى في نحتها. ويأسرنا من خلال ذلك لاعبو كمال الأجسام (أو بناءها) الذين يجعلون من أجسامهم علامة (إشراطية) تدل على ممارسة الرياضة بشكل غير عادي. لكن ما الذي نعرفه عن محترفي كمال الأجسام: حياتهم الخاصة، نمط عيشهم، نوعية طعامهم، ملبسهم، تمارينهم، روتينهم، تجوالهم في الشارع، إحساسهم، مشاكلهم، ونظرتهم إلى الآخرين.. وحتى علاقاتهم الجنسية ؟

إذا كان شكلهم وحجمهم يلفت الناظر إليهم، ومغري (محفز ومثير) لدى البعض، ولا نعرف إلا بنية عضلاتهم؛ فذلك يجعلنا نتساءل أيضا عن ما يختلج رغباتهم وعلاقاتهم من الحب والصداقة والحياة العاطفية. وتزيد هنا الرغبة في السؤال، إن كان المكان المقام عليه هو الدانمارك؛ البلد الذي يحتفي بالجسد النسائي كل سنة، والغير مقيد بالطابوهات الجنسية، والذي يعرف أيضا أزمات واضطرابات نفسية أو اجتماعية على مستوى فردي أو جماعي. ولا يمنع من أن يبحث الدانماركي عن رفيقة دربه من خارج بلده، كالتايلاند (الرمز السياحي) مثلا.



يعتبر فيلم ” الدب الدمية ” (Teddy bear) المنتج في 2012، أول فيلم طويل للمخرج الدانماركي مادس ماثيسن، بعد تجربة خمسة أفلام قصيرة. وهو إعادة إخراجية لفيلمه القصير “دينيس” الصادر قبل خمس سنوات من ذلك. وترشح الفيلم لأحد جوائز مهرجان ساندانس، وفاز بجائزة الإخراج في صنف الفيلم الدرامي للسينما العالمية الغير الناطقة بالانجليزية. كما ترشح في جائزة اكتشاف السنة في مهرجان السينما الأوروبية. وتمت الاستعانة بنفس الممثل في “دينيس” المحترف في رياضة كمال الأجسام (كيم كولد). كما شارك في الفيلم الممثلة والعارضة الدانماركية (باربارا زاتلر).
 


يروي الفيلم قصة لاعب كمال الأجسام دينيس، البالغ من العمر ثمانية وثلاثين عاما، الذي يعيش مع أمه في الدانمارك. يحاول دينيس ببنيته القوية وطوله الفارع، أن يجد فتاة تتوافق ميوله وأمه، ليست بالضرورة أن تكون رياضية. وسيدفعه زواج خاله من فتاة تايلاندية إلى السفر سعيا وراء ما يلوذ إليه وما عجز عنه في بلده الدانمارك. لكن العقدة والإشكالية التي يواجهها دينيس هي التوافق الممكن بين علاقة عاطفية (وصادقة)، وبين حياته النمطية التي اعتاد العيش بها مع أمه، التي بدورها تعامله كطفل تفرض عليه ما يجب وما لا يجب. لكن ما الذي يعنيه أن تكون الشخصية الرئيسية، كما صورها الفيلم، مخالفة لسياق وعلاقاتها الاجتماعية الجسدية، في الشكل والمبتغى: الأم وصديقته الأولى، وعائلته، ومن سيلتقي بهم عند سفره ؟ وما معنى الجسد القوي البنية وتمثلاته في الفيلم ؟



سوسيولوجيا الجسد أولا

تدخل رياضة كمال الأجسام، أو بالأحرى الاهتمام بالجسد، في المرحلة الما بعد- حداثية. فدراسة الجسد لم تكن تلقى اهتماما في العلوم الاجتماعية إلى وقت قريب. وظهر الاهتمام عندما أشار كارل ماركس إلى ما يتحمله جسد العامل في صراعه الطبقي. ومع ميشال فوكو الذي دشن طريقا لسوسيولوجيا الجسد في دراساته عن السجن والجنس.



