عن استعمال وسوء استعمال السينما

تساي مينغ ليانغ

ترجمة: أمين صالح

[أجزاء من محاضرة ألقاها تساي مينغ ليانغ Tsai Ming-Liang في الجامعة الوطنية المركزية في تايوان في 26 مايو 2010، ونشرت في مجلة Senses of Cinema، العدد 58، مارس 2011.  

في هذه المحاضرة ناقش سلسلة من الموضوعات من بينها: تاريخ السينما التايوانية، تأثير فرانسوا تروفو على أعماله، قلقه بشأن تحويل السينما والتجارب الثقافية إلى سلع تجارية، انتقاله إلى مجال الفن التركيبي installation وفضاءات صالات عرض الأعمال الفنية (الجاليري).

في نقده لهذا العصر، الذي فيه يبدو أن كل شيء قابل للرمي والتخلص منه، يقول: “لا شيء في حياتنا ينبغي التخلص منه بسهولة. جوهرياً، أرغب في وضع كل شيء قيد الاستعمال ثانيةً”.]

                                        *****

استهلال: عن كراسي الصالة المهجورة

مضى وقت على آخر زيارة لي لهذه الصالة، صالتكم. أخمّن أن القليلين هنا يعرفون أن المقاعد الموجودة في هذه الصالة جاءت من صالة فو-هو، وهي الصالة التي صوّرنا فيها فيلم Goodbye, Dragon Inn (2003). كنت داعماً قوياً لفكرة بناء صالة سينما في حرَم هذه الجامعة. بعد هدم صالة فو-هو، أغلب المقاعد تم رميها والتخلص منها، وأنا سعيد لأن بعض المقاعد نُقلت إلى هنا، ولا تزال صالحة للاستعمال حتى يومنا.

بمناسبة الحديث عن مقاعد السينما، يسرني أن أعلمكم بأن متحف الفنون التشكيلية في تايبي قد ضم أعمالي التركيبية إلى مجموعة مقتنياته الدائمة. في الواقع، ثمة أربعة أعمال في هذه السلسلة التي تتألف من فيلم قصير بعنوان “إنه حلم”، ومجموعة من المقاعد المنتزعة من صالة سينما قديمة في ماليزيا. هذه الأعمال أنجزت بتكليف من بينالي فينيسيا في 2007. المعرض لم يحصل على تغطية إعلامية في الأوساط التايوانية.

السينما تموت مرات عديدة

بعد أن عرضت أعمالي في مهرجان فينيسيا، كتب ناقد فني دنمركي يقول إن في أعمال تاي مينغ ليانغ تموت السينما لكنها أيضاً تنبعث في الوقت نفسه. الحديث عن انبعاث السينما أمر أثار اهتمامي كثيراً. إننا غالباً ما نسمع من نقاد السينما، طوال تاريخها، كلاماً عن موت السينما، لكن من النادر أن نسمع ما يتصل بانبعاثها.

خلال الثمانينيات، كان هناك نوع من النقد الذي أعلن موت السينما التايوانية. لماذا؟ لأن الجمهور كان قليل العدد. نسبة الإنتاج هبطت من 200 فيلم في السنة إلى 12. هكذا، من منظور تجاري، أعلن النقاد موت السينما التايوانية.

في العام الماضي التقيت بمخرج ألماني ذكر لي أنه في العام 1984 كان هناك بزوغ مفاجئ للنقد الذي أعلن موت السينما الألمانية. مع موت راينر فرنر فاسبندر في 1982، دخلت صناعة السينما الألمانية كلها في طور مختلف. الحكومة الألمانية توقفت عن دعم السينما، مما أدى إلى انتقال عدد من المخرجين الألمان إلى خارج البلاد.

من فيلم “وداعا تنين إن”

 الحكومة دافعت عن نفسها بالقول إن الفيلم ينبغي أن يكون مصنوعاً من أجل الجمهور العام، تماماً كما تفعل هوليوود. في النهاية، مجموعة من النقاد اليائسين أعلنوا وفاة السينما الألمانية الجديدة.  في الواقع، نحن نتذكر فرنر هيرزوغ، فاسبندر، فيم فيندرز وغيرهم من رموز السينما الألمانية الجديدة، لكن بالكاد يمكننا تذكّر أي مخرج ألماني عظيم بعد الثمانينيات. وهذا في اعتقادي مرتبط بالتسويق، بالمنظور التجاري. يبدو أن كل بلاد كابدت مرحلة مماثلة من تجربة موت سينماها الوطنية، رغم اختلاف الأسباب. ذلك ألهمني في خلق أعمال تركيبية. سواء أكانت هذه الأعمال ميتة أم حيّة، أردت فحسب أن أعبّر عن أهمية صالات السينما، كأماكن عامة، بالنسبة لتجربة طفولتي الخاصة.

