فيلم “الجبل”: فشل الحلم بالتغيير

أمير العمري

فصل من كتاب “السينما المصرية والأدب: قصة حب”

تدور احداث رواية “الجبل” أولى روايات فتحي غانم (صدرت عام 1961) في الأربعينات. وفيها يروي المؤلف تجربة المهندس المرموق حسن فتحي في إنشاء قرية القرنة النموذجية في الصعيد المصري في الفترة من 1946 إلى 1951، والمشاكل التي واجهتها التجربة. وهو يصوغ الأحداث في قالب تسجيلي، ولكنه متخيل، حيث يبتكر الكثير من الشخصيات، ويجيد وصف البيئة التي تدور فيها الأحداث، ويجسد التناقضات بين أصحاب المصالح المختلفة، ويجعل مقاومة سكان الجبل أو قرية “القرنة” القديمة لمشروع القرنة الجديدة والمهندس الذي يقوم بتشييدها، صراعا أساسه الخضوع للأفكار الغيبية والإيمان الأعمى بوجود “الرزق” داخل مقابر الأجداد- الفراعنة، وبأنه ملك لهم، كما أن الجبل ملكيتهم الخاصة بحكم وضع اليد عليه منذ قرون، وأن المهندس دخيل عليهم، يوعز لشباب القرية بالافتراق عن إرثهم التاريخي أي الجبل، الذي ارتبطوا به ومات ودفن في أحشائه أجدادهم.

وتعتمد الرواية على استعادة الصراع الذي نشأ بين الأهالي من جهة، والمهندس المعماري حسن فتحي رغم أنه كان يخوض تجربة جديدة جريئة ورائدة هناك، عندما اختار البناء بالمواد المحلية، الطين والحجر والقش، وبما يناسب التربة في الصعيد المصري واجواء الصعيد الحارة، ويتناسب مع احتياجات البسطاء من الأهالي، عندما شيد قرية القرنة النموذجية الجديدة على البر الغربي من نيل الأقصر، بهدف توفير حياة جيدة تنقل سكان الجبل الغربي من البداوة إلى الحداثة.

تجربة حسن فتحي انتهت نهاية مأساوية عندما رفض الأهالي النزول من الجبل والسكن في البيوت التي بنيت لهم، وقاموا بحرق القرية، وظلت تلك البيوت في القرية مهجورة لعدة عقود. والرواية لا تدين أهالي الجبل على طول الخط بل تبدي بعض الفهم لهم، كما لا تدين حسن فتحي بل تتفهم دوافعه النبيلة وإن كان الفيلم يلمس كيف يدفعه حلمه الشخصي في تحقيق مشروع معماري طموح، إلى القفز فوق الواقع: المكان والبشر، وعدم تقدير الظروف المعيشية التي اعتادوا عليها منذ دهر.، أي نهب الآثار الفرعونية وبيعها للأجانب.

والطريف أن عمدة الجبل، في الفيلم كما في الرواية، يسوق من بين ما يسوقه من مبررات لرفض العيش في القرية الجديدة النموذجية، أن أسقف البيوت بنيت على شكل قباب، والقباب لا يسكن تحتها سوى الأموات، وأن المهندس جعل للماشية غرفا خاصة، والفلاح لا يرتاح إلا لو نام بجوار الماشية التي يرعاها.

الرواية مكتوبة بضمير الأنا. وفتحي غانم هو الذي يروي باسمه الحقيقي، تجربته الشخصية كمفتش تحقيقات منتدب من وزارة المعارف، للتحقيق في الحريق الذي وقع في القرية بناء على شكوى أرسلها شخص يدعى حسين. وسيتضح خلال استجواب بطلنا الكاتب نفسه، لحسين أن الأخير لا يعرف القراءة والكتابة، وأن شيخا مقربا من العمدة، يزور القرية قادما من أسيوط بين فترة وأخرى، هو الذي كتب الشكوى ووقعها باسم حسين المسكين.