تتم دراسة الجسد في النظرية الاجتماعية باعتباره مشروعا، من خلال حضوره الجماعي. فالجسد حسب ألان غوتييه “لا يوجد إلا من خلال علاقاته مع الأجساد الأخرى”. كما تمثل دراسات بيير بورديو نماذج دراسية عن الجسد. فقد صاغ هذا الأخير دراساته حول “الهابتوس الجسدي” الذي يشمل كل التصرفات الخاصة بإفراد الطبقة الاجتماعية، واعتبر “أن الاستثمار الاجتماعي للجسد يجعل أشكال اشتغاله وسيلة من وسائل التعبير عن بنيات وعلاقات اجتماعية ومرآة للتقابلات الاجتماعية مثل التفاعل ما بين الذكورة والأنوثة، إذ يتجسد ذلك في شكل استعمال الجسد أو اتخاذ أوضاع من أشكال التصرفات والسلوكات” (زينب معادي، الجسد الأنثوي وحلم التنمية). لكن ورغم ما ينتجه ذلك الجسد، يعتبر بورديو “الرأسمال الجسدي” عابرا يفنى مع انقضاء الجسد.
 

قد تشترك الذوات الاجتماعية في تشابه الجسد من حيث الحضور الأنطولوجي كما يراها هيدغر. لكن في حالة الجسم (الجسد) الخارج عن المألوف، كما في فيلم “الدب الدمية”، نجد أن “كمال الأجسام مثال توضيحي جيد على الجسد بوصفه مشروعا، لأن نوعية وحتى مجرد حجم العضلات الناجمين عن تلك العملية يتحدى مفاهيم نقبلها بخصوص ما هو طبيعي نسبة لأجساد الذكور والإناث”. ويفوق في الاعتبار والدقة عارضوا الأزياء (الرجال أو النساء) المعروف عنهم اهتمامهم بلياقتهم.

في هذا الفيلم؛ الجسد القوي والمفتول العضلات كله مشروع، يسترعي صاحبه الكمال من رأسه إلى أخمص قدميه. وبالتالي يصبح الجسد في حد ذاته موضوعا، حسب ميرلوبونتي، وباعتباره شيئا متحيزا في المكان، وباعتباره جهازا حركيا، وباعتباره موجودا جنسيا، وباعتباره أداة للتعبير أو الكلام… وكل هذه الوظائف تجعل من الجسم حاملا، وأداة ووسيطا، يتحقق عن طريقه وجودنا في العالم… فالجسم في صميمه إدراك، وتعبير، وحضور أمام العالم وأمام الآخرين (  زكريا إبراهيم، الفلسفة المعاصرة – ص517).



بنية الشخصية في الفيلم

يظهر الفيلم شخصيته الرئيسية “دينيس” في أول مشهد أمام المرآة يحدق عن قرب في ملامح وجهه، أثناء عشاءه الأول مع صديقته (الجميلة) الدانماركية. وتجمل هذه الفاتحة طريقة تعامل دينيس مع الإيحاء أو الرغبة الجنسية، فهو فعلا (كما تتصوره أمه) كطفل ينظر إلى حلية صديقته المعلقة ولا ينظر إلى صدرها.

هذا اللقاء الذي يبقيه خيفة عن أمه هو ما يضفي على علاقات وتصرفات دينيس أنه يساير أمه ولا يعترض في ما تقول، ويكذب عليها أيضا. نجد في الفيلم عقدة ذلك النمط من الحياة الاعتيادية التقليدية، و”الخالية” من العاطفة ومن الصدق. فهو-أي دينيس- وإن كان شخصا رياضيا ويسعى من خلال جسمه إلى الكمال الجسدي، فإن مهادنته ومراوغته لأمه تجعل حياته دون عاطفة ودون حب صادق، بله غير كاملة.