عن الفيلم بوصفه فناً والطعام الكوري الزائف

إذا الفيلم فن، فإن العمل ينبغي أن يكون تأملات الفنان، أكثر مما هو شيء مقدّم لتسلية الجمهور العام. بالطبع هناك أفلام تجارية تتخطى التوقعات وتصبح فناً عظيماً. لكنني لست مهتماً بصنع أفلام لمجرد أن أحقق ربحاً. أعمالي السينمائية هي من إبداعي الخاص، وهي غير منفصلة عن تجربتي الحياتية. كل شيء بالنسبة لي هو مصدر إلهام، من أغنية قديمة أسمعها، إلى المقهى الذي أمتلكه. لا شيء عشوائي، ولا شيء ينبغي تحقيقه من أجل الربح فحسب.

إليكم هذه الحكاية المشوقة. قبل بضعة أيام ذهبنا، انا ولي كانغ شينغ إلى مدينة تايشونغ لحضور مناسبة عامة. وجدنا صعوبة في العثور على مطعم منعزل، لأننا أردنا تجنب الإزعاج. أخيراً وجدنا مطعماً كورياً صغيراً. عندما قُدّمت إلينا أطباق الطعام، أصابنا الذهول إذ، من وجهة نظري، ليس صعباً طهو لحم مشوي كوري بطريقة مقبولة. لكن المقبّلات، لدهشتنا، بدت سيئة جداً.

عندما طلبنا خساً أو صلصة كورية حارة، قال لنا صاحب المطعم: “نحن التايوانيين لا نستخدم مثل هذه الأشياء مع اللحم المشوي”. لكن لماذا يفتح شخص مطعماً كورياً لمجرد أن يربح مالاً؟ وكيف يسمى مطعماً كورياً في حين أن كل شيء معدّل ومحوّر ليتلاءم مع ذوق السكان المحليين؟ من خلال الملصقات والبوسترات العديدة، الخاصة بالمسلسلات الكورية الشهيرة، المعلقة في أرجاء المكان، تفهم ما يتجه إليه هذا المطعم. إنه يصبو إلى جذب جمهور الأعمال الكورية. وصاحب المطعم، على الأرجح، لم تطأ قدماه الأراضي الكورية، وربما تعلّم طبخ الطعام الكوري من برامج الطبخ المعروضة في التلفزيون.    

الولع بمشاهدة الأفلام:

التاريخ الموجز للموجة الجديدة التايوانية

كنت مولعاً بالسينما منذ وقت مبكّر جداً. أذكر أنني بدأت في مشاهدة الأفلام مع جدّي وجدّتي وأنا في الثالثة من العمر، وشيئاً فشيئاً تحولت المشاهدة إلى عادة. إن تاريخ ارتيادي صالات السينما يشبه تاريخ أي متفرج آخر. خصوصاً إذا كنت من شرق آسيا، لا يهم في أي قطر أنت تعيش، في أي مدينة أو بلدة، طالما توجد هناك صالة سينما، أنت غالباً ما تتقاسم تجربة المشاهدة نفسها كما الآخرين.

تساي مينغ ليانغ

كان بوسعي مشاهدة أفلام من هونغ كونغ، تايوان، الصين. شاهدت عدة أفلام أوبرا صينية أنتجت قبل الثورة الثقافية. ما كان مفتقداً في تجربة المشاهدة عندنا هو اطلاعنا على السينما العالمية، أن نشاهد أفلاماً هندية مثلاً، أو الموجة الجديدة الفرنسية، التي لم أكتشفها إلا بعد بلوغي العشرين عاماً. حينذاك لم أكن أعرف فاسبندر. ما سبب ذلك؟ لأن الحكومة، والأستوديوهات المحلية، كانت انتقائية جداً بشأن الأفلام التي يرغبون في إنتاجها أو استيرادها. إنهم لا يهتمون إلا في السوق. بالنسبة لهم، الوظيفة الوحيدة للأفلام هي الترفيه، وأن تكون نتاجاً مربحاً. وإذا أردت أن تشاهد فيلماً كازاخستانياً، أو فيلماً طليعياً، أو من نتاجات السينما العالمية، فيتعيّن عليك أن تذهب إلى المهرجانات السينمائية. بعد سنوات الثمانينيات، حين تم رفع القانون العرفي في تايوان، بدأت السينما السائدة في هوليوود في غزو الشاشات. ووقتذاك أيضاً تم عرض الأفلام في التلفزيون، وصالات السينما القديمة أضحت شيئاً فشيئاً مهجورة. كان زمن التغيير. عندما تذكرت هذا الوضع، فكرت في خلق فن تركيبي مع كراسي الصالة القديمة. إنها محاولة لإحيائها بطريقة ما، لوضعها قيد الاستعمال من جديد.