يصف الكاتب تجربته منذ تكليفه بوزارة المعارف في القاهرة بالتحقيق في الشكوى (لا تتضح علاقة وزارة المعارف بالتحقيق في حرائق تقع في الصعيد لكن أحداث الرواية تقع في الفترة من 1946 حتى 1951)، ثم ذهابه إلى محطة السكك الحديدية، وركوبه القطار، ورصده التناقضات الطبقية الفظة بين ركاب العربات المكيفة وعربات الدرجة الثالثة، ثم وصوله الى الأقصر. وعندما يسير الحنطور به بمحاذاة النيل يقول: “حاولت أن ألمح شيئا من الشاطئ الغربي حيث ينام حسين الآن، فلم أتبين شيئا. كان الشاطئ الغربي أسطورة سوداء، لا بصيص نور، ولا صدى صوت، ولا حتى شبح ينبئ عن وجوده. وفجأة راعني معبد ضخم وممتد لمسافة طويلة..”.

أما في فيلم “الجبل” أول الأفلام الروائية الطويلة للمخرج خليل شوقي، الذي كتب له السيناريو أيضا،  فليس هناكوجود لشخصية المحقق- الرواي، ولا نشاهد الأحداث من وجهة نظر المحقق بل من خلال رؤية “موضوعية” من الخارج، ورواية الأحداث من خلال المسار الطبيعي دون الاعتماد على “الرواي” الذي يروي الأحداث، تختصر الكثير من تفاصيل السرد الأدبي الذي لا يمس الموضوع الأساسي مسا مباشرا (مثل الحديث عن القطار والمحطة والوصول إلى الأقصر وإلى الاستراحة ثم الشخصيات التي يقابلها في الفندق ومنها زميل دراسة سابق أصبح وكيلا للنيابة.. وغير ذلك)، وهذا الاختيار من جانب كاتب السيناريو، وهو خليل شوقي نفسه، يجعل الفيلم أكثر تركيزا، فموضوعه الأساسي هو الجبل، والصراع بين “الجبل” الذي يخفي أسراره في داخله، وبين المهندس الذي يمثل الدولة التي تريد القضاء على انتهاك اللصوص أسرار الجبل، ونهب الآثار وبيعها للأجانب، عن طريق إقناعهم بمغادرة الجبل، لكنه أيضا صراع بين الجيل القديم من سكان الجبل ويمثلهم العمدة الصارم المتجهم الذي يردد “هنا ولدنا وهنا سنموت، والجيل الجديد الذي يمثله حسين ورفاقه الذين يتطلعون إلى مغادرة الموت الكامن في قلب الجبل، والنزوح الى حياة جديدة، بعد أن شهدوا كيف ابتلع الجبل عبر السنين، أهاليهم وأقاربهم.

الجبل هو معادل للجفاف والتصحر وغياب الفرصة للخير والرخاء والعيش فقط على جثث الأسلاف، والاختباء ليلا ونهارا داخل الكهوف والسراديب للحفر والطرق أو ما يسميه أهل الجبل “الكحت”، بغرض الوصول إلى المقابر الفرعونية التي تصبح بعيدة المنال كلما اقتربوا منها، ويكتشفون أن هناك دائما من سبقهم إلى اقتحامها وسرقتها ثم إغلاقها. ولكن هذا لا يوقف الحلم، أو العجز عن مغادرة الوهم والنزول إلى أرض الواقع، إلى الجهة “القرنة” الجديدة في الوادي، بالقرب من الأراضي الزراعية والنيل. 

عمدة الجبل (عبد الوارث عسر) يستغل البسطاء عن طريق زرع أحلام الثراء في نفوسهم، ودفعهم للتنقيب عن الآثار، بغرض الاستيلاء عليها وبيعها للأجانب الذين تمثلهم في الجبل “الخوجاية” (زوزو ماضي). وهي بدورها تزرع في نفوسهم أوهام الثراء الذي سيتحقق بعد العثور على “الكنز” المدفون وراء بيوتهم المنحوتة في الجبل. ويشير فتحي غانم في الرواية إلى أن الخواجاية كانت تقيم في الجبل تحت غطاء أنها تعالج المرضى من الأهالي كما تعلم النساء التطريز، إلا أننا سنعرف أنها من أولئك الغربيين المهوسين بالحياة البسيطة وسط الطبيعة الأصيلة، رغم أنها تقيم في بيت فخم مبني بالحجر، مزخرف من الداخل وتتوزع على غرفه قطع الأثاث النادرة، وهي تراقب سير العمل في التنقيب والحفر، تغري الفلاحين البؤساء بالمال الوفير الذي ستدفعه لهم مقابل ما يحصلون عليه من “كنوز” الآثار.. وإن لم تستطع فهناك الإغراء بالجنس، الذي ستستخدمه مع “حسين نفسه (صلاح قابيل).

