فيلم “الإبن سر أبيه”.. أزمة الذات اليابانية المعاصرة
تساهم السينما الآسيوية بفضل مخرجين من اليابان والصين وكوريا الجنوبية في تحويل المنظار”السابع” من غربه إلى شرقه. ويساهم جيلها الجديد من المخرجين في محاولة تجديد طرق التحول والتغيير، وإضافة ما افتقده المخيال الحكائي لبلدهم، بصريا. وتختلف طرق معالجتهم وشخصيات مواضيعهم، كل حسب رؤيته وقدرته الإبداعية.
أطل علينا المخرج الياباني “كوري ايدا هيروكازو” عام 2013، بفيلمه الدرامي “الإبن سر أبيه” (Like father, like son). وهو آخر أعماله التي أخرجها وكتبها لحد الآن، والذي نال عنه عدة جوائز عالمية، منها جائزة لجنة التحكيم في مهرجان “كان” لنفس العام. وقد سبق لهذا المخرج أن حصد جوائز عالمية على أعماله السينمائية مثل “لا أحد يعلم” (2004)، و”أغذ السير” (2008)، و”أتمنى”(2001).. وغيرها.
وتتميز معظم أعماله بطابعها الدرامي والاجتماعي الصرف، إذ لا يحتاج إلى مؤثرات بصرية ولا جنسية ولا لمتاهات حكائية.. ولا حتى لنزعات سياسية وتاريخية، إذ يمكن تسمية سينماه بـ”السوسيودراما”، المبنية على فلسفة اليابان الاجتماعية ونسقها الثقافي.
يتعامل “هيروكازو” ،غالبا، في أعماله مع أطفال يلعبون دور البطولة. ويجسد بهم نمط حياة متوسطة وبسيطة اجتماعيا. إلا انه في فيلمه الأخير، “الإبن سر أبيه”، حاول أن يقارب حياة البرجوازي (كنمط عيش وليس إيديولوجيا)، مع نمط حياة الفرد الشعبي البسيط.
ووظف المخرج في هذا الفيلم تقنية اللقطات الجانبية والخلفية، دليلا على تسطيح الصورة وعدم الارتياح مع ما نشاهده، لكونها ليست قطعية أو حقيقية، حتى تتبين الحقائق عن طريق محاولة التعمق بتغيير اللقطات (المتوسطة والقريبة) وتسليط الضوء على الموضوع. وبالتالي فالتطور يبدو ظاهرا على مستوى الإخراج (اللقطات، وزوايا الكاميرا) وعلى مستوى كتابة النص في عمق حبكتها.
أبعاد القصة
يروي الفيلم قصة زوجين (ريوتا نونوميا وزوجته ميدوري) يكتشفان بعد إجراء ابنهما “كيتا” فحوصات الدم، مع بداية موسمه الدراسي، أنها لا تتطابق معهما مما جعل المستشفى يعيد البحث في الأمر والقيام بفحص الحامض النووي لديهما (ADN). ليتضح أن الزوجين كانا ضحية عملية “تبادل الأبناء”، مع “سايكي” وزوجته “يوكاري”، اللذين ذهلا أيضا بأن “ريوسي” ليس ابنهما.
هكذا تبدأ إشكالية الفيلم بعد أن يتضح تبين بعد مرور 6 سنوات (وهي سنوات تكوين الشخصية حسب علم النفس التربوي) أن الولد لا يمت إليهم بصلة الدم. وتأتي هنا التضاربات والضغوط المجتمعية والأسرية، لمحاولة تصحيح الخطأ، وتبادل الأبناء، تدريجيا، قبل وعي الطفلين بالمشكل. فتتحرك العواطف ومشاعر الألفة التربوية إزاء محاولة التعايش مع الخطأ أو رفضه. وهل بوسع الأب، خصوصا، أن يتقبل أن خَلفه وحامل دمه وسره ليس بالضرورة أن يكون أصلا من صلبه؟
أحداث الفيلم يمكن أن تقع في أي مجتمع وفي أي زمان، رغم اختلاف خصوصية السياق. فلو حدثث في ايرلندا أو السنغال أو مصر أو حتى في كوريا وسنغافورة.. كانت ستختلف طرق التعامل والانصياع.
الحدث أو عقدة الفيلم تبدو مسترسلة وعادية، وحتى واقعيتها تبدو قابلة للتحقق والتشابه في أي مكان وأي مجتمع. لكن، ورغم ذلك، نجد رسائل الفيلم المشفرة غير قابلة للتعامل مع الواقعية باستسهال أو بحلول جاهزة وعامة. ولذلك كانت البرجوازية (كنمط)، في الفيلم، مقابل البساطة وليس الفقر، والعمل مقابل قلة العمل، وليس عدمه، والدم البيولوجي مقابل الدم المكتسب، والخطأ أمام بقايا الأخطاء، وليس الصواب أو المثال.
