فيلم “التعصب” لجريفيث وتأسيس السينما الأمريكية

يمكن النظر إلى فيلم “التعصب” لديفيد وورك جريفيث ضمن سياقين متباينين تماماً؛ أولاً كفيلم قدمته السينما في مرحلة بدايات تكونها الأولى (الفيلم إنتاج 1916) وهو بالتالي فيلم يحاول حشد إمكاناته لتقديم جديد على مستوى التكنيك والفكرة في هذه الصناعة الحديثة نسبياً. كما يمكن النظر إليه في سياق كونه فيلماً من أعظم ما قدمته صناعة السينما في العالم قاطبة منذ بدأت وحتى الآن.

والحال كذلك لأن جريفيث كما اعتاد الجميع أن يقول، أسس فن الفيلم الحقيقي من خلال دأبه الظاهر على اكتشاف تقنيات جديدة لفن السينما الوليد آنذاك والذي كان لم يزلْ متأثراً إلى حد بعيد بفن المسرح الراسخ من قبله؛ وهو يستخدم تقنية “المونتاج المتوازي” التي كان قد سبق تقديمها في فيلم “سرقة القطار الكبرى” لأدوين س بورتر كما تروي المراجع السينمائية لكن بوعي أكبر وتوظيف أعمق. وجريفيث في “التعصُب” يبني تجربته بالكامل على تقنية” المونتاج المتوازي” هذه ليروي أربع حكايات هي مضمون العمل.

يقدم الفيلم أربع حكايات متوازية حول ثيمة واحدة هي “التعصُب”، حكاية معاصرة عن “العزيزة” ابنة الرجل الفقير الذي يُطرد من عمله في أحد المصانع نتيجة عنت المالك ولقائها ب”الولد” وهو كما يبرر له الفيلم ضحية الحادثة ذاتها إذ تحوّل بعد مقتل أبيه في وقائع الشغب التي جرت في المصنع اعتراضاً على قرار المالك إلى لص مجرم، والحكاية الثانية حكاية سقوط بابل بعد معركة عنيفة بين ملكها وبين ملك آخر كان يود قهر المدينة تعصُباً لمدينته ولإلهه، والثالثة حكاية مولد السيد المسيح وسط اليهود الذين كانوا قد بدأوا في ممارسة التعصُب ضد كل ضعيف بينهم، والرابعة حكاية إصرار الملكة الفرنسية كاترين دي مديتش على محاربة فرق من الشعب الفرنسي لمزاعم متعصُبة أيضاً.

ويحاول الفيلم سرد أحداث الأربع قصص من خلال الربط بينها بمشهد تحريك المهد، الذي تقدمه مشاهد الفيلم بشكل شاعري من خلال استخدام صورة مجردة لامرأة تبدو حزينة يجلس من ورائها نسوة أخريات دون اكتراث، وتقوم المرأة بتحريك المهد وعيناها ذاهلة كما لو أنها تنتظر شيئاً ما سيحدث، والمشهد الذي يُستخدم كوحدة ربط وكبؤرة في بعض الأحايين لتسريع إيقاع الفيلم من خلال استعماله بشكل متتابع في المونتاج على مسافات متقاربة، تُستخدم الإضاءة به لتمنح المشاهد شعوراً بالا مكان، الذي يخدم بدوره فركة منح “التعصُب” بعدها المُطلق لوجودها في كل العصور.

استخدام اللقطات

وتأتي براعة جريفيث في التنويع في استخدام اللقطات بأحجامها المختلفة، اللقطات الكبيرة في المشاهد الحربية ومشاهد حركة المجاميع كما في دخولهم وخروجهم من المصنع وهو استخدام أعطى شعوراً بامتداد المشهد وعمقه، واستخدم اللقطات المتوسطة لرواية الحكايات بشكل أساسي من خلال حركة شخوصه أو أبطاله المؤثرين كحركة البنت “العزيزة” و”فتاة الجبل” واتفاقات الملوك في فرنسا ومشاهد السوق في حكاية المسيح وحكاية فتاة الجبل في حربها داخل مدينة بابل، واستخدم اللقطات القريبة في إظهار انفعلات جسمانية معينة تلعب دوراً في تمرير إحساس سائد بالقلق والتوتر والخوف من قِبل الأبطال كنتيجة لتعصُب أفراد آخرين يتحكمون في مصيرهم مثل حركة اليد الوجلة للعيزية في مشاهد انتظار الحُكم على “الولد”.