الحب الذي من المفترض أن تكنه له أمه يبدو، كما يعرف في علم النفس التربوي، أنه “حب مشروط”. أي ذلك المقتصر على علاقة المنح بالمقابل؛ كتوفير الحماية أو واجبات المنزل، أو اقتلاع القصب من حديقة خاله الذي ظهر كرئيس للعمال.. وحتى الإذعان لأي طلب يستوجب “جسد” دينيس. وتعتبر الأم ابنها الذي تتشارك معه الحمام، كما صورها الفيلم، كطفل تتقاسم معه الخصوصيات. ويمكن قراءة ذلك من خلال ما قصد المخرج إظهاره في بعض التفاصيل كملامح الأم الصارمة وطريقة الحوار مع ابنها، على أن طبيعة علاقتهما إما إشكالية تربوية أو أزمة قرابة دم؟! لكن قد لا يهم هذا، فدينيس يبحث عن زوجة له قبل بلوغه سن الأربعين.



رغم أنه يختلف مع الذوات الأخرى في الشكل الخارجي فكذلك هو يختلف في نظرته إلى المرأة، فسفره إلى تايلاند لم يكن سياحة جنسية أو مرورا عابرا مع كل من تصادفه. بل كان سبرا حقيقا لغور العاطفة العميقة التي تسكنه. فدينيس تخلى عن امرأتين في التايلاند، كانتا على وشك فعل أي شيء (جسدي وحميمي) لو طلب منهما ذلك. ولم يتفاخر عند مقامه في التايلاند ويتعاظم بأجنبيته أو بقوة عضلاته رغم إلحاح فتاتين على إظهارها. ولم يستهويه هنالك الملهى الذي يجتمع فيه الأجانب بالنساء، بل فضل صداقات عادية وامرأة سيجد فيها ما كان يبحث عنه تعرّفه إلى أحياء وطقوس التايلاند. ومآل هذا الوضع هو ما سار عليه خاله، الذي وجد فتاة من التايلاند وقدم بها لتعيش معه في الدانمارك. لكن إظهار زوجة خاله في الفيلم تكنس ولا تجلس أو تتحدث وترحب باعتبارها سيدة البيت، جعلها كخادمة في البيت. وهي إشارة عن الصورة التي تعرف عن وضعية التايلانديات في الدول الأوروبية كخادمات أكثر منهن زوجات.



صوّر الفيلم الهدوء والجدية الذي يطبع الدانمارك مقابل الحركية والنشاط الذي تعرفه تايلاند. وغابت في الدانمارك مشاهد أي احتفال أو تجمع شعبي أو كرنفال أو سهرة ليلية للتعبير عن الفرح المصاحب والموازي لحياة دينيس. وهو اختيار في طريقة الإخراج أو الفضاء المؤثث لجو الفيلم، كأن لا شيء من داخل البلاد يبعث عن الفرح وحتى عن إيجاد فتاة وزوجة.



هذا الجانب الذي يكتسي طابع الشخصية أضفى قالبا فنيا وسرديا غير مألوف في معالجة مثل هذه الشخصيات. فغالبا ما يرافق الممثل القوي مشاهد يستغل فيها المخرج ويرضي خاطر المشاهد بأن تتجسد أمامه المواقف البطولية لشخصيات الفيلم.

هذا الاختيار في معالجة الشخصية من ضروب “اللامتوقع” في السينما. وهو الفن الذي  تحترفه الجمالية حينما تفاجئ المتلقي وتقلب عنده المتوقع الاعتيادي. فلم نجد في الفيلم أي مشهد عنف أو رغبة جنسية قائمة: لا في المقهى-الملهى الذي ينظم فيه اللقاءات مع النساء، ولا مع ابن صاحب الملهى الذي رفض دينيس نظرته حول التعارك أو المشاجرة. ولم ينأى الفيلم كذلك في إظهار خجل واستحياء دينيس ذي الثمانية والثلاثين ربيعا عند محادثة أي امرأة، ولا في أن يبكي أو يكبت غضبه. إنه رجل يدفع بجسمه إلى حدوه القصوى، أي الكمال، وبعاطفته يسعى إلى استكمال نقصه.

Visited 166 times, 1 visit(s) today