في مهرجان لندن السينمائي: شارلي شابلن الحقيقي

كان أحد أهم وأفضل الأفلام التي شاهدتها بالدورة المقامة حاليا من مهرجان لندن السينمائي (7- 17 أكتوبر) الفيلم “التسجيلي” الطويل “شارلي شابلن الحقيقي” The Real Charlie Cahplin الذي اشترك في إخراجه بيتر ميدلتون وجيمس سبايني، واشترك في إنتاجه مؤسسة معهد الفيلم البريطاني وبي بي سي.

ويصلح هذا الفيلم مثالا على ما نفضل أن نطلق عليه “الفيلم التسجيلي” وليس “الوثائقي”، فمن الأفضل أن يتفق الكاتبون باللغة العربية على توحيد هذا المصطلح الملتبس الذي اقتضى الكثير من التفسيرات والتبريرات، وأثار الخلافات بين النقاد لعقود عدة، في حين أن الذين ابتكروا هذا النوع من الأفلام بل والذين اخترعوا أصلا آلة التصوير وآلة العرض السينمائيتين، أو بالأحرى، الذين اخترعوا السينما، يستخدمون تعبيرا واحدا هو documentary، ورغم ابتكار مصطلح آخر هو non fiction film  أو “الفيلم غير الخيالي” يظل الاستخدام الأكثر انتشارا هو documentary.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، يثبت هذا الفيلم بشكل عملي، عدم إمكانية التفرقة بين “التسجيلي” و”الوثائقي”، فكما أن فيه مشاهد كثيرة من نوع إعادة تمثيل الواقع باستخدام ممثلين بديلا عن الشخصيات الحقيقية، فهو يحتوي أيضا على وثائق نراها أمامنا للمرة الأولى، وهي وثائق مصورة أي لقطات نادرة تم العثور عليها في الأرشيف السينمائي البريطاني، وتسجيلات صوتية، منها ذلك التسجيل للحوار النادر الذي أجرته مجلة لايف مع شابلن، والتسجيل الصوتي الذي يشمل المقابلة الطويلة التاريخية التي أجراها الباحث والمؤرخ السينمائي البريطاني كيفن براونلو، مع صديقة شابلن في طفولته “إيفي ويزدوم”.

لا يطمح مخرجا الفيلم إلى رواية قصة حياة أيقونة السينما العالمية شارلي شابلن، وقد لا يكون هو الفيلم الأفضل الذي تناول هذه الشخصية الأسطورية التي لمعت في شتى أرجاء العالم منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى، وربما يوجد فيلم أو آخر، تناول شابلن بنوع أكبر من التفاصيل. أما الجديد الذي يميز هذا الفيلم، فهو فرضيته التي تقوم على فكرة انه لا يوجد وجه واحد لشارلي شابلن بل هناك أكثر م وجه، وأننا مهما حاولنا أن ندقق ونبحث ونتعمق فلن نصل أبدا إلى “حقيقة” شابلن، فقد كان هو نفسه من أكثر الشخصيات السينمائية غموضا في حين أنه بدا للعالم كله الأكثر وضوحا!

الفكرة التي شكلت مسار الفيلم وبناءه، يتم دعمها وتعميقها بالكثير من الوثائق البصرية والصوتية، ومنها التسجيل الصوتي الكامل للمؤتمر الصحفي الذي عقده شابلن في عام 1947 وتعرض خلاله للكثير من الأسئلة الاستفزازية والاتهامات المباشرة من جانب الصحفيين، التي وصلت إلى حد اتهامه بالخيانة الوطنية، وتذكيره بأنه يعيش على الخير الكثير الذي حصل عليه من (هذا البلد) أي من الولايات المتحدة. ونحن نتابع مقتطفات من هذا المؤتمر الساخن الذي جاء في خضم الحركة المكارثية التي عرفتها أمريكا، حيث تم تعقب كل من كان يشك في ميولهم اليسارية وانتماءاتهم الشيوعية، والتحقيق معهم أمام لجنة خاصة شكلت في الكونجرس الأمريكي، من خلال الاستعانة بممثل يقوم بدور شابلن يظهر من ظهره ولا نرى وجهه قط، واستخدام أسئلة الصحفيين لتطابق وجوه عدد من الممثلين الذين استعين بهم.