واُستخدمت الإضاءة أيضاً لإحداث تأثيرات متباينة فإلى جانب التوظيف الشاعري لها في مشهد حركة المهد المتكرر، برز استخدامها كوسيلة للظهور والاختفاء للانتقال بين المشاهد، كما اُستخدمت في مشاهد أخرى كي تعطي شعوراً بمرور الوقت داخل الكادر نفسه، حين كان يتم تقليلها تدريجياً حتى توشك على الاختفاء ثم تعود مرة أخرى وكأن زمناً قد مرّ تجلى هذا في مشاهد انتظار المرأة الغيورة لرئيس العصابة على سبيل المثال.

وفي حين قدم الفيلم مشاهد عظيمة كالمشاهد الحربية التي إلى جانب تكنيكها قياساً إلى زمن تقديمها المبكر جداً في صناعة السينما، وانسيابية حركة المجاميع وطبيعيتها، لم يستطع جريفيث  أن يمنع تعثر المُشاهد أثناء متابعة قصصه الأربع نتيجة كثرة التفاصيل التي تملأ نحو ثلاث ساعات هي زمن الفيلم، فكل حكاية من الحكايات الأربع كانت تصلح لتقديمها منفردة في فيلم واحد؛ ومع الانتقالات السريعة بين القصص لرغبة جريفيث في إحداث تأثير متوحد بين مصائر الأبطال يشعر المُتفرج أنه قد تعرض للتشويش مرات وأصبحت عملية متابعة الفيلم أكثر صعوبة.

فنحن نجد حكاية “السيد المسيح” تجيء كإشارة مباشرة للتعصب الديني، وكانت أقل الحكايات حضوراً على الشاشة على الإطلاق، وبدا أنها اُستخدمت في الأصل كمُتكأ للتوازي مع حالة “الولد” الذي يكاد يتعرض للشنق بلا ذنب جناه، كما يتعرض المسيح بشكل متوازي إلى الصلب أيضاً، وفيما ينجو الولد لا ينجو المسيح؛ وبسبب هذا الإفراط في تعقب التفاصيل انفلتت خيوط بعض الحكايات من بين أصابع جريفيث تماماً كضياع الطفل ابن الولد والعزيزة دون أن يحاولا استرجاعه نتيجة الانشغال الدرامي بالتُهمة الباطلة التي تم توريط الولد فيها.

شاعرية جريفيث

لم تقتصر شاعرية جريفيث على استخدام الإضاءة فسحب، إنما تجلت في طريقة كتابة اللوحات أيضاً وخاصة في مناطق شرح الحوادث وتفسيرها وفقاً لإطار التعصُب، وفي توظيف آيات من الإنجيل لدعم المعنى العام للفيلم، وفي الشكل التجريدي لاختيار أسماء الأبطال كالعزيزة والولد وفتاة والجبل، وتأتي مشاهد العذراوات في منتصف السرد كلوحات غزلها جريفيث بالكثير من الشعِّر من خلال الانفعالات المختلفة للفتيات العاريات التي تبين على وجوههن، ومن خلال إحساس كاميرا جريفيث بالتفاصيل الحسيّة لأجساد العذراوات وهو ما منح الفيلم بشكل عام بُعداً جمالياً.ولا يمكن بحال تجاهل دور موسيقى كارل دافيز الفخمة في تعويض غياب الصوت من الفيلم، إذ لعبت دوراً مجسّداً لبعض الأحداث كما في مشاهد قرع طبول الحرب والنفخ في الأبواق، إضافة إلى دورها التكميلي في إحداث الأثر الدرامي في مشاهد صلب المسيح وفي مشاهد انتزاع الطفل من بين يدي والدته العزيزة.

إن هذا الفيلم الكبير الذي صنعه جريفيث عام 1916 ، لم يكتف بالتأسيس لفن الفيلم بشكل عام لكنه مثّل المنبع الثري الذي نهلت منه أفلام سينمائية عديدة فيما بعد أمريكية وغير أمريكية، وخاصة فيما يتعلق ببناء استمرارية الحكايات وهي ظاهرة بوضوح في صناعة السينما الأمريكية، وفي استخدام المونتاج المتوازي في أفلام التشويق أو الأفلام البوليسية على النسق الذي قدمه جريفيث، وبرغم مُباشرة الفكرة الشديدة وازدحام الفيلم بالتفاصيل العديدة، فإنه يبقى قادراً على إمتاع المشاهد وإبهاره بعد أكثر من مئة عام من تقديمه.

Visited 130 times, 1 visit(s) today