“ضباب الحرب” رؤية كاشفة لأمريكا الأخرى

يعتبر المخرج الأمريكي إيرول موريس أحد أهم السينمائيين الذين يصنعون ما يعرف بالأفلام الوثائقية أو غير الخيالية non-fiction في عالمنا اليوم. وقد أخرج حتى الآن 12 فيلما من هذا النوع، بدأها عام 1978 بفيلم “بوابة الجنة”    Gates of Heaven  الذي يوثق لتجربة إنشاء مقبرة للحيوانات المنزلية الأليفة في كاليفورنيا ومغزاها الفلسفي وأهدافها التجارية أيضا، أما أحدث أفلامه فهو فيلم “كانوا هناك” (They Were There(2011 الذي صنع في اطار الاحتفال بمرور مائة عام على تأسيس شركة أي بي إم الشهيرة.

وقد عرف موريس بكونه أحد السينمائيين القلائل في عالمنا الذين أعادوا الاعتبار الى الفيلم الوثائقي، وقاموا بتطويره وإعادة إطلاقه في ثوب جديد، بحيث يتخلص من التقاليد القديمة الجافة التي ارتبطت بسيطرة الفكرة الأيديولوجية وحدها، وكان البعد التعليمي فيها هو الأكثر بروزا. أما أفلام إيرول موريس فهي تسعى إلى جعل الفيلم الوثائقي جذابا بنفس قدر جاذبية الفيلم الخيالي أو الروائي الدرامي، بل إن لأفلامه أيضا “دراماتها” الداخلية الخاصة التي تنبعث من تصادم الصور وطريقة تركيبها معا، وكذلك من المفاجآت التي تكشف عنها، ومن خلال طريقته الخاصة في المزج بين المقابلات الحية التي يجريها مع الشخصيات الرئيسية التي تظهر في أفلامه، وبين الوثائق العديدة المباشرة التي يصورها أو يعثر عليها ويعيد توليفها معا في سياق خلاق دونما حاجة إلى استخدام التعليق الصوتي المباشر.

ولعل من أهم أفلام موريس وأكثرها ذيوعا وبلاغة في التعبير عن أسلوبه فيلم “ضباب الحرب: أحد عشر درسا من حياة روبرت مكنمارا” (95 دقيقة) Fog of War: Eleven Lessons from the Life of Robert McNamaraالذي شاهدناه في عرضه العالمي الأول في مهرجان كان السينمائي عام 2003، وكان حقا مفاجأة مدهشة، وذهب بعد ذلك ليحصل على جائزة الأوسكار لأحسن فيلم وثائقي في العام، ويذيع صوته كأحد أهم الأفلام الوثائقية في تاريخ السينما.

وقد حضر موريس في تلك السنة إلى مهرجان كان لتقديم فيلمه ومناقشته مع حشد كبير من النقاد والسينمائيين غاب عنه بكل أسف، معظم النقاد العرب في المهرجان.

يتخذ الفيلم من شخصية غير عادية بالمرة هي شخصية روبرت مكنمارا (1916- 2009) محورا لكي يقص علينا باستخدام المادة الوثائقية الهائلة كيف يرى هذا الرجل القرن العشرين الذي كان طرفا مباشرا في صنع أهم تراجيدياته، فقد كان وزيرا للدفاع في فترة من أخصب فترات التاريخ الأمريكي والعالمي في عهد الرئيس جون كنيدي ثم خلفه الرئيس ليندون جونسون في الستينيات، وبعد ذلك رأس البنك الدولي المعروف بتوجهاته التي تخدم السياسة الأمريكية، لمدة 13 عاما،كما رأس شركة فورد.

لكن مكنمارا لا يظهر هنا بعد أن أصبح شيخا طاعنا في السن، لكي يبرر، ويبحث عن ذرائع لتفسير المواقف الأمريكية التي لعب فيها دورا المخطط بل والعقل المدبر أيضا للكثير من السياسات الهجومية الأمريكية في أكثر فترات الحرب الباردة سخونة، والتي كادت أن تنفجر وتتحول إلى حرب نووية إبان أزمة الصواريخ الكوبية عام 1961.