في البداية كانت سنوات العيش الخشن، والتشرد في الشوارع في لندن الفيكتورية، حيث يسترجع الفيلم من خلال لقطات نادرة من الأرشيف أجواء تلك المنطقة الفقيرة البائسة التي كان يعيش فيها شابلن الصغير، ومنزل أسرته الحقير، ويشير إلى علاقته الوثيقة بأمه التي ظلت قوية وسيعود بعد ان يلمع نجمه لينقلها من مصحة العجائز التي وضعت فيها إلى منزله في هوليوود، وهو ما نراه في لقطات تسجيلية نادرة، كما نرى أيضا لقطات لنبوغه في الاستعراض على خشبة المسرح قبل أن ينتقل الى السينما الصامتة ويشارك في الهزليات الخفيفة المبتكرة القصيرة قبل أن يصنع أفلامه الطويلة الشهيرة مثل “الطفل” و”البحث عن الذهب” و”أضواء المدينة” و”العصر الحديث” و”الديكتاتور العظيم”.. إلخ.

من أكثر ما نراه من مشاهد هنا المشهد الشهير لطهي الحذاء وأكله بالشوكة والسكين مع رفيقه في فيلم “البحث عن الذهب”. ومشهد من فيلم “الديكتاتور العظيم” وهو يلهو بالكرة الارضية. ومن المشاهد المبتكرة الطريفة المقارنة التي يعقدها صناع الفيلم بين شابلن وهتلر، فكلاهما من مواليد نفس السنة 1889، يفصل بينهما أربعة أيام فقط، وكلاهما كان من عائلة فقيرة بائسة، وقد ارتبط كل منهما بأمه ارتباطا شديدا، ونبذ الأب، والأم في كلتا الحالتين كانت معتلة الصحة، والاثنان أصبحا من كبار المشاهير، وبالطبع جمع بينهما ذلك الشارب الذي يوصف بأنه يشبه “فرشاة الأسنان”!

ومن أكثر أجزاء الفيلم إمتاعا تلك المشاهد التي تصور استقبال شابلن الأسطوري في المدن الأمريكية المختلفة خصوصا نيويورك التي يقول شابلن نفسه عنها (بصوته) إنها كانت اللحظة التي أدرك عندها أنه “مشهور”. لكن هذا النجاح الكبير سيمتد كما سنرى عبر مشاهد تسجيلية أخرى، إلى العالم كله خلال رحلاته. ويقول الفيلم إن شابلن أصبح أشهر واهم وأكثر إثارة لاهتمام الرأي العام من أي ملك أو امبراطور أو فيلسوف وفنان ومخترع. ويتوقف الفيلم أمام فكرة المتشرد أو الصعلوك التي جاءت إلى ذهن شابلن من طفولته البائسة. لكن جعلها شخصية تمتلك سلوكيات الطبقات الأعلى أي صحيح أنه صعلوك لكنه يتصرف كجنتلمان.

من المشاهد الطريفة في الفيلم وهي مسجلة وموجودة في الأرشيف، محاولة شابلن اخراج مشهد لقائه بائعة الورد الجميلة العمياء في فيلم “أضواء المدينة”. فهو يمر في ثياب الصعلوك أمام الفتاة الحسناء (تقوم بالدور فيرجينيا شيريل)، تشير إليه بوردة في يدها. يتردد، ثم يقترب ليكتشف أنها عمياء. تقول له عبارة توحي بأنها تعتقد أنه رجل من الطبقة العليا في المجتمع. تسقط منها وردة، ينحني ويناولها الوردة. تشكره ثم ينصرف.

شابلن لا يعجبه المشهد، فهو يشعر بأنه يفتقد شيئا ما. لذلك هو يعيد هذا المشهد أكثر من 500 مرة، وبالتالي يمتد تصوير الفيلم الى نحو عامين. وهو يطرد فيرجينيا من الفيلم ثم يصور المشهد مع خمس ممثلات، لكنه يعود الى فيرجينيا التي تكمل الدور بعد أن يعثر هو على “مفتاح” للمشهد!

