“سبايا” داعش ورحلة البحث عن الخلاص
في ليلة حالكة بشمال شرق سوريا، يقود رجلان سيارة دفع رباعي متهالكة إلى داخل الهول، وهو مخيم يضم لاجئين من عائلات مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، في محاولة جريئة يغلفها الخوف والأمل من أجل العثور على فتاة أيزيدية كانت قد اختطفت قبل سنوات بعد مقتل أسرتها أمام عينيها، واحتجزت كـ “سبية” أو خادمة جنسية، لا تملك من أمرها إلا أن تلبي أوامر مالكيها. وبعد مهمة إنقاذ مرعبة تغادر الفتاة رفقة الرجلين خارج أسوار هذا السجن، وهم يحاولون تفادي مطاردات السيارات والرصاص.
قد يبدو للوهلة الأولى أن المشهد من أحد أفلام الحركة الهوليوودية، لكنه واقع مؤلم تعيشه آلاف السبايا الأيزيديات اللاتي يحلمن بقليل من هواء الحرية بعيدًا عن قبضة الأسر؛ رحلة حاول المخرج السويدي ذو الأصول الكردية هوجير هيروري توثيقها في شريطه التسجيلي “سبايا”، بعد خمس سنوات من قيام داعش بقتل ألاف الأيزيديين، الأقلية الكردية، بعد السيطرة على محافظة سنجار في العراق، وخطف ما يزيد عن 7 ألاف فتاة.
“سبايا” هو الفصل الأخير ضمن ثلاثية قدمها هيروري عن مآسي الحرب والانتهاكات القاسية للأيزيديين. بدأت في 2016، بفيلم “الفتاة التي أنقذت حياتي” وثق خلاله أزمة أكثر من مليون أيزيدي فروا من جحيم داعش؛ وبعدها بعام واحد قدم “مفكك الألغام” وهو تصوير مأساوي لخبير كردي فكك آلاف القنابل والألغام المزروعة على جوانب الطرق.
في فيلمه المتوج بجائزة الإخراج من مهرجان صندانس السينمائي وجائزة نجمة الجونة البرونزية في النسخة الخامسة لمهرجان الجونة السينمائي، لم يقم هيروري بسرد الأحداث من خلال المقابلات أو الاستعانة بمشاهد تمثيلية معدة مسبقاً، لكنه اختار توثيق قصته لحظة حدوثها الأن وهنا، فأضفت عليها شيء من العفوية والتلقائية للممارسات اليومية للشخصيات؛ فالمخرج لا يريد أن يؤطر أي من شخصياته تحت مسمى البطل، فمحمود وزياد، متطوعي مركز البيت الأيزيدي، ليسا الوحيدين المنخرطين في عمليات الإنقاذ، ولكن أيضا تواجه النساء المتسللات إلى المخيم – بعضهن محتجزات سابقات – أكبر المخاطر.
دعم أسلوبية هيروري طريقة تصويره للفيلم باستخدام الكاميرا المحمولة والتي لعبت دور المتلصص طوال الأحداث، سواء خلال عمليات التحري واقتحام المخيم التي قادها محمود وزياد للعثور على الفتيات المختطفات، أو إخفائها خلف نقاب ارتداه خصيصا للدخول خلف صفوف المتسللات اللاتي يدخلن بحثاً عن الفتيات أو جمع المعلومات عنهن، وهو ما أسفر عن مشاهد مرعبة، صادمة، ظهرت في بداية الفيلم ونهايته، تصور هول الحياة داخل مخيم الهول.
بعد عدة رحلات أخرى من هذا القبيل، وربما المئات بعد توقف الكاميرات عن التسجيل، ينقلنا هيروري إلى فصل آخر هام يخفف من وطأة المأساة على المشاهدين، وهو رحلة تعافي الفتيات تمهيداً لعودتهن إلى الحياة الأسرية الطبيعية. هنا نلتقي بعائلة محمود ووالدته سهام وزوجته زهراء، التي نراها تتذمر باستمرار بسبب انهماك زوجها في العمل، ولكنهما لا يدخران أي جهد ليس لتوفير السلامة الجسدية لهؤلاء الفتيات وحسب، وإنما لتمهيد الطريق نحو عملية الشفاء النفسي؛ هذا المناخ ساعد الفتيات لمشاركة تجاربهن المؤلمة براحة وصدق.
إن ما نحاول التقاطه في هذا الفصل ليست تلك النغمة الميلودرامية المصاحبة لقصص الفتيات لدر عطف المشاهدين، وهو ما حاول هيروري الابتعاد عنه بصورة كبيرة، وإنما تصوير تلك الندوب النفسية التي ستظل تلازم هؤلاء الفتيات طيلة حياتهن. فوسط مجموعة من المحادثات اتخذت طابع الحوارات الثنائية، نغوص داخل العوالم النفسية المحطمة للفتيات اللائي يتساءلن عن قيمتهن ومستقبلهن، يستغربن كيف من المفترض أن يجلب الإله الخير ومع ذلك يسمح بحدوث ذلك الدمار. تقول احداهن: “أنا اكره هذا العالم، كل شيء أسود”، وتتحدث أخرى بشكل مأساوي عن كيفية بيعها لـ 15 رجلاً مختلفاً ذاقت مع كل منهم كافة أشكال العنف الجسدي والجنسي، أو الفتاة التي ترفض عائلتها ومجتمعها قبول ابنها كونه نتاج علاقة مع داعشي، ما يولد لديها شعوراً بالاغتراب والحسرة في آن واحد. فلا تجد الكثيرات منهن بديلاً عن الانتحار حتى بعد إطلاق سراحهن.
وعلى الرغم من سوداوية الصورة وكآبتها، يُبقي هيروري على تلك النغمة المفعمة بالأمل، ذلك السلاح الوحيد الذي يمتلكه محمود ورفاقه في إنقاذ المزيد، وتمتلكه الفتيات أيضا لجمع شتات من تبقى من أرواحهن، وهو ما تم تصويره في مشهد بديع تقوم فيهم الأم سهام بإحراق ملابس السبايا السابقة في فناء المنزل، كفعل يرمز إلى عملية الولادة من جديد.
“سبايا” قصة قلما نراها تقدم بهذا الطرح الجرئ والمخيف سواء على مستوى السيناريو أو التصوير؛ هوجير هيروري يورطنا في أحداثها بصورة مباشرة ليذكرنا بأن مخلفات الحروب ليست بضعة مبانٍ متهدمة، ولكن قلوب مجروحة وأرواح منكسرة تتألم بصمت رغبة في الخلاص.