في أغلب الأقطار الآسيوية، هناك إما سينما تجارية أو لا توجد سينما. لكن تايوان كانت استثناءً (كذلك اليابان، حيث يوجد عدد كبير من الجمهور الذي يدعم السينما غير التجارية ويستمتع بها). ما جعلها مختلفة هو توكيدها على الثقافة التقليدية. بالتالي، حتى تحت حكم نظام شيانغ تاي شيك الاستبدادي، هذا التوكيد ظل قائماً. في تايوان، سينما المؤلف كان موجوداً منذ 25 سنة تقريباً. وقد برزت في الثمانينيات بعد أفول السينما التجارية مع رفع القانون العرفي وازدهار الديمقراطية، ومع الانتقال المفاجئ من سينما ذات توجه تجاري إلى سينما غير تجارية. مع ذلك، الموجة الجديدة التايوانية لم تنجح حقاً في خلق جمهور عريض ذي حساسية وذائقة فنية مميّزة. لذلك، بعد الازدهار المؤقت، بدأت الموجة في التلاشي تدريجياً، ومباشرةً استبدلت بأعمال تجارية غامرة، هيمنت على السينما التايوانية.  

على أي حال، بعد رفع القانون العرفي، كان هناك تدفق مفاجئ للمعرفة الخارجية بشأن الأفلام، والذي أدى إلى تأسيس أرشيف الفيلم الصيني التايبي. وفي الوقت نفسه، بدأ مهرجان الحصان الذهبي في تايبي بعرض الأفلام بدلاً من أن يكون مجرد حفل لتوزيع الجوائز. في سنة افتتاح المهرجان، عملت كمرشد، وشاهدت الطوابير الضخمة لآلاف الأشخاص وهم ينتظرون في الخارج للحصول على تذاكر مجانية. لقد كان الجمهور حينذاك مشحوناً بالشغف لتذوّق الأفلام ومعرفة العالم. ولم أصادف وقتذاك شخصاً يتذمر ويشكو من صعوبة مشاهدة الأفلام الأجنبية، حتى لو لم تتوفر للأفلام ترجمة. كان هذا الجمهور يقدّر ويثمّن الأفلام الصعبة، المعقدة (مثل فيلم ألان رينيه: العام الماضي في مارينباد – 1961). بينما الآن ينتقلون فجأة إلى مواقع التواصل عبر الانترنت ليمارسوا النقد غير البنّاء إذا لم يستمتعوا بالفيلم. كل ما أستطيع قوله هو أن زمني مختلف تماماً عن زمنكم. في زمننا، كان الناس متعطشين للأعمال الفنية التي تتحدى مداركهم.

في ذلك الحين، عندما جئت إلى تايوان، تعرّفت على نطاق واسع من الأفلام. عندئذ علمت أن الحظ حالفني. الحكومة لم تعد تفرض قيوداً عليّ، والمجتمع صار أقل خضوعاً للسيطرة السياسية، والرقابة السينمائية أرخت قبضتها وصارت أقل صرامة. فجأة وجدنا وميضاً من الإبداع. مرحلة جديدة قادمة. شيء أثير ينبثق هنا: الحرية. لكن ثمن هذه الحرية كان عالياً بعض الشيء.        

من هو الآمر الناهي في السينما؟

الفيلم ليس مصنوعاً من أجل الترفيه فقط. إنه شبيه بما قاله الكاتب التايواني جان هونغ تزي: “كل كتاب تقرأه هو طريق يفضي إلى تغيير نفسك”. مع أنك قد لا تخضع لأي تحوّل بعد قراءة الكتاب، فإن كل مرّة تفتح فيها كتاباً، لابد وأن تكون مستعداً لأن تتغيّر. بطريقة مماثلة، عندما تشاهد فيلماً، فأنت سلفاً تفترض تغييراً ما.