المهندس في الفيلم يدعى “فهمي” (عمر الحريري) وهو أكثر دبلوماسية بل وتعاطفا وحبا للأهالي مما هو في رواية فتحي غانم. إنه لا يسعى للصدام، بل ويحاول تجنبه دائما، يقنع الشرطة بعدم التدخل ونرحيل الأهالي من الجبل بالقوة، بل ويصعد إلى الجبل بنفسه من دون أي حراسة، لمقابلة العمدة رغم ما في ذلك من خطورة على حياته، ثم يقول للعمدة إن البيوت التي بناها هي بيوتهم و”أنا خدامكم يا حضرة العمدة” ويحاول إقناعه باللين، ويطلب التفاهم بدلا من التلويح بالعنف، لكن رد العمدة يكون: “اتفاهم مع الجبل”!

 وعندما يقتحم العمدة الحفل المقام في ساحة القرية احتفالا باستكمال البناء وفي حضور الأميرة (ليلى فوزي) وأتباعها، يتدخل المهندس لإقناع الشرطة بالسماح للعمدة بالدخول إلى ساحة الحفل، يقدمه للأميرة بما يليق، ثم يتدخل عندما يحتد العمدة ويقول للأميرة، “قولي للملك إحنا ما ننتقل من الجبل. إحنا كبرنا وبقينا زي السجرات.. ان انتقلنا نموت”. ثم ينهرها ويستهجن سلوكها وما يدعوه: شرب الخمر والرقص والمسخرة في الليلة السابقة مشيرا إلى سهرة الأميرة الصاخبة الماجنة مع حاشيتها.

المهندس فهمي القادم من القاهرة لتحقيق مشروع حياته، إقامة قرية تلبي احتياجات الأهالي، تنقلهم من العيش الجاف في الجبل إلى العيش في السهل، لا يفرض عليهم رؤيته الخاصة بل يشاورهم في تصميم البيوت بل ويبني كل بيت حسب متطلبات صاحبه ومراعاة لظروفه ورغباته، مستعينا بمئات العمال من سكان الجبل أنفسهم، الذين يكتسبون مهارات في فن البناء يمكن أن تصبح مهنتهم فيما بعد.

الواضح أن المهندس حصل على التمويل من الحكومة بدعم مباشر من “الأميرة” وهي إحدى أميرات العائلة الملكية الاتي عرفن برعاية بعض المشاريع الاجتماعية خاصة إذا حازت على اهتمام من الخارج، من الأجانب. ولكن الهدف الرسمي المعلن هو التخلص من وجود الأهالي في الجبل ووقف تهريب الأثار.

أما “حسين” فهو يتطلع الى العيش الكريم بعيدا عن مأساة الجبل الذي ابتلع جثة أبيه وشقيقته الجميلة “مريم” (ماجدة الخطيب) التي تزوجها العمدة العجوز وأوهمها بأنه سيبني لها قصرا ويغرقها في النعم والترف. وإلى جانب حسين تقف بقوة وصلابة، “مسعدة” (سميرة أحمد) التي تحبه والتي اتفق معها على الزواج بعد أن تنفرج الأمور. ومسعدة تدفع حسين دفعا للتخلي عن “الكحت” في الجبل، تلك المهنة العبثية التي لم تجلب سوى الشقاء والأسى، وأن يقبل النزول للعيش في المباني الجديدة التي يشيدها المهندس لسكان الجبل.

وفي الفيلم أكثر من مستوى لذلك الصراع:

المستوى الأول مادي: ويتمثل في المقاومة الشرسة من جانب العمدة للمشروع الجديد وتحريضه الأهالي البسطاء من أجل الوصول إلى الأثار التي يبيعها للأجانب من مهربي الآثار بالتعاون مع “الخواجاية”. وهو يغري حسين بل ويهدده أيضا بالقتل إذا لزم الأمر، إن تمرد على إرادته وسار وراء المهندس وتخلى عن الجبل.

