“ستو زاد” .. نظرة خاصة تعانى من زيادة الجُرعة!

شهرزاد في زمانها "أيقونة" شهرزاد في زمانها "أيقونة"

مشكلة فيلم “ستّو زاد” الذى أخرجته هبة يسرى عن جدّتها المطربة العظيمة شهرزاد تتمثّل ببساطة فى أن به من عناصر القوة ما يعادل عناصر الضعف، فيه تلك النظرة الذاتية والخاصة التى تعطى الفن حلاوته وتفرّده، ولكن فيه أيضاً من الترهل والثرثرة البصرية ما يستحق المراجعة، لدينا مخرجة تريد أن تكون مختلفة، ولكن هذه الإرادة سرعان ما تخرج عن السيطرة فتزيد الجرعة ويتوه القصد والمعنى والهدف.

هبة يسرى مخرجة موهوبة وطموحة بلا شك، اختارت وهى طالبة فى معهد السينما بالجيزة أن تصنع فيلما تسجيلياً قصيراً عن فتيات الليل بعنوان “المهنة امرأة”.

نجحت فى اقناع بعض أولئك الفتيات بالكلام أمام الكاميرا فتحدثن بلغتهن العارية. لم يكن الفيلم مثيراً على الإطلاق، على العكس، فقد صنعت هبة عملاً مؤلماً لا ينسى، وطبعا قامت الدنيا ولم تقعد داخل المعهد وخارجه، ويقال إنه الآن محفوظ فى حزائن معهد السينما، ولا يتم عرضه على الإطلاق.

عندما شاهدتُ الفيلم ضمن برنامج خاص للأفلام الممنوعة، أدهشتنى حساسية طالبة فى تناول موضوع شائك أكثر من جرأة الموضوع أو جرأة ألفاظه، أعجبنى الفيلم أكثر من فيلم آخر لنفس المخرجة الشابة تتحدث فيه عن عشقها للفن وحبها للأضواء وللنجوم الكبار، ومعاناتها فى إقناع والدها بالتحديد بأن تدرس السينما، رغم أن الأب دارس للموسيقى، وابن المطربة العظيمة شهر زاد، ووالده / جدّ المخرجة، كان أحد العازفين الكبار على آلة التشيللو فى فرقة أم كلثوم.

رؤية ذاتية

بدا واضحاً أن أحد اهتمامات المخرجة علاقتها بالفن ورغبتها فى التحقق، وقد جاءت فكرة عمل فيلم وثائقى طويل عن الجدة شهرزاد “على الجرح” كما يقولون، ولذلك اندمجت هبة يسرى تماما مع مثلها الأعلى فذابت الحدود بينها وبين موضوعها، كل ما حققته شهرزاد تمنّته الحفيدة، فى كل لقطة كانت تقول لنا أنها تريد أن تكون مثل هذه السيدة.

أعتبرُ أن هذه الرؤية الذاتية جداً من عناصر القوة فى الفيلم، لأنه من السهل أن تلجأ الى التقليدى، والتقليدى فى هذه الحالة هو أن تقول إن شهر زاد ولدت سنة كذا، وغنت لأول مرة فى سنة كيت، وتزوجت من فلان، وتعاونت مع السنباطى فى هذه الأغانى، وظهرت كمطربة فى تلك الأفلام، ولكن الجديد فعلاً أن يكون الفيلم من خلال عيون حفيدة تعشق الفن، الجديد أن يكون اسم الفيلم” ستّو زاد” وليس ” شهر زاد”.

ليس معنى ذلك أن الفيلم سيهمل المعلومات الفنية، ولا الأغنيات الأشهر للمطربة الكبيرة مثل “ياناسينى” و “عسل وسكر”، وليس معناه  أنه لن يتعرض لحفلاتها داخل وخارج مصر، ولكن كل ذلك سيشكل أساس الفيلم وليس شكل البناء الفعلى الذى يدور بوضوح حول شابة لم تتحقق تشعر بالفخر بسبب جدتها التى تحققت، رغم اختلاف الأجيال.

جمال هذه الزاوية أن الفيلم أصبح بالضرورة عن الجدة والحفيدة معاً ، ولكن ظلت المشكلة الواضحة أن المخرجة لم تستطع أن تضبط فكرتها، فأصيب البناء بالخلل، وتدخّلت أكثر من مرة بصوتها أو عن طريق كتابة عبارات ساذجة بلا معنى أفسدت الإيقاع والمعنى، وأوقعت الفيلم فيما يقترب من الثرثرة التى تستلزم أن تحذف مما تم تصويره ما لا يقل عن نصف الساعة.

شهرزاد مع حفيدتها المخرجة هبة

هناك مثلا مقدمة عن حب هبة لجدتها التى تعتبرها عشقها الأول، ثم تتحدث المخرجة بصراحة على أنها لم تكن تحلم أصلاً بأن تقف وراء الكاميرا، ولكنها أرادت أن تكون ممثلة، وتستطرد بأن تعرض لنا لقطة من أحد أفلامها وهى تحت الأضواء وتستمع الى تصفيق المعجبين.

كان يمكن أن يتم تكثيف البناء بصورة محكمة وصارمة يتحقق التوازن فيها بين الذاتى والموضوعى، وخصوصاً أن السرد وجد حيلة جيدة جداً لتحقيق ذلك: هبة ووالدها وشقيقها محمود يزورون الجدة شهرزاد فى شقتها المطلة على النيل، تغيّرت ملامح الجدة تماما، بدت مثل ربة منزل عجوز عادية تعاونها إحدى الخادمات.