مع ذلك، قلة من الناس، في الوقت الحاضر، يقرأون الروايات بانتظام. وفي هذه الأيام، عدد الأفلام التي يشاهدها الناس يتجاوز عدد الكتب التي يقرأونها. لكن أي نوع من الأفلام يشاهدون؟ إنهم متخمون بالقصص التجارية المعروضة على شاشة التلفزيون على نحو متكرر. بالنسبة لهؤلاء، السينما تعني شيئاً واحداً: الترفيه. الفن، بالنسبة لهم، مفهوم متكلّف ودخيل.

لقطة من فيلم “وجه”

ناقد من هونغ كونغ، بعد أن شاهد فيلمي “وجه” في مهرجان كان، اعتبر الفيلم “هراءً”، وقال عنه أنه نرجسي. لكن صديقاً، من هونغ كونغ أيضاً، قال لي أنه لم يستطع النوم بعد مشاهدة فيلمي لأن كل لقطة تعبّر عن شغف بصنع الفيلم. إذن مشاهدة الفيلم كله هي أشبه بممارسة الحب لمدة ساعتين. اعتقد أن هذا تعبير مثير للاهتمام. لكنني أعلم أن أغلب الجمهور يتفقون مع الناقد. إنهم يعلنون موت السينما لأن الأفلام ليس لها قيمة تسويقية. كما إنهم يصرّحون بأن السينما ينبغي أن تكون وسطاً للإعلان. أن تكون دعاية للمدينة، أن تمثّل الأمّة أو تروّج للسياحة. أينما أذهب، غالباً ما يطرحون عليّ السؤال نفسه: “متى ستأتي إلى هنا وتصوّر فيلمك عندنا؟ ينبغي أن تصوّر فيلماً هنا حتى يتعرّف العالم الخارجي على تايوان بشكل أفضل”. لكن لماذا يعد هذا ضرورياً؟ لا ينبغي للفيلم أن يكون مصنوعاً فقط لغايات تسويقية.

توصلت إلى إدراك أن تحوّلي الخاص يعقب مباشرةً نشوء الديمقراطية التايوانية. أن أناضل في هامش النظام الاجتماعي السياسي لأجني المزيد من الحرية لكي أبدع، وأيضاً لأبحث عن نفسي. لكن في النهاية، الكبح الحقيقي لا يأتي من الخارج بل من داخل نفسك. شيئاً فشيئاً تبدأ في كبح فيلمك كما لو كنت نفسك مكتب الرقابة. نحن نعيش في إطار يقيّدنا حيث لا ينبغي أبداً عرض الكثير من التابوهات. ثمة قيود في كل مكان، لكن القيد الأشد هو الذي تفرضه على نفسك. لماذا؟ لأنك لا تجرؤ على تحدي الحساسية الراسخة. أنت ممتثل لأنك تريد أن تنجو، تريد أن تكسب المال.

أغلب المخرجين يمتثلون للقوانين لأنهم لا يريدون لأعمالهم أن تتعرّض للمنع. لكنني أفكر بشكل مختلف. من بعض النواحي، أنا سعيد لأن بعض أفلامي تعرّضت جزئياً للرقابة، إذ حينذاك تحصل على فرصة للجدال، لمجابهة السلطة. إن لم تتعرّض أفلامي للرقابة، بطريقة أو بأخرى، فسوف أشعر بأنني محاصر. في النهاية، ما يجعلني أشعر بالارتباك والقلق هو أن أواجهكم، أنتم الجمهور. من بعض النواحي، أنا في الواقع لا أكترث بالجمهور. قد يصفني البعض بالغرور. لكن الحقيقة هي أنني لا اكترث، أو الأفضل أن أقول: أنني لا أعرف كيف اكترث.  

دعوني أروي لكم قصة أخرى. ذات مرّة تلقيت دعوة لحضور مناسبة ما. هناك قام مسؤول بيروقراطي بطرح سؤال على مجموعة من طلاب الثانوية لقاء جائزة مالية. سألهم: كم كان إيراد فيلم Cape No. 7؟” لكن أحداً لم يعرف الإجابة. ثم طرح سؤالاً آخر: “من هو الآمر الناهي في السينما؟” قام طالب وقال: “أنا”. فحصل على الجائزة. لكنني نهضت وقلت للطالب: “لا يجب أن تحصل على الجائزة لأن إجابتك خاطئة. أنا مخرج سينمائي وأنت لست زعيمي. بوسعك أن تمتنع عن مشاهدة فيلمي، لكنك لن تكون زعيمي ولن أكون زعيمك”.