لكن مكنمارا يقدم هنا شهادته كرجل التحم بالسياسة الأمريكية، ولكن من وجهة نظر نقدية كأنه يراجع مسار حياته الشخصية، بعد أن نضج العقل والفكر، وأصبح يمتلك رؤية نافذة وبصيرة شفافة يمكنها التأمل في الماضي واستخلاص الدروس المستفادة منه حتى لا تنغمس أمريكا مجددا في تلك الأخطاء الكبرى التي ارتكبتها في كوبا (عملية الغزو الفاشلة في خليج الخنازير)، وفيتنام (الحرب الضارية التي كلفت أمريكا عشرات الآلاف من الأرواح) فيما بين 1965 و1973 وانغمس فيها مليونان ونصف مليون جندي أمريكي في بلاد بعيدة لم تكن تمثل أي خطورة مباشرة على المجتمع الأمريكي.

بين الخاص والعام

ويعود الفيلم مع تلك الشخصية التراجيدية الكبيرة الى دور مكنمارا في قيادة التفكير الاستراتيجي خلال الحرب العالمية الثانية، والخطط الجهنمية التي تم التوصل اليها وقتذاك وكانت تتجاوز في حجم ما أنتجته من دمار كل ضرورة استراتيجية حربية، كما يتوقف أمام دور مكنمارا فيما بعد الحرب الثانية، في قيادة مؤسسة فورد للسيارات والمركبات العسكرية، والدور السياسي المباشر الذي لعبته في مناطق الصراعات في العالم.

من الحياة الخاصة لمكنمارا، الطالب المتفوق صاحب المعدل الاستثنائي للذكاء، ابن الطبقة الوسطى، الذي يلتحق بجامعة هارفارد، وسرعان ما يشق طريقه إلى عالم السياسة في واشنطن، ومن تكوينه الشخصي وميله إلى التفوق، وزواجه م شريكة حياته وانجاب أولاده، ثم إلى مكنمارا صاحب الدور العام الذي يتحكم بشكل ما، في مصير العالم: كيف تغيرت السياسة الأمريكية بعد اغتيال الرئيس كنيدي واصبحت أكثر ضراوة وتوحشا في عهد خليفته جونسون، وكيف أصبح التورط الأمريكي في فيتنام معادلا لكل شرور البشرية التي تتمثل، ليس فقط في قتل البشر، بل في إبادة مساحات شاسعة من البيئة الطبيعية، والتسبب في كوارث لايزال كوكبنا الارضي يعاني منها حتى يومنا هذا بل إن المعاناة تزداد يوما بعد يوم.

وكالعادة يمزج إيرول موريس هنا بين المقابلات الطويلة العميقة مع مكنمارا (الذي يفتح قلبه وعقله ليقدم حقا شهادته للتاريخ) وبين الكم الكبير من الوثائق السينمائية النادرة، والعودة لمواقع الأحداث، والتوقف أمام تواريخ معينة ودعمها بالصور الفوتوغرافية أحيانا، أو بالتسجيلات الصوتية أخيانا أخرى، مع التوقف امام هذه الرؤية الهائلة المرعبة لدور الفرد في تشكيل العالم، مع محاولة اللحاق بتلابيب الصورة والقبض عليها من خلال الموسيقى اللاهثة التي وضعها فيليب جلاس Philip Glass شريك موريس في معظم أفلامه.

ولعل من اهم ميزات هذا الفيلم انه ليس أحد الافلام “الماضوية”، أي تلك التي تضفي صورة خاصة ساحرة على الماضي أو تعرضه كجانب “تاريخي” انقضى وأصبح من الذاكرة، بل كونه يتواصل مع المشاهدين طيلة زمن عرضه، ويذكرهم على نحو غير مباشر، بما تفعله أمريكا اليوم: في العراق وأفغانستان ومناطق أخرى من العالم، كيف أصبح العملاق الأمريكي يكرر أخطاءه، وكيف تجتمع الطاقة الهائلة على الدمار، مع القدرة على تدمير البيئة والطبيعة في كوكبنا، وما هي المخاطر الحالية التي تحدق بنا وكيف يمكننا وقفها. وهو بهذا المعنى، عمل شديد المعاصرة