أما المستوى الثاني للصراع في الفيلم، فيكمن في ارتباط العمدة بالجبل كرمز لارتباطه بتراث الأجداد، ورفضه العيش خارج الجبل لأن في ذلك نهاية لتلك السلسلة الممتدة منذ آلاف السنين. وهو يردد أن “الناس هم الجبل”، وما تمرد الشاب “حسين” الآن سوى نذير فتنة يمكن أن تشتعل فتقضي على التراث كله، الماضي الذي يعيش أسيرا له. وفي الوقت نفسه تبدو “الخواجاية” على قناعة بأن بقاء الأهالي في الجبل أفضل من التخلي عن حياتهم “البسيطة، النقية، البريئة”، وتحولهم إلى أناس يجلسون على الكراسي بدلا من أن يفترشوا الأرض، يطهون الطعام بالطرق الحديثة بدلا من المواقد البدائية بالحطب. فهي من جهة مؤمنة بفكرة نقاء العيش في أحضان الطبيعة، لأن البديل، أي القرية النموذجية الحديثة، لن تجلب لهم سوى التلوث والفساد. ولكن أيضا، كما يصورها الفيلم، تسعى للاستحواذ على الآثار، أي أنها تستخدم التمسك بـ”الأصالة”، لإبقاء الأهالي عبيدا مسخرين في خدمة الأجانب المهربين. وهو أكثر اتساقا بالطبع مع موضوع الفيلم نفسه.

لا شك أن الصراع بين القديم والجديد، أي بين كبار رجال القبيلة التي تعيش على سرقة الآثار وبيعها للأجانب بقيادة العمدة، تذكرنا أو تتشابه إلى حد كبير بكبار رجال قبيلة “الحربات” في فيلم “المومياء” لشادي عبد السلام. إلا أن “الجبل” يتجاوز الفكرة الواقعية ليلحق بـ”الأسطورة” وعلاقتها بالموروث الشعبي، فكرة النداهة التي تغوي وتحرض وتشد الإنسان إلى مصيره، مدفوعا بقوة سحرية لمعرفة “المجهول” الكامن وراء الجدار القديم، وهو ما يتجاوز شهوة الطمع.

يقول فتحي غانم في الرواية إن الطرفين انتصرا: المهندس انتصر، فقد شيد القرية كما يريد رغم معارضة العمدة ورجاله، وأصبحت حقيقة واقعة على مرمى بصرهم، بل ونجح في جعل أهل الجبل يعملون في بنائها بسواعدهم. لكن العمدة أيضا انتصر عندما نجح في ترك أهل الجبل يعملون مع المهندس ويحصلون على أجور يعيشون منها، لكنه دفعهم إلى حرق القرية. ولعل مشهد نزول مئات الرجال من الجبل وهم يحملون المشاعل في ضوء الليل، يجتاحون القرنة ويحرقون بيوتها الجديدة التي لم يسكنها أحد بعد، أحد أجمل واقوى المشاهد في السينما المصرية. وقد برع خليل شوقي في إخراج هذا النوع من المشاهد الكبيرة التي تستخدم فيها مجاميع الممثلين الثانويين (من سكان المنطقة)، ويرجع بهاء الصورة وتناقض الضوء الصادر من الشعلات، مع الخلفية الداكنة على سطح الجبل، إلى مدير التصوير ضياء الدين المهدي الذي اكتسب خبرة كبيرة من العمل كمساعد مع مدير التصوير المرموق عبد العزيز فهمي صاحب البصمات القوية الخاصة على أفلام الأبيض والأسود مثل “المستحيل” و”زوجتي والكلب” ثم سيبلغ القمة في تصويره بالألوان، لفيلم “المومياء”. كذلك ترجع سلاسة تدفق اللقطات، من اللقطات العامة البعيدة إلى اللقطات العامة القريبة، إلى اللقطات المتوسطة، ومن أعلى الجبل ثم الى القرية والانتقال إلى لقطات تفصيلية للحرائق المتناثرة في مباني القرية، إلى شيخ المونتيرين في مصر، سعيد الشيخ. ويستخدم اللقطات البعيدة من زاوية مرتفعة كثيرا، من فوق أعمدة معبد المعبد الفرعوني، حيث يبدو الانسان صغيرا، أو لتصوير ضآلة الشخص داخل السرداب للتعبير عن البعد اللانهائي وأجواء المتاهة التي لن تؤدي إلى شيء أو إلى الموت والتلاشي كما حدث في حالة والد حسين وشقيقته مريم.

