فيلم “122”.. رعب مصري بنكهة أمريكية
محاولة الخروج من الموضوعات المصرية النمطية، التى انحصرت فى نوعيات الأكشن والكوميدى والرومانسي، هي حلم كل مخرج شاب يدخل المضمار السينمائى لأول مرة. والملاحظ أن نوعية أفلام الرعب هى دائما الملاذ لمن أراد أن يكسر رتابة النمطية السائدة. فعلها محمد شبل فى فيلم “أنياب” وعلاء محجوب في”الرقص مع الشيطان” وعبد العزيز حشاد فى ”كامب”، والقائمة تطول.
ولم يشذ المخرج العراقي الشاب ياسر الياسري عن هذه القاعدة، فقدم فيلم ”122“، الذى يعرض حاليا بدور العرض، وهو يقدم أولى تجاربه السينمائية فى عالم الإخراج الروائى الطويل فى مصر. والمتتبع لموضوعات الرعب التى قدمتها السينما المصرية حتى الآن، وهى قليلة فى الحقيقة، سيلحظ أنها لا تخرج عن أحد نوعين: إما موضوعات الجان أو الأشباح، ومن أشهر أفلام النوع الأول ”الإنس والجن” لمحمد راضى و“التعويذة” لمحمد شبل، ومن أشهر أفلام النوع الثانى، “استغاثة من العالم الآخر” لمحمد حسيب، و“عاد لينتقم” لياسين إسماعيل ياسين.
وفى تجربة مختلفة يحاول الياسرى أن يقدم موضوعا مختلفا يبتعد كثيرا عن تيمات الجن والأشباح، ويجنح إلى تيمات هوليوودية شهيرة من خلال الانتقال بالكاميرا إلى أجواء المستشفيات المليئة بالجثث الخاضعة لعمليات التشريح، والأنفاق المظلمة، وفريق الأطباء المتجهم، المكون من أفراد مرضى نفسيا أو غريبى الأطوار. يبدأ الفيلم بشخص مصاب يجرى فى ممر شبه مظلم، فارا من خطر ما مجهول، تتعثر قدمه بقطعة من الخشب المدججة بالمسامير، وفى اللحظة التى يحاول أن ينزع فيها القطعة الخشبية التى تلطخت بدمائة تعود بنا الكاميرا للوراء، بطريقة الفلاش باك، لنجد أنفسنا فجأة داخل أجواء رومانسية تجمع بين حبيبين (نصر وأمنية)، شاب دفعته الظروف للقيام بأعمال مشبوهة وفتاة من الصم والبكم. تمضى الأحداث سريعة حتى يتعرض الحبيبان لحادث طريق مروع، تفيق منه الفتاة لتجد نفسها وحيدة داخل مستشفى خاص ولاتعثر لحبيبها على أثر.
تكشف لنا الأحداث عن عصابة تتاجر فى بيع الأعضاء البشرية، يتزعمها الطبيب نبيل (طارق لطفى) بمساعدة الجراح (أحمد الفيشاوى) وبعض الممرضات، وأن الفتى الحبيب قد وقع فى حبائل هذه العصابة، وصار الضحية المنتظرة لتشريح جثته والاستيلاء على أعضائه.
وتأتى الإثارة من محاولة الحبيبين الهرب من المستشفى للنجاة بأنفسهما من الدكتور نبيل، الطبيب السفاح، الذي لا يتورع عن قتل أي أحد يقف في طريقه حتى لو كان من أفراد فريقه الطبي الذين يشتركون معه في ارتكاب جرائمه.
التشويق والإثارة
كما يشير رقم 122 إلى بوليس النجدة الذي يحاولان الاتصال به لمساعدتهما على الخروج من المستشفى الغامض المريب دون جدوى. لا يمكن اعتبار الفيلم من أفلام الرعب بالمعنى الدقيق للكلمة، لكن يمكن اعتباره، بالأحرى، فيلم تشويق وإثارة. فالسيناريو لا يعمد إلى زيادة جرعة الخوف كما هو متعارف عليه فى أفلام الرعب الأمريكية، لكنه يزن المشاهد واللقطات بميزان حساس، بحيث نجح فى شد انتباه المشاهد طوال الوقت، مع إحداث أكبر قدر من القلق والتوتر دون الوصول لصدمة الرعب الكبرى التى تزلزل كيان المشاهد وتحطم أعصابه.
