فتاة المصنع.. الجائزة والخلطة والانتصار
قبل ساعات من كتابة هذا المقال فاز فيلم “فتاة المصنع” أحدث أفلام المخرج الكبير محمد خان بجائزة اتحاد النقاد الدولي “فيبريسكي” من مهرجان دبي السينمائي، وفازت بطلته ياسمين رئيس بجائزة أحسن ممثلة، في نهاية مناسبة لأيام من الحفاوة والإشادات التي توالت من مختلف الأطراف منذ أن عُرض للفيلم للمرة الأولى في المهرجان. ولكن من جانبي فقد حصلت على جائزتي الخاصة قبل ذلك بقليل، وبالتحديد عندما دعاني الأستاذ لمشاهدة الفيلم في منزله قبل أيام من سفره لدبي.
تعلمنا أن حسابات الجوائز غير منضبطة، وأن عوامل كثيرة تتدخل فيها لعل أبسطها الذوق الشخصي لأعضاء لجان التحكيم وصعوبة اعتبار المنافسة بين أعمال فنية منافسة موضوعية مهما شهدنا للقائمين عليها بالحياد. ولكن تبقى الجائزة الحقيقية هي الفيلم نفسه، هذا الكيان المكون من حصيلة جمع خبرة وثقافة وموهبة وجهد وتعاون العاملين فيه، ليلخص سنوات وسنوات في ساعتين أو أقل قليلا نراهم على الشاشة فنبدي إعجابنا أو سخطنا. وأزعم أني مشاهد مُخلص، أشاهد الأفلام بحب وأسعد بالمتميز منها وإن لم تقدره الجوائز، ويحبطني السيء منها ولو جمع كل تقديرات الكون.
محمد خان أيضا كذلك، مشاهد مُخلص، وعاشق للسينما، سينيفيل حقيقي وصاحب مزاج، أضف إلى هذا تاريخه الذي لا يحتاج لشهادة، وعشرات المهرجانات التي احتفت بأفلامه وكرمته، وعلّمته مع تواليها أن هناك ما هو أهم من كل التفاصيل الإجرائية، هناك لمعة الفرحة في عين من ينجز فيلما حلم به بعد انتظار أعوام، ورنة السعادة في صوت من يشاهد فيلما ممتعا فيشعر بأن إنسانيته بعد هاتين الساعتين.. قد زادت قطعة.
لذلك أعتبر “فتاة المصنع” هو الجائزة الحقيقية، لخان قبل محبيه، فهو عمل لم يكتف بما ذكرته من تحقق بعد انتظار، وإثراء لإنسانية من يشاهده، وإحكام صنعة ممزوجة بالإمتاع، ولكنه وبجانب كل ذلك، مكافأة حقيقية لمحبي سينما خان القدامي، والذي سيجدون الفيلم الجديد متمتعا بالكثير من سمات أفلامه الأيقونية، مع تطعيمها ـ كالعادة ـ بروح أكثر شبابا وطزاجة.
البطل والمأزق وخلطة صانعهما
البطلة هيام، والتي ستمثل نقلة نوعية في مشوار الممثلة ياسمين رئيس، هي ابنة مخلصة لعوالم محمد خان، ومأزقها هو الآخر مأزقا خانيا، وفي اجتماعهما ـ البطلة والمأزق ـ يكمن سر اعتبار الفيلم أقرب أفلام المخرج الأخيرة للأفلام التي حفرت اسمه داخل قلوب محبي السينما. هيام ككل أبطال خان، أحلامها صغيرة، لا تطمح في أكثر من زيجة تجمعها برجل تحبه، ولكن هذا الحلم البسيط سيفتح أبواب مأزق ضخم، مأزق يتكشف فيه زيف العالم المحيط بها.
والمآزق الدرامية في عوالم محمد خان دائما ما تجمع بين نقيضين: ميلودرامية الحدث، وحداثة أسلوب معالجته. بمعنى أن مأزق هيام التي تتهم زورا في شرفها، وتجد كل من حولها ينقسمون بين منفض عنها خوفا على سمعته، وراغب في التنكيل بها إبرازا لأخلاق مدعاة ورجولة غائبة يحاول المجتمع التظاهر بوجودها، هذا مأزق توصيفه الشكلي ميلودرامي بامتياز، لا سيما وهو يقوم على صدفة هي تزامن تنامي علاقة هيام بالمهندس الشاب مع وجود زميلة أجرت اختبار الحمل وتركته ليتم اكتشافه، ولكن كيفية التعامل مع هذا المأزق بحيث تكون النتيجة بالغة الحداثة وبعيدة كل البعد عن ابتزاز العواطف الميلودرامي، فهذا هو سر الخلطة الخانية.
كلمة السر في الأمر هي تقليل الاهتمام بالحدث نفسه لحساب ما هو أهم: البشر والمكان. فالصدفة مقبولة لأن المشاهد صار بعد دقائق من الفيلم داخل عالم الفتيات، يشعر بتفتحهم وكبتهم العاطفي والجنسي، وبأن منهن بالتأكيد من ستتجاوز لتشبع حاجتها. أما هيام ذات الحلم البسيط، التي تجد نفسها في مواجهة العالم بأسره، كان من الممكن أن تبرئ ساحتها من الاتهام الميلودرامي بسهولة، عبر مصارحة بالحقيقة وكشف عذرية تلقيه في وجه الجميع، ولكن الأمر ليس بهذه السهولة، فما جرح هيام ليس المأزق نفسه، ولكن ما حمله لها من استنتاجات موحشة في قسوتها، استنتاجات عن فرصها في الحب والسعادة والعيش بكرامة، في مجتمع له ذاكرة سمكة وعقل طفل وأيدي غول، مجتمع لم يعاملها بمنطق عندما اتهمها لتستخدم المنطق في الدفاع عن نفسها. عالم كهذا لا يستحق أن تدافع عن نفسك أمامه.. عالم كهذا يستحق أن يُترك.