كان حسين يتذكر دائما صوت أبيه وصداه الذي يتردد في الجبل “يا حسين.. يا حسين”. وهو ما يجعله يتجمد في مكانه ويسرح ويفكر. هل يعود إلى الجبل لكي يواصل “الكحت” أي ما درأ عليه والده وأجداده وراحت فيه دماؤهم؟ أم يتبع المهندس ويترك الجبل ويشق حياة جديدة بعيدا عن المتاهة والموت كما تحاول “مسعدة” أن تقنعه؟ هذه الحيرة الوجودية تشبه كثيرا، حيرة “ونيس” في “المومياء”. وبينما يحسم “ونيس” أمره في النهاية ويشي بسر قبيلته إلى بعثة الآثار، يخون حسين حبيبته مسعدة، عندما يمارس الجنس مع الخواجاية، ويخضع لإغراء المال بعد أن تصور أن “الكنز” قد أصبح قريب المنال، إلا أنه يتكشف في النهاية، أنه فقد البوصلة وضل الطريق عندما يجد أن وراء الجدار الذي تمكن من اختراقه، ليس سرداب المقبرة الفرعونية بل “بير.. بير غويط يابوي.. طريق كداب يابوي” كما يصرخ بأعلى صوته في الفراغ الأسود، يسقط من يده المصباح، في لقطة النهاية التي لا تنسى.

يقول فتحي غانم في روايته إن الوصول إلى البئر يعني أن “المقبرة مازالت موجودة بكل ما فيها من كنوز، إنها حتما في بطن الجبل، لكن لابد لهم أن يبدأوا “الكحت” من الاتجاه المقابل حيث لا يقف البئر فاغرا فاه العريض يتلقف كل من يريد أن يخطو إلى الكنز. كحت جديد، وسرداب جديد، وضحايا جدد.. ودم مسفوك جديد.. هذا ما يعنيه البئر “. هنا يفضل خليل شوقي أن يختتم فيلمه، ولا يستمر في سرد ما جرى لحسين. وهي خاتمة أفضل تدفع إلى التفكير وتردنا إلى تأمل قصة الجبل من بدايتها.

غالبية سكان “الجبل” في الفيلم، والرواية، خائفون، يرتعدون من الموت المفاجيء الذي سبق أن أكل الكثير من أقاربهم وأهلهم.. فهم يؤمنون بأن “المساخيط”، أي تماثيل الأجداد الفراعنة التي تسكن فيها أرواحهم، لا تتركهم بل تنتقم منهم بسبب عبثهم بها وبيعها للأجانب أي نقلها من الأرض التي دفنت فيها (ذهب المساخيط مرصود.. ما حواليش إلا الموت وتقطيع الإيدين”. إنه ذلك الإيمان بـ”اللعنة” الشهيرة التي أصبحت جزءا من الفكر الغيبي أو ما يسمى ب”لعنة الفراعنة”. وهذه اللعنة تدفع الكثير من السكان للهجرة من الجبل للعمل في الواحات كما يتردد على لسان العمدة أو “مسعدة” التي تبوح برغبتها في الذهاب مع “حسين” لو قرر هجر الجبل والذهاب إلى الواحات.

إن فيلم “الجبل أحد أهم الأفلام التي أنتجها القطاع العام السينمائي في مصر في الستينات، ويعتبر كلاسيكية كبرى من أعظم كلاسيكيات السينما المصرية. وقد اجتمعت له جميع العناصر الفنية التي جعلته يأتي على تلك الصورة البديعة المدهشة حتى بمقاييس اليوم، فهو عمل يقاوم الزمن: سيناريو يسبح في المنطقة الواقعة بين الواقع والأسطورة، يتسم تارة بالغموض، ويصطبغ تارة بالواقع، يعكس كيف تسيطر الأسطورة الملوثة بالجشع على عقول المجموع، فتحول بينهم وبين رؤية النهاية القاتمة التي تنتظرهم في قاع البئر، وكيف تضيع أحلام المهندس الذي أراد أن يصنع الجمال والخير لأهل الجبل، وأن يشيد أيضا مجده المعماري، فتكون العاقبة أن يلقى كل هذا العذاب على أيديهم.. مثله مثل الرسل والأنبياء الذين جاءوا لنشر الخير والسلام بين البشر فما واجهوا سوى النكران واللفظ.