الفيلم مليء بالمواقف المأزومة التي تتطلب حلولا ناجزة للخروج منها بمعرفة الضحايا أنفسهم، ودون مساعدة الشرطة التى لم يتصل علمها بما يحدث داخل المستشفى، الذى يضع على بوابته لافته مكتوب عليها “مستشفى الحياة” بينما يخيم الموت على الغرف المقبضة الموجودة فى مكان سرى بداخل المبنى.
سرعة الإيقاع، والنقلات السريعة بين المشاهد لم تدع فرصة للتأويل بالنسبة للنقاد المعنيين باللغة البصرية. فكثير من اللقطات يفتقر إلى المضمون الفكري الذي يمكن أن يدعم رسالة ما أو معنى ما، ولو حتى على المستوى الجمالي. وكانت الفرصة مهيئة، لأن أفلام الرعب والكوميديا -بعكس الظاهر- هي أكثر النوعيات التي يمكن أن تحمل مضمونا فلسفيا. ويعتبر فيلم “الآخرون the others الذى أخرجه الأسباني أليخاندرو أمينابار، وقامت ببطولته النجمة نيكول كيدمان عام 2001، نموذجا جيدا لأفلام الرعب ذات البعد الفلسفي، حيث قدم الفيلم عالم الموتى بوصفه وجها أخر للحياة، كما أن شخصيات الرعب التى غزت الأدب قبل السينما وكانت سببا فى ازدهار سينما الرعب مثل ”دراكيولا” و“فرانكشتاين” و“دكتور جيكل ومستر هايد” و“الرجل الذئب” نسجها مؤلفوها على منوال فلسفي يرتبط بفكرة الهوية.
ومع ذلك لم نعدم وجود عناصر بصرية ومؤثرات خاصة نجحت فى تصعيد حالة التشويق والإثارة. فتم توظيف الإضاءة بشكل جدلي مع الإظلام من أجل إبراز قوة الصراع بين الشخصيات المتقاتلة في أنفاق وممرات المستشفى. كما لعبت سماعة الأذن لدى البطلة دورا مثيرا فى إدخال المشاهد إلى حلبة الصراع بوضعه في مكان الشخصية الصماء البكماء بحيث يسمع ما تسمعه ولا يسمع ما لا تسمعه، وبالطريقة الخاصة جدا التي توفرها السماعة. وهنا يثور سؤال.. لماذا اختار السيناريست (صلاح الجهيني) شخصية تعاني من الصمم وتتحدث بلغة الإشارة؟ والإجابة، من وجهة نظرنا، هى أن مثل هذا التقليد شائع في تيمات أفلام الرعب الأمريكية التي تميل إلى وضع شخصيات تعانى من ضعف خاص (عمى أو شلل) في مواجهة سفاح لا يرحم أو شبح خفى متعطش للانتقام، لكسب تعاطف المشاهد وتحقيق أكبر قدر من التشويق والإثارة.
كذلك يلاحظ استخدام اللقطات الطويلة والخلفيات المبهجة فى المشاهد الرومانسية بين الحبيبين، واللقطات المكبرة لإبراز تعبيرات الوجه المكتنفة بمشاعر الحب والحميمية، كما أضفت لغة الإشارة المستخدمة للتعبير عن هذه الرومانسية مذاقا خاصا على اللقطات. وكلها مشاهد تمهيدية قبل الدخول فى أتون الصراع الدامي القادم، وكأنها الهدوء الذي يسبق العاصفة.
عن الأداء
لم يقدم طارق لطفي جديدا فى الأداء الذي اعتدناه منه، إلا أن هذا الأداء تحديدا كان مناسبا للدور، ونجح بدرجة كبيرة فى تجسيد شخصية الطبيب المدمن المتعطش للدماء، وإن كانت مسألة انفصاله عن زوجته وعدم قدرته على رؤية إبنه غير كافيه لتبرير نزوعه المرضى نحو سفك الدماء وتحوله إلى سفاح بلا قلب أو مشاعر.
