عن الزمن والمدينة: رؤية ذاتية في فيلم تسجيلي

يوما  بعد يوم يثبت السينمائيون المبدعون المحددون، أن الفيلم التسجيلي الحديث لم يعد مجرد تسجيل لوقائع حقيقية، كما لم يعد الوثائقي مجرد توليف للوثائق المصورة ووضعها في سياق ما، فقد كسر السينمائيون الموهوبون أصحاب الرؤية الخاصة، الحدود القديمة الصارمة التي تفصل بين التسجيلي والروائي، وبين الوثائقي والخيالي، لصالح شكل جديد متحرر يمزج بين هذه الأشكال كها، بل ويضفي عليها أيضا نكهة خاصة تتمتع بالحرارة و الصدق والرونق والسحر.

هذه “النكهة” الخاصة يمكن أن نلحظها كأفضل ما يكون، في الفيلم البريطاني الطويل “عن الزمن والمدينة” On Time and the City  للمخرج تيرنس ديفيز.

هذا الفيلم من افلام تيرنس ديفير جاء مخالفا لأفلامه الروائية الطويلة السابقة، في كونه يستخدم الوثائق المصورة، والأغاني، والتعليق الصوتي بلغة جديدة، تقترب من الذاتي بقدر ما تبتعد عن الموضوعي، تصوغ الصور في علاقاتها معا بلغة شاعرية لا تنفصل عن استخداماته المتكررة على شريط الصوت لأبيات من شعر ت. س. إليوت، بل وابتكاره الشخصي في صياغة كلماته الذاتية التي ينقل من خلالها للمشاهدين عالمه الخاص كما عرفه.

الصور الكلمات تتداعى في سياق شجني مثير للتأمل في الماضي، لكنه لا يخلو بالتأكيد من نزعة “نوستالجية” فيها الكثير من الحنين. وكلما اقترب من الواقع أكثر، قلت هذه الجرعة الحنينية وازدادت جرعة النقد، بل والسخط أحيانا.

لكن لعل أبرز ما يميز هذا الفيلم البديع المنسوج من مئات اللقطات التي تم اختيار الكثير منها من الأرشيف مع لقطات حديثة صورها ديفيز لفيلمه خصيصا، هو ذلك الحس الإبداعي الذي يسير على نهج الأفلام السابقة للمخرج- المؤلف، أي ذلك المتعلق بالرؤية الذاتية، أو بالأحرى، بالسيرة الذاتية.

هنا يربط ديفيز بين المدينة التي ولد ونشأ فيها وعرف السينما عند أبواب دور العرض القديمة فيها (ليفربول)، وبين الأحداث الكبرى التي شهدتها المدينة أو انعكست عليها، طوال الخمسينيات والستينيات، من الحرب الكورية إلى زواج الملكة اليزابيث الثانية. وهو أيضا ينتقل من المدينة كساحة فسيحة مفتوحة على البحر للحرية، للتأمل في القادم، الى كونها تضم واحدة من أبرز وأقدم الكاتدرائيات الكاثوليكية في بريطانيا، وهنا يتطرق ديفيز الى علاقته بالكاثوليكية، كيف بدأ تشككه ثم تمرده عليها والى أين انتهى.

وفي لقطات تعكس المتابعة الذكية يصور المخرج لقطات حديثة (صورت في 2008) للكنائس القديمة التي كانت فخر الطائفة الكاثوليكية في المدينة، وقد تحولت، وياللمفارقة، إلى حانات ومطاعم وقاعات للرقص!

وإذا كان العامل الديني سلبا أو إيجابا، أحد المؤثرات الرئيسية في تكوين ديفيز، وبالتالي يخصص له مساحة لا بأس بها في فيلمه، فديفيز يبدو أيضا مهموما كثيرا بالعامل الطبقي، فهو كأحد أبناء الطبقة العاملة الفقيرة في ليفربول، يشعر بالغضب الشديد من فكرة “التدني”، التهميش، القبول بالأمر الواقع. وهو يتوقف طويلا ويكرر في لقطات منتقاة من الأرشيف ومن الجريدة السينمائية، أمام النمط المعماري الجديد الذي تبدو عمارته اقرب الى عمارة السجون، الذي بدأ تشييده في الخميسنيات في ليفربول (وعموم بريطانيا في الواقع) لأسر الطبقة العاملة. المباني العالية ذات النوافذ الجهنمية المتعددة التي يتم عزل الأسر فيها، وقمعها باخفائها عن الواجهات.

لكنه يتوقف ايضا أمام فريق “البيتلز”.. أبناء ليفربول الذين ثأروا لفقرهم وأصولهم وحققوا ما لم يحققه أحد في تاريخ بريطانيا الموسيقي حتى الآن.

ويعلق ديفيز علىالفيلم بصوته الشجي، الحزين حينا، الغاضب في أحيان أخرى، في تدفق وحرارة وتلقائية غير معهدوة في الأفلام الوثائقية من قبل. إنه يصنع مع الموسيقى التي يختارها ديفيز بعناية كبيرة، ومع انتقالات المونتاج ولقطاته المتعارضة المتقابلة، واختيارات ديفيز من البرامج التليفزيونية القديمة والأغاني الشائعة أو تلك التي كانت تشده خلال طفولته، عملا ملحميا مليئا بالحب والكراهية، تلك “التيمة” التي خرجت منها أعظم الأعمال الأدبية والفنية. الحب للمدينة، للناس، للحياة، والكراهية للتدني، والاستبعاد والقهر بكل أنواعه.

إن فيلم “عن الزمن والمدينة” امتداد واضح لفيلمي تيرانس ديفيز السابقين “أصوات بعيدة… لاتزال حية”   Distant Voices… Still Lives(1988) و”خاتمة اليوم الطويل” The Long Day Closes(1992)، في عنفهما وغضبهما ونظرتهما القاسية إلى الماضي. لكنه أيضا يتوقف في نهاية فيلمه أمام ليفربول الحديثة، في الزمن المضارع اليوم، لكي يعبر عن عدم فهمه لها أو تعرفه عليه. إنه يتعجب من ضياع الشباب الذي يمرح ويسرح مساء السبت في المدينة، يبحث عن أي مجال للصخب وانفاق المال بلا معنى، في حين أنه لا يعرف له هدفا.

ربما ينظر الكثيرون إلى فيلم ترنس ديفيز على اعتبار أنه يصدر عن عقلية “قديمة” لا يمكنها قبول الجديد بالضرورة، وربما يكون للبعض تحفظاته على حالة “الإحباط” التي يشعر بها مخرج عجز طيلة السنوات الثماني السابقة على فيلمه هذا، عن إخراج فيلم بسبب عجزه عن تدبير التمويل المناسب إلى أن جاء هذا الفيلم (في 72 دقيقة) من تمويل جهات عدة داعمة للثقافة مع مؤسسة بي بي سي. لكن لاشك أنه سيكون من المجحف ألا يعتبر “عن الزمن والمدينة” قصيدة شعر سينمائية، وإحدى تحف الفن الرفيع التي تنقل الفيلم غير الخيالي إلى آفاق جديدة.. تخرجه من عالم إلى عالم، ومن مجال ضيق إلى آفاق رحبة بلا حدود. ولعل هنا تحديدا تكمن أهميته الحقيقية.

Visited 16 times, 1 visit(s) today