القوة الآسرة للصور السينمائية الصامتة

هذه الأفكار التجارية والديمقراطية الزائفة هي متجذرة عميقاً في العالم الذي نعيش فيه. لذلك، غالباً ما أشعر بأني لست في المكان المناسب، لأنني لا أستطيع أن أحقق أفلاماً ذات توجه تجاري. هذا النوع من السينما كان غريباً عليّ حين اكتشفته في الثمانينيات، لكنني أيضاً أشعر كما لو أنه مقدّر لي أن أكون ممسوساً بفيلم “الأربعمائة ضربة” منذ أن شاهدته للمرة الأولى، ممسوساً خصوصاً بوجه الصبي (بطل الفيلم).

الطريقة التي بها يسرد تروفو قصة المراهق تتجلى كسلسلة من الأيقونات المميّزة، خصوصاً المشهد الختامي الذي يصوّر هروب الصبي ووصوله إلى الشاطئ ثم يستدير ليحدّق مباشرةً في الكاميرا. إنها مواجهة حقيقية بين الشاشة والمتفرج. يبدو كما لو أن الفيلم يتحدث مباشرةً إليكم، إلى الجمهور. إنه يكشف عن المشكلات، لكنه لا يهدف إلى اقتراح أي حلول. ربما لن تشعر بتأثير الفيلم حين تشاهده، لكن ذكرى تجربة تلك المشاهدة قد تأسرك لأيام عديدة. لم ذلك؟ ما هي قوة الصور (خصوصاً في الأفلام المصوّرة بالأسود والأبيض)؟  

هذا هو ما دفعني إلى التفكير بشأن ما يكونه الفيلم، وما تكونه الصورة السينمائية. حين لا تكون الحبكة مبنية على نحو تام وكامل، أي حين لا يكون الغرض الرئيسي للفيلم أن يروي قصةً، ولا يستعين بنجم مشهور، فإن الأشياء تكون مختلفة. تحت مثل هذه الظروف البسيطة والعادية، تتوصل فجأة إلى إدراك المعنى الحقيقي للسينما. وهذا تماماً ما أحسب أن تكونه أعمالي. قد يكون الخط القصصي بسيطاً، لكن يراد له أن يحمل قوة الصورة، بحيث يكشف جوهر السينما.

من فيلم “الخوف يأكل الروح” لفاسبندر

هذا المفهوم نشأ على مهل من النظر إلى وجه ليو، وفيلم فاسبندر “علي.. الخوف يلتهم الروح” (1974)، وهو عن قصة حب بين امرأة مسنّة، في الستينات من عمرها، ورجل عربي في الثلاثينات. إنه فيلم غير مريح، يحتوي على صور تزعج الجمهور. لكن ما إن يقبل المتفرج بمشاهدته حتى النهاية، حتى يحدث تحوّل في تحديقته.

الكثيرون كانوا يرون ضرورة ابتعاد السينما عن رواية القصص، مع ذلك، تقاليد صنع الفيلم عادةً تستلزم أن يكون المخرج راوياً جيداً للقصص. شخصياً، لا اعتبر نفسي راوياً جيداً للقصص، بالتالي اخترت أن أكون من نوع آخر. لقد تحرّيت، على نحو واسع، كلاسيكيات السينما المبكرة، وقد أذهلتني العديد من الأفلام الصامتة.

ينبغي على الجميع مشاهدة أفلام فريدريك مورناو، وفيلم كارل دراير “آلام جان دارك” (1928). أفلام مورناو رائعة، استثنائية. لا لغة منطوقة. قوة الصورة فحسب. مع اكتشافي لسينما مورناو، أدركت المعنى الحقيقي للصور.

لقد تحريت مراحل عديدة من تاريخ السينما، ودرست طرائق مختلفة في السينما مثل الشكلانية والرمزية وغيرهما. لكن فقط بعد اكتشافي سينما مورناو، أصبح كل شيء واضحاً. أذكر أني قرأت مرّة مقالة تشير إلى أن هيتشكوك كان يتردد بكثرة إلى ستوديو مورناو. لم تبدو أفلامه فاتنة وجذابة؟ قبل أيام قليلة عرضت فيلماً لمورناو على 30 طالباً، وقد أبدوا إعجابهم بالفيلم.

الأفلام الصامتة نجحت في رواية القصص. وقد تتساءل، من أي معهد سينمائي تخرّج مورناو؟ لكن آنذاك لم تكن هناك معاهد سينمائية. السينما كانت في بداياتها. وقد تتساءل: من أين تعلّم شارلي شابلن وكارل دراير كل تقنيات الفيلم تلك؟ يمكنني أن أجيب بالقول إنهم ببساطة كانوا يحترمون الأشياء التي يصوّرونها.

Visited 52 times, 1 visit(s) today