ليس فيلما نسويا
في دراسة طويلة أعددتها عن معالم سينما محمد خان ونشرها موقع “عين على السينما” تحدثت عن أحد أهم مميزات عوالم خان، وهي الإدراك المرهف لمأزق الأنثي في المجتمع المصري، وهو مأزق أعقد بكثير من حصره في المطالب الحقوقية المعتادة. كتبت هذه الكلمات قبل مشاهدة “فتاة المصنع”، ولم أكن لأجد ما هو أفضل من الفيلم لتوكيدها. فبالرغم مما كُتب وما سيُكتب عن الفيلم باعتباره فيلما نسويا يدافع عن حقوق المرأة، إلا أني مُصرّ على أن التعامل معه من هذه الزاوية هو تعامل قاصر يهدر حقه وحق مخرجه ومؤلفته.
فهيام تمتلك وفقا للمقاييس الحقوقية حياة لا بأس بها، فهي فتاة نالت قدرا من التعليم، تعمل في وظيفة ثابتة، وتمتلك حرية في الحركة والتصرف تدعمها جرأتها التي جعلتنا نشعر في نصف الفيلم الأول أننا أمام امرأة قادرة على الوصول لما تريده، وكل ما حُرمت منه من الحد الأدنى لجودة التعليم والوظيفة والحياة بشكل عام، هو حرمان شامل، يطول الذكور في المجتمع قبل الإناث، يطولهم ويشعرهم بالعجز فيسحقهم ويجعلهم عند أول فرصة قادرين على سحق من تطوله أيديهم، انتصارا لمنظومة أخلاقية بائسة، أو ربما للشعور بأنهم ليسوا وحدهم هم العجزة والتعساء.
ولا عجب أن من طالت أيديهم هيام بالتنكيل الفعلي كانوا بالأساس من النساء، بدءا من زميلات المصنع اللاتي انقلبن عليها، مرورا بأمها التي اتخدت منها موقفا عنيفا قبل أن تفيق فطرتها لتحميها، وصولا إلى جدتها التي مارست عليها أقسى أنواع القهر الجسدي والنفسي، ليس انتصارا لشرف لن يعيده التنكيل، ولكن عقابا لفتاة حرة، دفعتها روحها التي لم تتلوث لكسر القيود التي أتعست الجدة قديما، ثم حولت الخالة بعدها لأكثر نساء العالم بؤسا (في دور بديع تلعبه سلوى محمد علي بخبرة وفهم حقيقيين)، وكانت تريد أن تُكمل الدائرة بسحق الجيل الثالث والرابع والعاشر.
هيام لم تخطئ لتستحق العقاب، وحتى لو كانت قد مارست الجنس مع من فتح لها باب الأمل بقبلة هي بمثابة وعد، فهي أيضا لم تخطئ، لذلك فهيهات أن تسعى لتبرئة نفسها من تهمة لو ثبتت عليها، لن تجرمها!.. اللهم إلا في نظر مجتمع سقيم، نساؤه أكثر ذكورة من رجاله، يؤمنون بالقهر ويكرهون الحياة، ومن تحاول منهن أن تخالف القاعدة، يحكم عليها بالتعاسة الأبدية. هذا ليس فيلما نسويا، ولكنه فيلم يعري المجتمع الذكوري، وينتصر للإنسانية التي يقف بعض النساء في وجهها أكثر من الرجال.
انتصارا للمستقبل
ولو أردت أن أختار سببا وحيدا يجعلني أعتبر “فتاة المصنع” عملا يستحق الاحتفاء، فسيكون استحالة تقدير عمر مخرجه. فمن يشاهد الفيلم دون معرفة مسبقة، من المستحيل تماما أن يتخيل تجاوز صانعه السبعين من العمر. فالزمن الذي يدفع الآخرين للجمود، جعل خان أكثر شبابا، أعاده عشرين عاما للوراء وجعله ينطق بهمّ ملايين في سن العشرينات، بصياغة سينمائية خفيفة على الروح، تظهر في التكوينات المغامرة التي تتراوح بين الطابع المشرق ـ الكاريكاتوري أحيانا ـ في نصف الفيلم الأول، والثقل الإيقاعي والإخراجي في نصفه الثاني، كل هذا ممزوجا بصوت سعاد حسني الذي اختاره المخرج ملازما للفيلم (كعادته التي فعلها من قبل مع عبد الحليم وأم كلثوم وليلى مراد)، والذي يحمل للذهن تناقضات حياة صاحبته بين شقاوة الشباب ومأساة النهاية.
انتصار العمل للإنسانية وللروح الشابة يمكن تلخيصه ببساطة في مشهد النهاية البديع، الذي يمثل ـ بصريا ونفسيا ودراميا ـ ذروة انتصار هيام على كل ما واجهته من تنكيل وانكسار، ليعمدها فتخرج منه مرفوعة القامة، مسيحا حليق الرأس حاسرها، يخلع صليبه من على رأسه ليربط به خصره ويرقص هازئا من الجمود والقهر وكل النظم الخرقاء. مشهد لو لم يكن في الفيلم سواه لكان كافيا، وأحب الأفلام فيلما قد حَسُنت خواتيمه.