الاستخدام المفرط للقوة

مكنمارا يكشف أيضا حلال مقابلاته في هذا الفيلم البديع عن الكثير من الجوانب التي لم تكن معروفة من قبل مثل الاستخدام المفرط للقوة في اليابان قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية كما يكشف مثلا من خلال تسليط الضوء على حملة تدمير المدن كما حدث عندما القيت كميات هائلة من القنابل المدمرة على مدينة طوكيو بعد ان كانت اليابان قد استسلمت بالفعل مما تسبب في قتل مائة الف ياباني دون أي ضرورة حربية بل لمجرد الترويع!

وفي حالة نادرة من حالات تقريب الأمور الى العقل الأمريكي يعقد مكنمارا مقارنات بين المدن اليابانية التي تم تدميرها مثل هيروشيما وناجازاكي ويوكوهاما وطوكيو، وبين مدن أمريكية مشابهة في الحجم وعدد السكان، وماذا كان يمكن أن يحدث لها في حالة تعرضها لقصف مشابه بنفس أنواع أسلحة الدمار.

يتوصل مكنمارا في لحظة نادرة من لحظات الوعي ويقظة الضمير وهو في الخامسة والثمانين من عمره، يخوض تجربة الاعتراف والتكفير على مقعد أمام كاميرا إيرول موريس، إلى أن مقولة الكولونيل الأمريكي كيرتس لوماي كانت صحيحة تماما عندما قال “إننا لو كنا قد خسرنا الحرب العالمية الثانية لكنا قد حوكمنا باعتبارنا مجرمي حرب”. ويتساءل: ما الذي يجعل الأمر غير أخلاقي في حالة الهزيمة، وأخلاقيا في حالة النصر”؟

هل يدين مكنمارا نفسه في هذا الفيلم؟ هل كانت ادانة النفس هدفا أساسيا يهدف الى ارضاء المشاهدين، أم أنه يدين، ربما من حيث لا يدري، عصرا، وسياسات وتصورات كانت سائدة في زمن الحرب الباردة، وأفكارا وممارسات كانت مدفوعة بالرغبة في تحقيق أهداف محددة في زمن الصراع بين كتلتين كبيرتين؟ هذا ما يُترك للمشاهدين للتوصل الى استنتاجات بشأنه.

ميزة الفيلم

ولعل الصعوبة الفنية في السيطرة على تلك المادة الهائلة التي تمكن من جمعها ايرول موريس، هي في ذات الوقت، الميزة الكبرى التي يتحلى بها هذا العمل البديع الاخاذ. فنحن أمام مزيج فني دقيق ومتقن من الوثائق البصرية المصورة، المقابلات، الصور الفوتوغرافية، قصاصات الصحف، التسجيلات الصوتية للمكالمات التليفونية(بين جونسون ومكنمارا مثلا)، صور من نشرات الأخبار التليفزيونية، مقتطفات مصورة من المؤتمرات الصحفية لمكنمارا وغيره، تقارير اخبارية من الستينيات، صور لاجتماعات كنيدي مع وزرائه ابان أزمة الصواريخ الكوبية مع تسجل صوتي لما قيل في تلك الاجتماعات، لقطات من الطائرات لعمليات القصف الجوي الوحشي للقرى الفيتنامية.. وغير ذلك الكثير والكثير.

إن “ضباب الحرب” في النهاية فيلم معاصر يساهم في إزالة الكثير من الضباب، ليس فقط من عالم السياسة وما يجري في كواليسها، بل ومن عالم الفيلم الوثائقي وما يحيط به من أفكار مسبقة باتت في حاجة ضرورية حاليا للمراجعة والتنقيح.

وقد بات حري بالمهرجانات السينمائية العربية أن تحتفي بهذا المخرج وأعماله وتسلط الضوء عليها. ولمن عودة ثانئة إليه لتناول المزيد من أعماله المهمة.

هنا رابط لمن يرغب في مشاهدة الفيلم:

فيلم “ضباب الحرب”

Visited 23 times, 1 visit(s) today