سحر القاعة السينمائية: خلق تصورات ذهنية غير متوقعة

ظلام القاعة

لماذا الظلام داخل القاعة السينمائية؟ هل هو شرط أساسي لتحقق الفرجة السينمائية؟ هل هو انعكاس لتلك المنطقة المظلمة والغامضة في لاوعينا؟ أم هو تلك اللحظة الضرورية التي تسمح لنا بالعودة إلى آناتنا الداخلية وذواتنا؟ هل من الضروري أن يرتبط الحلم والخيال و التطهير والتماهي والتماثل بالظلام؟                                                  

يرى بيل فيولا، وهو أحد أهم فناني الفيديو في العالم، أن المكان الحقيقي الذي يوجد فيه الفيلم، ليس هو شاشة العرض أو حتى في داخل القاعة السينمائية، ولكنه في عقل وقلب الشخص الذي يشاهده. فالسواد الذي يعم قاعة العرض هو استعارة أساسية بالنسبة لهذا الفنان، لأن هذا اللون هو الذي يوجد داخل رؤوسنا.

وهكذا حين يغوص المتفرج داخل هذا السواد فإنه ينعزل لحظيا عن الناس المحيطين به وعن العالم الحقيقي، ليعيش تجربة جمالية جديدة، ومواجهة بين عدة أزمنة: بين زمنه الخاص وزمن العرض والزمن التخييلي الذي يفرضه الفيلم… وبين عدة فضاءات أيضا: الفضاءات الحقيقية (الفضاءات الخارجية وفضاء القاعة التي يوجد فيها) والفضاءات المقترحة في الفيلم.  إن هذا السواد الذي يعم القاعة هو أيضا من يضفي على الصورة بعدا ذهنيا وحلميا، ويدفع المشاهد إلى الانتقال إلى أعلى مستويات الإدراك والوعي.

 الفيلم هو قوة مُوجِهة للتجربة الداخلية القادرة على خلق تصورات ذهنية غير متوقعة، والتي غالبا ما تنحدر من اللاوعي لتبرز مشاعر جديدة.                                                                                  

أما بارث فيرى أن هذا الظلام هو أحد العناصر الأساسية التي تخلق فضاء ثالثا، هو الفضاء التنويمي كهدف لتجربة المشاهد. لا يتعلق الأمر هنا بالفضاء الذي يُلعب فيه الفيلم ولا بفضاء السرد في الفيلم، ولكن بالمكان الذي يعكس حياتنا الخاصة في مرآة الفيلم. وكثافة التنويم المغناطيسي هو الذي يزيد من درجة الحرية والتخييل الذي يمكننا من الوصول إلى هذا الانعكاس لفهم ذواتنا.                                                                                   

جاذبية القاعة

في بحر ظلام القاعة يتحرر الجسد، يشتعل ويشتغل وتُشرق كل الرغبات والعواطف الخفية  الممكنة. لا نستغرب إذن حين نشاهد بعض الأشخاص يسرقون لحظات عشق عندما يستوطن الظلام، فطقوس العرض والإثارة الجنسية للمكان هي من يفرض ذلك. قد يزداد الأمر سخونة مع بعض المشاهد الايروتيكية.

 تحس بالحميمية بالرغم من وشوشات أو قهقهات بعض من يحيطون بك. نور السينما لا يفضح لأنه ينبعث من الخلف وينعكس على الشاشة، عكس ضوء التلفزيون الذي يجتاحك من الأمام. فالضياء يصدر عن مصدر  مضيء،  بينما النور انعكاس للضياء. التلفزيون بهذا المعنى، شمس تستطيع مشاهدتها في ضوء النهار،  بينما السينما قمر لا يمكنك الاستمتاع به إلا عندما يسدل الليل ظلامه. ضوء السينما كاشف عن ما وراء الظلمة، لذلك فهي تتجاوز المرئي وتكشف عن اللامرئي. السينما تصنع التذكر أما التلفزيون فيصنع النسيان، يقول جان لوك جودار.                                                                       

قوة جاذبية القمر أقوى من جاذبية الشمس. وحين نكون داخل القاعة فإن السينما تمارس هذا التأثير على المتفرج وتحدث في جسمه هذا المد والجزر، مما يغير نفسيته وسلوكه ومزاجه حسب طبيعة وقوة هذا المد والجزر. تنبعث إذن حياة مقمرة في القاعة لدى المتفرجين حين ينسلخ النور من الشاشة. الشمس، قد تعميك أشعتها وتحجب عنك الرؤية إذا نظرت إليها، أما القمر فكلما رفعت رأسك وركزت  النظر فيه كلما أحسست بجماله وعظمته. ألم يقل    جودار أيضا: “عندما نذهب إلى السينما نرفع رؤوسنا وعندما نشاهد التلفزيون نطأطئها. 

قدسية القاعة

تشبه الهندسة الداخلية لقاعة السينما نوعا ما هندسة الكنيسة. فعلو القاعة في الداخل يجعلك  تحس أنك قزم أمام عظمة المكان وقدسيته. وما إن تجلس على الكرسي حتى تجتاحك شاشة بيضاء مستطيلة. المستطيل في الثقافة المسيحية الغربية هو رمز المادة الخام للكون التي ينحدر منها الإنسان. يمثل المستطيل سيرورة الاعتقاد. السينما كما الدين، تخاطبك من الفوق وتفرض عليك طقوسها. تريدك أن تكون مريدا خاضعا وطيعا وأن تعتقد ما تقوله. تزعج السينما أهل الدين كثيرا. يدركون جيدا خطورتها، فهي بالنسبة لهم سلاح ذو حدين، فإما أن تعتم “العقول المستنيرة” أو تستنير “العقول المظلمة”. ولا غرابة أن نجد اليوم رجال دين مسيحيين بأبيدجان يسيطرون يوما بعد يوم على دور السينما ويحولونها إلى كنائس ودور للعبادة، لأنهم يعتبرون أن هذه الأماكن هي مقر أبناء رسل الشيطان، وكان لا بد من تحريرها وتطهيرها وإعادتها إلى أبناء الله.                                                                                                 

 الخروج من القاعة

السينما قادرة على خلق ميكانزمات جديدة للرؤية، وقادرة على جعلنا ننسى نسبيا العالم الحقيقي الذي نعيش فيه، ودفعنا لخلق عالم جديد وإن تشابه مع الأول.  في قاعة السينما يبدأ الوهم، وهم الحركة ووهم حركة الشخوص ووهم العالم الذي نراه. وهذا الوهم هو الذي يدفعنا للتخييل لنشكل صورة عن العالم  ويمنحنا أيضا اللذة والإثارة. يكفيك فقط أن تكون مستعدا لتعيش هذه العوالم. غير أن هذا العالم لحظي وآني، يتلاشى بمجرد أن تغادر القاعة.

إن الخروج من القاعة أشبه بالخروج من الرحم أو من كهف أفلاطون، إنه ولادة جديدة وعودة إلى العالم الحقيقي. قد تكون هذه العودة مأساة للبعض، ومتعة لا تقارن للبعض الآخر. يسعى المتفرج الذكي للبحث عن خيط رابط بين هذا العالم السحري الخفي الذي منحه له الفيلم وبين العالم الحقيقي الذي يوجد خارج القاعة. وبهذا المعنى فالفيلم الجيد هو الذي يجعلك تخرج منه وأنت حامل لتساؤلات قلقة ومنفتحة باستمرارعلى كل الاحتمالات، وبنظرة مغايرة عن الذات وعن الإنسان وعن العالم.                                                                                                   

Visited 33 times, 1 visit(s) today