الوجود الأجنبي والفساد المرتبط بطبيعة الحكم واضح في كل من الرواية والفيلم من خلال سلوكيات الأميرة المنفصلة تماما عن الواقع، لا يمكنها أن تعرف أين تضع قدميها، تتوه في غيبوبة الخمر، تلهو مع عشيقها، وكما أنها تتحكم في المشروع كله، بحكم نفوذها وقدرتها على توفير المال، تريد أيضا التحكم والسيطرة في البشر، فتحاول إغواء حسين، وعندما يرفض تهجج بهدم المعبد على رؤوس الجميع. وعندما يتصدى لها المهندس أخيرا مدافعا عن مشروع حياته، مستنكرا لهوها وعبثها واستهتارها، تصرعه بسياراتها وترحل.

إلى جانب سيناريو شديد الجرأة، وشديد الطموح في السياق العام للسينما المصرية، بموضوعه وشخصياته وأجوائه السحرية، يتميز الفيلم بقدرة هائلة من جانب مخرجه وفريق الفنيين العاملين معه، على إعادة تشكيل البيئة التي صور فيها الفيلم، بحيث يتناغم الداخلي مع الخارجي، ويعكس بصدق الصورة الحقيقية لبيوت الأهالي، مع الانتقال في مشاهد التصوير الخارجي في المواقع الطبيعية، إلى المشاهد التي تدور في الجبل، داخل الكهوف والسراديب. هنا لا يبرز دور مهندس الديكور أنطوان بوليزوس ومساعده نجيب خوري، والموسيقى البديعة التي تصاحب هذه المشاهد وغيرها، تضفي عليها رونقا وسحرا وغموضا وجمالا. وهي الموسيقى التي وضعها الجزائري إبراهيم حجايج الذي عمل في عدد من الأفلام في السينما المصرية من الأربعينات حتى منتصف السبعينات، من أهمها “البوسطجي” و”زائر الفجر”، و”النداهة” الذي كان آخر أفلامه وسوف نتناول كلا من “البوسطجي” و”النداهة” في فصلين من فصول هذا الكتاب.

 إنه يستخدم نغمة خاصة عذبة يشيع فيها طعم الحزن مع هبوط الفلاحين من الجبل وكذلك في المواقف التي تجمع بين حسين ومسعدة، لتضفي الشجن على الحالة الرومانسية القائمة بينها، حالة الحلم بمستقبل أفضل، كما يستخدم موسيقى كلاسيكية قوية النغمات تصاحب ظهور عمدة الجبل، وموسيقى الناي الفرحة على الإيقاعات الراقصة لتصاحب مشاهد مبارزات التحطيب بين الرجال، وموسيقى المارش العسكري مع دقات الطبول السريعة عند نزول الفلاحين من الجبل للعمل مع المهندس في البناء.

يتميز تصوير ضياء الدين المهدي (الذي أدار تصوير خمسة من أفلام خليل شوقي) بالتكوينات التشكيلية البديعة (التصوير بالأبيض والأسود) وتوزيع الظلال والكتل داخل الكادر، خاصة في مشاهد انتشار الرجال فوق الجبل سواء وتوزيعهم الدقيق في المناظر العامة، ثم في حركتهم وهم يهبطون للانضمام للمهندس في العمل بعد وقوع حادثة موت والد حسين “أبو الروس” (عبد العليم خطاب) وشقيقته مريم “ماجدة الخطيب)، أو عندما يقفون في صفوف متأهبين لمقاومة المهندس الذي سمعوا أنه جاء مصحوبا بقوة من الشرطة لإرغامهم على مغادرة الجبل بالقوة. كما تتميز كثيرا التكوينات في المشاهد التي تظهر فيها المجاميع أثناء الحفر داخل السراديب على خلفية همهمات الرجال الحماسية. وتظل كاميرا المهدي، كاميرا “محايدة”، تتسلل وترصد وتراقب، وتطل من أعلى أحيانا لكي تصور “أبو الروس” بعد أن أصابته اللوثة وهو يحفر في الجدار في هستيرية بعد أن تصور أن وراءه مقبرة فرعونية وانه اقترب أخيرا من “الكنز”، أو من زوايا منخفضة حينا آخر، تقترب من الشخصيات المحبوسة داخل إطار الصورة في ظلام الكهوف، أو تبتعد وتدور دورة كاملة مع ابتعاد سيارة الأميرة بعد أن تدهس المهندس، أو تدور وتنقلب مع حركة رأس “الضيف أحمد” وهو سكران، يتطلع إلى النساء المصاحبات للأميرة بالملابس العصرية وهي صورة لم يسبق له أن شاهدها، وبشكل كوميدي يتناسب مع شخصيته الطريفة قصد منها التخفيف من الطابع الصارم لأحداث الفيلم.