خيوط البناء الأساسية أيضاً كانت تستطيع أن تحقق التوازن المنشود لأن الحوار سيتواصل بين ثلاثة أجيال متتالية: جيل شهر زاد وزوجها عازف التشيللو البارع الذى شجعها ودفعها للأمام مما جعلها تتحقق فنياً وأسرياً، وجيل الابن، والد المخرجة، دارس الموسيقى الذى يتشكك الآن فى الوسط الفنى، ولا يستريح لما حققه هو فى حياته لافنياً ولا أسرياً، والذى يداعب ابنته فى الفيلم ويصفها بالمجنونة، كما يعترض على علاقتها بزملاء العمل، ثم جيل هبة الطموح التى تظهر بنفسها فى مشاهد كثيرة وهى تحاور جدتها بانبهار، كما تناقش والدها بقوة. كان واضحاً أنها تريد أن تقول لنا إنها تحلم بأن تكون مثل الجدة وليس مثل الأب.

خطوط نموذجية

هنا خطوط نموذجية حقاً لصناعة فيلم تسجيلى استثنائى عن مطربة استثنائية بواسطة حفيدتها التى تحلم بأن تكون استثنائية، ولكن نظراً لفوضى ضبط البناء المونتاجى للفيلم، وحشد الكثير من المشاهد التى تكرّر المعنى، فإنك ستبذل جهداً هائلا فى اكتشاف هذه الأسس الهامة للفيلم، طبعا هناك مشاهد يتحقق فيها هذا الجدل بين رأى الجدة شهر زاد ورأى ابنها بشكل متتابع، ولكن هناك، فى مناطق أخرى، استغراق فى بعض النقاط التى كان يكفيها مجرد المرور العابر.

كان الفيلم يستعيد قوته من زاويتين: الأولى عندما تحكى شهرزاد عن نجاحاتها الفنية مثلما حدث فى أغنية يا ناسينى التى أثارت غيرة أم كلثوم فوصفتها بأنها سيمفونية وليس مجرد أغنية، أو عندما نغوص فى علاقة المطربة الكبيرة بزوجها، كأن نسمع أشرطة الكاسيت التى تحمل رسائل الحب الموسيقار المغترب فى سلطنة عمان الى زوجته بالقاهرة.

فى مقابل ذلك، كان الفيلم يترهل كلما قطعته بعض تأملات المخرجة المسموعة أو المكتوبة عن الفن والإبداع، صحيح أن هناك جهدا  كبيرا وواضحا فى الإستعانة بمواد مصورة لحفلات شهر زاد فى مصر والعالم العربى، وشرائط فيديو عائلية تظهر فيها المخرجة وهى طفلة مع جدها وجدتها ووالدتها، بالإضافة الى مجموعة من الصور القديمة التى تحتفظ بها شهرزاد لأعمالها المسرحية ولحفلاتها الغنائية.

ولكن كل ذلك لم ينصهر مع الأسف فى بناء متماسك. ليس أدل من ذلك مثل أن الفيلم الذى بدأ بزيارة الجدة كان يجب أن ينتهى بوداعها، ولكننا نكتشف بعد مشهد الوداع أن الفيلم مازال مستمراً، حيث تظهر شهرزاد من جديد وهى تغنى!

نوستالجيا

هناك نوستالجيا (أو حنين) واضحة الى هذا الزمن البعيد الذى أتاح لفتاة كان والدها قوى الشخصية وعنيفاُ، لدرجة أنه جعلها تنام على السلم، أن تتمكن رغم ذلك أن تكون مطربة كبيرة فى زمن العمالقة، هناك حنين الى عصر الكبار مثل أم كلثوم التى كانت وراء زواج شهر زاد من زوجها عازف التشيللو القدير، وهناك حنين الى عصر المواهب الصوتية الحقيقية التى تغنى على المسرح باقتدار نراه فى مشاهد كثيرة.

فى المقابل، يبدو الأب من أنصار الحياة العادية والتقليدية، محافظ جداً الى درجة تجعله يستنكر ما تفعله ابنته من العمل والسهر مؤكدا أن والدته، شهر زاد كانت تسهر فى رعاية زوجها العازف خلفها، وعندما تجادل هبة من خلف الكاميرا بأن من حق الموهوبات  تحقيق أنفسهن، يتحدث الأب موافقاً بشرط أن تكون المرأة  موهوبة بنسبة 100% مثل أمه المطربة العظيمة.

أحببتُ هذا الجدل الذى يؤكد ما قلته بأن الفيلم فى الواقع عن الحفيدة التى تتمنى أن تتحقق مثل الجدة، أحببتُ أيضاً فكرة الإستثنائى فى مقابل التقليدى، التناقض بين أن يتحقق جيل النصف الأول من القرن العشرين رغم كل الصعوبات، بينما يحلم جيل الألفية الثالثة بالتحقّق وسط عبارات الجدل والسخرية، وبالطبع قلت “الله” أكثر من مرة لقفلات الست شهرزاد المدهشة فى أغنياتها الرائعة.

فقط تمنيتُ أن تكون قدرات وأدوات هبة يسرى على مستوى فكرتها وطموحاتها، وتمنيت أن تؤمن فى أفلامها القادمة بأن قرارالحذف لا يقل أهمية عن قرار الإضافة والتصوير، وأن تحقق التوازن بين الذاتى والموضوعى لأن ذلك يجعل الأفلام أكثر عمقاً ونضجاً واكتمالاً.

ولكننا فى النهاية أمام فيلم يستحق المشاهدة، إن لم يكن من أجل الطرب والإعجاب بأغنيات شهر زاد،  فمن أجل  الجدل والنقاش مع حفيدتها الشابة الموهوبة.  

Visited 50 times, 1 visit(s) today