“عند بوابة الأبدية”.. رسالة فان جوخ الأخيرة
عزيزي ثيو.. أريد أن أسافر في النجوم وهذا البائس جسدي يعيقني.
وداعاً يا ثيو، “سأغادر نحو الربيع”.
كانت هذه رسالة فان جوخ الأخيرة لأخيه ثيو قبل أن يطلق الرصاص علي صدره وتنتهي حياة واحدٍ من أعظم فناني القرن 19 وأكثرهم شهرة وغموضا وجموحا بل لن نبالغ إن قلنا أكثرهم جنونا أيضا، ففان جوخ هو تجسد فعلي لمقولة (الفنون جنون) ولكن أي جنون وأي عبقرية التي تمخضت عنها لوحات مثل عباد الشمس وليلة النجوم وأكلوا البطاطا، اللوحة التاريخية حول فقر ومعاناة البسطاء وحتي أخر لوحاته (حقل القمح) التي وصفها البعض بأنها رسالة انتحار، حيث قام فان جوخ بإطلاق النار علي نفسه في 27 يوليو1890 في أحد الحقول وتوفي بسبب مضاعفات هذا الجرح بعد يومين.
يأتي فيلم “عند بوابة الأبدية” At Eternity’s Gat الذي أخرجه وشارك في كتابته المخرج والفنان التشكيلي جوليان شنابل، كقصيدة بصرية ترثي هذا الرسام البائس الممعن في الحزن التائه في عزلته، المغترب عن واقعه والهائم بين الوديان والسهول، في محاولة مستميته لتحرير الجمال الحبيس داخل الطبيعة من وطأة اللون والتكوين والخروج به لأفاق أرحب من التجريد.
عند رؤية لوحات فان جوخ المليئة بالمشاعر والانفعالات، والمفعمة بالاضطراب العاطفي والشجن اللوني نتساءل: هل كان هذا الرسام العبقري مجنونا حقا أم كان مخطوفا حسب الميثولوجيا الإغريقية من بنات زيوس ربات الفن وملهمات الإبداع؟
هل كان انتحاره محاولة للوصول للموت والهروب من الواقع المرير، أم وثبة أخيرة لتحرير الروح من عبء الجسد الذي تمرد عليه، مرة بقطع أذنه، ومرة بإطلاق النار عليه.
لم تعرف البشرية قدر هذا الفنان إلا بعد عشرات السنين من رحيله وكأنه كان يرسم لوحاته لأناس لم يولدوا بعد لتتحول قصته ومعاناته إلى أسطورة تقترب من حدود القداسة لدي محبي الفنون حول العالم ليصبح هذا رمزا للعظمة الفنّية وأحد أهم رموز الثقافة عند الأجيال الحالية التي تثمن لوحاته بعشرات الملايين، وهو الذي عاش بين فقر الحال والعوز ولم يبع طوال حياته سوي لوحه واحدة بعشرين دولارا.
قبل الدخول إلى رائعة جوليان شنابل الذي رسم هو الأخر بالصورة والضوء والصوت لوحة سينمائية غاية في العذوبة والشاعرية تتماهي مع قدر هذا الفنان التاريخي الذي غافل عصره ودلف لبوابة الخلود، ولكي نفهم تفاصيل السيناريو الذي أعتمد على سرد الأحداث من خلال المناسبات المأزومة التي رسم فيها فان جوخ لوحاته وشكلت الصدمات فيها جزءا محوريا أثر في كل أعماله، لابد من الاقتراب أكثر وباختصار شديد من تلك المرحلة التي مهدت لظهور أعظم فنان هولندي بعد رامبرانت.
وكباقي فناني النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان فان جوخ متمردا على بقايا اتجاهات عصر النهضة فكان اتجاه الفن التشكيلي حينها محملا بعواصف التغيير والتجديد لتظهر المدرسة الانطباعية وهي المدرسة التي نستطيع من خلال سماتها الدخول لعالم فان جوخ بعمقه ودلالاته ولوحاته المشحونة بالمعني.
ويعتبر فان جوخ حلقة وصل بين الانطباعية، وبين المدارس الفنية التالية كالدادية والتكعيبية والانطباعية وهي نوع من أنواع التصوير التشكيلي يتجرد من التعقيد الذي كان سائدا في المدارس الكلاسيكية السابقة لذلك يصور الانطباعيون المشهد من الطبيعة مباشرة في لوحاتهم أي من وحي الانطباع الأول (وهذا سبب تسميتهم بالانطباعيين) بمجرد النظر إليه، كما يستخدمون الضوء بصفة انعكاسية فوق سطوح الأشياء وبالتالي قد تشاهد اهتزاز الضوء فوق سطوح اللوحات الانطباعية بشكل واضح، كما أن الانطباعيين يبتعدون عن تقسيم الألوان وخلطها بل كانت الوانهم متجاورة كما اتجهوا إلي السرعة في تصويرهم واستخدامهم تقنية حركة الفرشاة بمهارة شديدة ولذلك قد يستطيع المشاهد العادي ان يكتشف ببساطة اتجاه ضربات الفرشاة في لوحات الانطباعيين. وتظهر تلك السمات في جل لوحات فان جوخ التي تستطيع أن تتنسم فيها عبق الطبيعة.