يعتقد حسين أنه بلغ الحائط الذي يؤدي إلى الكنز، ويتبادل الرجال الكلمة في لقطات قريبة لوجوههم (لقينا الكنز.. لقينا الكنز) لتنتهي اللقطات القصيرة لوجوه الرجال على وجه “مسعدة” الحزين القلق، فهي لا تأمل خيرا، وهي ترفض من البداية الجري وراء هذا السراب، ثم يحدث الانتقال المناقض، إلى أهل القرية وهم يحتفلون بما يعتقدون أنه الوصول إلى الكنز، بينما ترقص “غازية” في وسطهم، وينشد مغن صعيدي عجوز الأغنية الشعبية الشهيرة “أنا كل ما أقول التوبة يابوي”. تتمايل الراقصة على نغماتها ويهز الرجال رءوسهم، ويعبر وجه العمدة عن الشعور بالرضا والاطمئنان. الجميع فرحون باستثناء مسعدة التي يعكس وجهها القلق. وفي المشهد التالي تواجه العمدة بالحقيقة، أن الآثار التي يتوهم العثور عليها قد سُرقت من زمن بعيد، وأنهم يسعون وراء الوهم، ورجل وراء رجل ستنتهي حياته. وتحذره بقولها: “دم حسين في رقبتك ياعمدة”. بعد هذه المواجهة والنذير يأتي المشهد النهائي: العمدة يدفع حسين داخل المتاهة.

ليس بوسع المرء أن ينسى علامات الأسى والحزن على وجه سميرة أحمد، ولا حيرة حسين (الهاملتية) وتردده، بين رغبته في الإفلات من المصير، وإخلاصه لما سار عليه أسلافه وعدم تخليه عن قبيلته وأهله. ولا ينسى المرء قط ذلك التماهي المذهل بين عبد الوارث عسر، عمدة الجبل، والجبل نفسه. فمن دون حضوره في الفيلم لا يكون لدينا “الجبل”. والحقيقة أن خليل شوقي وفق كثيرا في طاقم اختيار الممثلين، ربما باستثناء عمر الحريري في دور المهندس، فقد بدا أكبر سنا من الدور، وكان يقتضي الاستعانة بممثل أكثر شبابا وحيوية ورشاقة. ولكن الحريري اجتهد كثيرا في التعبير عن ذلك الطموح القلق لخلق شيء جديد وسط بيئة تقاوم كل جديد.

 أود ان أختتم هذا الفصل بالعودة إلى ما قاله حسن فتحي في كتابه “عمارة الفقراء” (عنوانه الأصلي “القرنة: قصة قريتين) الذي صدر عام 1969:

“صحيح أن أهل القرنة لم يرغبوا العيش في القرية الجديدة لأنهم يربحون الكثير من نبش القبور- وهم الأكثر ثراء- وهم الذين يشكلون “لجنة المشايخ” التي تقاوم الانتقال. وقد تعاقدوا مع محام وابتكروا أكثر الأعذار جموحاً حتى لا ينتقلون، بل وقالوا إنهم سيكونون في القرنة الجديدة في خطر من الذئاب. وهذه اللجنة كانت كلها تتألف من تجار الآثار والتراجمة، والخفر السابقين للآثار، وما إلى ذلك، ومن الواضح أنهم أناس لهم أكبر مصلحة في البقاء كما أن أصواتهم كانت هي المسموعة، بينما ظل معظم القرويين، الذين وافقوا على الانتقال، صامتين سلبيين. فهل كانت مهمتي أن أعمل على نقل أهل القرنة بقوة الشرطة؟

ولم تقم مصلحة الآثار بأي محاولة لاكتساب تعاون الفلاحين، بل وبدا أحياناً أنها تتخذ جانبهم في معارضة الخطة. وكان موقف موظفي المصلحة بالنسبة للفلاحين في أحاديثهم الخاصة، يتسم بالقسوة الوحشية، وكانوا يتراجعون ويماطلون كثيرا عند التطبيق، وكنت في وضع تعس في المنتصف، فلا أنا من الحكومة ولا أنا من القرية. وهكذا عانيت من كلا الطرفين” .

Visited 12 times, 1 visit(s) today