لعب أحمد الفيشاوى دورا صغيرا جدا كضيف شرف، وكان أداؤه موفقا ومتناسبا مع حجم الدور، خاصة فى قدرته على تجسيد المشاعر المتناقضة بين رغبته فى قتل ”نصر” وتشريح جثته للحصول على أعضائه وبين تعاطفه معه ورغبته فى إطلاق سراحه عندما علم بأنه زوج وأب لمولود قادم فى الطريق. نفس الشئ ينطبق على باقى النجوم الذين لعبوا أدوارا شرفية مثل محمد لطفى الذى أدى دور ضابط يمر على المستشفى فى دورية ليلية، ومحمد ممدوح الذى أدى دور سائق عربة الإسعاف التى تحمل الجثث منزوعة الأعضاء. لكن يظل أحمد داوود هو البطل الحقيقى للفيلم بالرغم من ضآلة جسمه وصغر حجم تكوينه البنيانى الذى أظهره كطرف أضعف فى صراعه مع طارق لطفى، لكن عدالة قضيته باعتباره الطرف الخير فى الصراع كانت دائما هى الكفيلة بحسم النتيجة لصالحه. كذلك جاء أداء أمينة خليل مناسبا للدور، فلم تعمد للمبالغة فى تجسيد شخصية الفتاة الرقيقة التى تعانى من الصمم وتضعها الظروف داخل واقع دموى بغيض، ما مكنها من أن تدخل قلب المشاهد وتكسب تعاطفه.
الموتى الذين يعودون للحياة لمواصلة بث الرعب فى النفوس وإطالة أمد الصراع، هى أيضا تيمة أمريكية لعب عليها السيناريو أكثر من مرة. حدث ذلك مع طارق لطفى وأحمد داوود (طرفى الصراع الرئيسيين). موت شخصيات لها رصيد فى نفوس المشاهدين فى النصف الأول من الفيلم مثل أحمد الفيشاوى ومحمود حجازى، تيمة أمريكية أخرى تلقى فى روع المشاهد اليقين بأن الشر المهيمن على الأحداث لن يستطيع أن يوقفه أحد، وأن الرعب القادم لا حدود له.
ربما كانت النهاية هى الشىء الوحيد المختلف عن تيمات الرعب الأمريكية. فقد انتهى فيلم ”122“ نهاية سعيدة، بعد أن استطاع البطلان العاشقان أن يتغلبا على الطبيب السفاح وأعوانه، والخروج من المستشفى فى أجواء صباحية مشرقة، فى إشارة إلى بداية عهد جديد مليىء بالأمل والإشراق. وهذا خلاف السينما الأمريكية التى اعتادت ألا تنهى أحداثها إلا بعد أن يحصد السفاح أو المسخ كل رؤوس ضحاياه بما فيهم الأبطال الرئيسيين، وأن يستمر فى الوجود، مصاحبا المشاهدين الذين غادروا دور العرض إلى بيوتهم، وحتى غرف نومهم.
نهايتان
ومن اللافت أنه كان للفيلم المصرى نهايتان: أمريكية ومصرية.. فى الأولى هرب الحبيبان من المستشفى، إلا أن الفتى كان قد أصيب بطلق نارى أثناء صراعه مع الطبيب السفاح، فانحرفت به السيارة التى كان يقودها مع فتاته أثناء الهرب، ثم سقط فوق عجلة القيادة لافظا أنفاسه الأخيرة أمام فتاته التى أصابها الذهول، وحاولت مواصلة الهرب فى طريق مظلمة وأجواء مرعبة، إلا أن الطبيب السفاح وسائق عربة الإسعاف ينجحان فى الإمساك بها وإعادتها للمستشفى تمهيدا لقتلها وتشريح جثتها بديلا عن حبيبها. والنهاية الأخرى هى عودة الفتى فى اللحظات الأخيرة، ونجاحه فى قتل سائق سيارة الإسعاف، ثم قتل الطبيب وإنقاذ حبيبته والخروج من الكابوس الذى ظل جاثما على أنفاسهما طوال أحداث الفيلم، وهى النهاية السعيدة التى ترضى المشاهد المصرى، الذى يأبى إلا أن ينام هادىء البال، مرتاح الضمير.