فيلم “عند بوابة الأبدية” لم يكن الأول عن الرسام الهولندي فان جوخ، فقد قدمت الشاشة الفضية العديد من الأفلام حول قصة حياته من أشهر هذه الافلامLust for Life (1956) بطولة كيرك دوغلاس وانتوني كوين، واخراج فينسنت مينيللي، وفيلم “فنسنت وثيو” للمخرج روبرت التمان (1990)، وفيلم “فان جوخ» للمخرج موريس بيالا 1991، وغيرها.
إلا أن أهم ما يميز فيلم “عند بوابة الأبدية” هو إبراز الهم الفني لفان جوخ الذي من خلاله رأي العالم ووضع مسألة اضطرابه العقلي في خلفية الأحداث وكأنها عرض بسيط وعذاب نفسي وتلقائي جراء رؤيته المغايرة للأشياء وتأمله لهذا الكون معاكسا لتلك الطروحات السابقة التي تناولت جدلية الخلل العقلي والإبداع والانتحار، واعتبرت أن مرحلة الاضطراب النفسي والمرض العقلي محرك للإبداع. هذه الدراسات طالت فان جوخ والرسّام النرويجي إدفارد مونش صاحب لوحة “الصرخة“الشهيرة الذي لقي نفس مصير فان جوخ.
تلك رسالة الفيلم التي أرادها جوليان شنابل مخرج الفيلم الذي قدم أفلاما ناجحة، هو نفسه رسام وفنان تشكيلي عمل على إعادة إنتاج بعض أعمال فان جوخ لاستخدامها في الفيلم، وهو أيضا من علم بطل الفيلم وليام دافو الإمساك بالفرشاة وبتكنيك فان جوخ.
باللحية الحمراء والطاقية المصنوعة من القش نجح وليام دافو الممثل صاحب الموهبة والحضور والأداء الفريد في دس الحزن والشجن والعذاب الداخلي بين تجاعيد وجهه لتظهر المعاناة عميقة وحقيقية حتى عندما تبتسم الشخصية. وجاءت انفعالاته صادقة وموزونه حسب مقادير الحدث الدرامي في كل مشهد ونجحت كاميرا شنابل التي اقتربت من عيون وليام دافو في رصد ذلك التوتر والقلق التي يعتري داخل الشخصية والذي أظهره دافو بأداء رصين يستحق الإشادة. وليس غريبا أن يترشح مع أربعة ممثلين أخرين للحصول على الاوسكار القادم بعد حصوله علي جائزة مهرجان فينسيا.
ولعل التحدي الكبير الذي واجه شنابل عندما أراد تقديم الجديد حول فان جوخ هو خلق التكوين البصري ومجال الرؤية مثلما كان يراهما فان جوخ ويرسمهما في لوحاته وخاصة تك اللوحات المستمدة من الطبيعة باتساعها، وهذا ما نجح فيه شنابل لحد كبير، فنتشعر أنه أعاد رسم لوحات فان جوخ وأعاد أيضا تكوينات الطبيعة كما جاءت في لوحات الفنان بكاميرا واضاءة تماهت مع تلك اللوحات وخلقت ما يمكن ان نطلق عليه دراما الألوان.
أما السيناريو الذي أعطي شخصية فان جوخ بعدا تراجيديا وهاله لا تحيط إلا أنبياء الفن وشهدائه، فقد نجح في تقديم سرد هادئ ينساب من حوار صوفي وشاعري وتتابع أحداث جاءت كخلفية لرسم اللوحات وكأن الحدث الأساسي هو اللوحة نفسها فعندما رسم فان جوخ بورتريه لطبيبة الدكتور جاشيه، رسم الحزن الذي يقبع في صدره ووضعه على ملامح الرجل ولونه بألوان تنطق بالحيرة.
وكانت موسيقي البيانو والكمان الرائعة كأن مصدرها روح فان جوخ وايقاعها دقات قلبه. فيلم “عند بوابة الأبدية” تحفة فنية ولوحه بديعة تعلق في صدر متحف فان جوخ السينمائي. وتعيد ذكري فنان تعاقد مع الخلود.