أما عن التقابلات بين الأزواج، فنجد الأب (في عائلة مينونا) يعمل مهندسا معماريا ودائم العمل، فلا يجد وقتا لإعطاء ابنه (الذي ليس ابنه) الوحيد كل اهتمامه. بينما نجد الأب في أسرة “سايكي”، يملك محلا صغيرا للأدوات المنزلية، وله ثلاثة أبناء يشاركهم ضحكهم ولعبهم واستحمامهم. أما الأب الأول، فيشجع “فكرة أن يكون الفرد مستقلا”.. ولا “أحد في عمله يستطيع فعل ما يعمله”.. و”لم يكن والده يلعب معه بالطائرات الورقية”.. و”لا يصلح الأشياء المكسورة، بل يشتري غيرها”. بيد أن الأب الآخر يقابله بقوله أو بفعله: “أنهم يتشاركون في الأشياء.. ولا أحد يستطيع أن يلعب دور الأب سوى الأب.. وليس بالضرورة أن لا يلعب بالطائرات مع ابنه.. وعليه أن يحاول إصلاح الأشياء المكسورة”.
هكذا نجد الفيلم يسقط بعض النظريات التربوية والنفسية؛ والتي تلتصق نظمها في أذهان كثير من الآباء حول تربية الأبناء على شاكلة آبائهم. أو فيمن ينظر إليهم كامتداد له أو لعائلته، لرابطة الدم التي تجري في عروق جيلهم. إذ ليس في وسع الدم البيولوجي إلا أن ينصاع للدم المكتسب؛ أي للمكان وللأشخاص ومن تربى بينهم. وليس هناك أيضا ما يُرغم الأب أن يكون مثل أبيه.. ولا الابن مثل والده.
وقد نخلص من الفيلم أيضا، أن حياتنا وربما كل معتقداتنا قد تكون نتيجة خطأ أو وهم، لكننا نعيش رغم ذلك. فلما لا يتساءل الآباء في الفيلم (كما حصل في اليابان قبل الستينات) عن إمكانية أن تكون حياتهم، نفسها، نتيجة “تبادل الأبناء”.. وأن ما يعتقدونه ويعيشونه، هو نسبي؟!
ولذلك فالفيلم يخرق ذلك النمط البورجوازي الحديث ويتساءل عن إمكانيته التأقلم مع الموروث والتقليد (الولد البورجوازي سيعيش في حياة ونمط شعبي، والعكس أيضا !).. وعن احتمالية أن ما نعتقده أو ما نعيشه لربما كان له منحى آخر لولا عدم معرفتنا بالخطأ الذي أوصلنا إلى هنا. وبالتالي فطبيعتنا أو بالأحرى حقيقتنا هي نسبية المنحى لكنها ثابتة المنشأ ومتأصلة. أي كونك برجوازيا ومعصرنا أو تقليديا ليس سوى توازي لنمط حياة لست أنت من اختارها، وأن الوطن هو المكان والأسرة الذي كبرت فيه، وليس دمك أو أصولك أو عرقك.
اليابان وإن تربّت على المحافظة والجسم الموحد للذات الجماعية، ورغم تقنيتها وتطورها الآلي، فهي تعيش أزمة المجتمع البورجوازي المعاصر، وتمازج القيم التقليدية الموروثة والعصرية المحدثة مع بنيتها الثقافية.. من مرحلتها الترميمية في الخمسينيات، إلى عولمة منتوجاتها الآلية. وبالتالي فالفيلم يندرج ضمن سياق نقد البورجوازية ورأسمالية العمل اليومي، وتأثيرها على الذات اليابانية.
إنه فيلم يضمر السياسة والثقافة والاجتماع والتاريخ في سياق مغرق في فضاء البساطة والدرامية. ولأن بساطته هي ما جعلتني امتنع عن عرض مواقفه وبسط قصته وتقنياته الإخراجية وتفاني الأطفال في أدوارهم.. فالدور على المشاهد حين يكتشف مفاجآت الفيلم، واحتماليته غير المباشرة والأكثر تأثيرا بالصورة منها بالسطور. وحيث مشاهدته تلزمك بطرح الأسئلة وتموضعك أبا وطفلا في آن.
- مصمم فني- المغرب