من سنوات الضنك والأسى والمعاناة في الطفولة، إلى سنوات المجد في الشباب ثم على سنوات التدهور والسقوط التي تأتي لا نتيجة للفشل الفني، بل لأسباب سياسية تتعلق بما طرح من تشكك حول ميول شابلن الاشتراكية، وانتهى الأمر برحيله عن الولايات المتحدة وصدور قرار بمنع عودته إليها، وفي سنوات المنفى صنع فيلمين فقط لم يكتب لهما النجاح. واعتزل في بيته الريفي الكبير مع أبنائه وزوجته الرابعة أونا أونيل (ابنة الكاتب المسرحي الشهير يوجين أونيل) في الريف السويسري.

لكن الفيلم يتوقف طويلا أيضا أمام ما أثير حول علاقة شابلن بالمرأة، وتفضيله الفتيات الصغيرات. تقول فيرجينيا شيريل في الفيلم (صوت فقط) إن الجميع كانوا يعتقدون أنها على علاقة به أثناء تصوير “أضواء المدينة” إلا أن هذا غير صحيح (فقد كنت كبيرة جدا عليه.. كنت في العشرين فقط!).

وبينما يهمل الفيلم علاقة شابلن وزواجه من زوجته الأولى “ميلدريد هاريس”، ثم زوجته الثالثة بوليت جودارد التي لعبت أمامه بطولة “أضواء المدينة” و”الديكتاتور العظيم”، وكانت وقت أن تزوجها في السابعة عشرة من عمرها وكان هو في الـ 36، يتوقف الفيلم أمام زوجته الثانية ريتا جراي التي توفيت عام 1995 (عن 87 سنة)، وبالتالي أصبح لدى صناع الفيلم وثيقة أخرى هامة مصورة لمقابلة معها في أواخر حياتها، تتحدث فيها عن معاناتها مع شابلن، وكيف كان عنيفا شرسا، أساء معاملتها، ويشير الفيلم إلى أن شابلن تجنب في مذكراته الحديث عن محنة علاقته بهذه الزوجة وكيف تم الطلاق بينهما ويكتفي بالقول إنه لا يرغب في التوغل في التفاصيل، كما أنه يرفض الإجابة عن سؤال بخصوص نفس الموضوع في مقابلته مع مجلة لايف، فنسمعه على شريط الصوت يقول: إنني لست في مقعد الاعتراف هنا!

الفيلم مهتم كثيرا بالدراما الشخصية التي شكلت حياة شابلن، كيف أصبح هذا النجم الأسطوري معبود الجماهير في العالم، نسيا منسيا، حينما مات في منزله السويسري المعزول عام 1977 عن 88 عاما. لكن من أفضل مشاهد الفيلم ووثائقه النادرة أيضا، المشاهد التي حصل عليها مخرجا الفيلم من عائلة شابلن، وهي أفلام منزلية، نراه فيها في مواقف عديدة، مع ابنته جيرالدين في طفولتها، ومع شقيقها كريستوفر، وهو يمشي في الغابة المحيطة، ويتأمل الطبيعة أو وهو داخل مكتبه. كما نستمع إلى شهادة جيرالدين عن والدها وذكرياتها معه ومع أمها.

أما أهم شهادة في الفيلم فهي ما شهادة صديقة شارلي في طفولته، إيفي ويزدوم، التي تروي الكثير عنه، وتشير إلى أنه جاء لزيارة بيت عائلته القديم وتفقد الحي الذي نشأ فيه بعدما أصبح نجما مرموقا واستقبل استقبالا حافلا في لندن. ونحن نستمع الى شهادة إيفي من خلال ممثلة استعان بها مخرجا الفيلم بحيث يتطابق حديثها مع التسجيل الصوتي الذي أجراه معها كيفن براونلو.

“شارلي شابلن الحقيقي” فيلم آخر ممتع من تلك الأفلام التي تبحث في تاريخ السينما، وتدور حول الشخصيات السينمائية الشهيرة التي صنعت خيالنا وشكلت وعينا بالسينما.

Visited 49 times, 1 visit(s) today