سام منديس: من شكسبير إلى جيمس بوند
في عام 1999 جاءت الفرصة الذهبية لسام منديس للانتقال من عالم المسرح إلى السينما، وفي قفزة واحدة انتقل من مسرح شكسبير الملكي في لندن، إلى هوليوود ليخرج واحدا من أهم أفلام التسعينات وأكثرها بقاء في ذاكرة عشاق السينما وهو فيلم “الجمال الأمريكي”.
منديس الذي يرأس لجنة تحكيم المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة في الدورة المقامة حاليا من مهرجان فينيسيا (البندقية) السينمائي، من مواليد 1965، في ريدنغ بجنوب انكلترا، وهو ينتمي لأسرة ذات صلة وثيقة بعالم الفن والأدب، فجده “الفريد منديس”، كان أديبا روائيا مرموقا (من ترينيداد)، ووالده جايميسون بيتر منديس، كان أستاذا للأدب، أما والدته فهي كاتبة روايات خيالية وناشرة. ومنذ مرحلة مبكرة من حياته، أبدى منديس اهتماما كبيرا بعالم الخيال: المسرح والسينما والكتابة الأدبية. وقد حصل منديس على تعليم عال وتخرج من جامعة كمبردج، ثم التحق بعد تخرجه عام 1987 بالعمل في المسرح، وأصبح وهو في الخامسة والعشرين من عمره مخرجا مسرحيا أخرج أعمالا بارزة مثل “بستان الكرز” لتشيكوف بطولة الممثلة المخضرمة جودي دنش، قبل أن ينتقل إلى مسرح شكسبير الملكي ويخرج عددا من الأعمال الشهيرة.
الجمال الأمريكي
انتقل هذا المخرج المثقف الذي تعمق في دنيا المسرح واكتسب خبرات عملية في التعامل مع الممثلين، ليخرج “الجمال الأمريكي” الذي سيحقق نجاحا كبيرا ويحصل في العام التالي، على خمسٍ من جوائز الأوسكار من بينها جائزة أحسن فيلم وجائزة أحسن إخراج التي حصل عليها سام منديس، ومن هنا بدأت نقطة انطلاقه في عالم السينما حيث أخرج حتى الآن 11 فيلما، أهمها “جارهيد” (أو “رأس الجرة) عام 2004، و”الطائرة الورقية” (2007) و”الطريق الثوري” (2008). لكن أشهرها وأكثرها نجاحا بالطبع الفيلمان اللذان أخرجهما ضمن سلسلة أفلام العميل السري رقم 7 أو جيمس بوند وهما “سكايفول” (السقوط من السماء”)- 2013 و”سبكتر (الشبح)- 2015.
يصور فيلم “الجمال الأمريكي” الذي يمزج بين التراجيديا والكوميديا، كيف تلقي أزمة منتصف العمر ظلالها بقسوة على حياة وشخصية بطله الذي ينتمي للطبقة الوسكى من سكان المدن الصغيرة (يقوم بالدور كيفن سبايسي، في أداء بديع ناله عنه جائزة الأوسكار). فهذا البطل- اللا-بطل، يشعر أن لم تعد هناك أي قيمة لما يقوم به من عمل بعد أن فقد اهتمامه به، وجفت حياته الزوجية وأصبحت هناك هوةواسعة بينه وبين زوجته التي تبحث عن المال، وانعزل عن ابنته المراهقة الشابة التي لا تثق به كما ينبغي لابنة أن تثق بأبيها، فيقرر أن يتمرد على حياته ويعيش كما يحب، وإن اتخذ خلال ذلك، سلوكا يتصف بالغرابة، معلنا لنا في اللقطات الأولى من الفيلم أنه “سيموت بعد سنة”!
هذا فيلم عن التفكك الذي تعاني منه الأسرة الأميركية وعجزها عن تحقيق التواصل، عن العزلة والوحدة والشعور القاتل بالفشل، والرغبة في التمرد والبدء من جديد، لكي يحقق المرء ما عجز عن تحقيقه طيلة السنوات التي مضت من عمره.. هنا يصبح المفجر الحقيقي لتمرد هذا الرجل على ذاته وعلى حياته السابقة، فتاة في عمر ابنته، تتراءى له في أحلامه التي ربما تكون جزئيا أحلام يقظة، ولكن دون أن يجرؤ على اقتحامها مكتفيا بالاستمتاع بمشاهدتها، فهو يعرف أنها “الفاكهة” المستحيلة قبل أن تكون المحرمة.
عبثة حرب لم تقع
كان الموضوع الأساسي في فيلم “جارهيد” ما يشعر به الانسان في أكثر لحظات حياته استدعاء لليقظة والانتباه، فهو عن عبث الوجود الإنساني اثناء الحرب، من وجهة نظر جندي من جنود المارينز الأميركيين، تدرب لكي يصبح “آلة للقتل” ولكن دون أن تتاح له الفرصة لممارسة القتل. إنه يخوض فترة التدرب العنيف بكل ما يكتنفها من إهانات ومشاق بل واعتداءات بدنية ونفسية، ويتحملها بثقة، قبل أن يقع الاختيار عليه لكي يصبح قناصا في فصيلة لمراقبة الأهداف المعادية، ثم يلحق بالقوات الأميركية في السعودية وهي تستعد لاقتحام العراق إبان حرب تحرير الكويت عام 1990.. ينتظر في الصحراء الملتهبة طويلا مع زملاء فصيلته، صدور قرار الاشتباك في الحرب، لكن هذا القرار لا يأتي أبدا، و بعد 175 يوما من الانتظار الممل في الصحراء، يفاجأ مع زملائه، بأن لا دور لهم في المعركة، بعد أن قامت الصواريخ والطائرات بتدمير قوات “العدو“. وتأتي المفاجأة التالية حينما تتوقف الحرب فجاة بعد أربعة أيام فقط.
تعامل فيلم “جارهيد” بأسلوب مختلف مع الدراما الحربية
كان هذا الفيلم تحديا حقيقيا أمام سام منديس، بسبب غياب الحبكة التقليدية المثيرة في فيلم من أفلام الحرب، بل وغياب الحرب نفسها- بمشاهدها المثيرة– من الفيلم. لكنه نجح في تصوير الحالة النفسية لبطله التي أودت إلى شعوره بالإحباط مما يكاد يقوده إلى الجنون. وكما في “الجمال الأمريكي” يتميز الفيلم بلمسات جمالية خاصة ترتبط بالسينما الأوروبية (الفنية) وليس بأفلام الحرب التقليدية الأميركية، بل ويصل الفيلم في بعض مشاهده، إلى السوريالية: حصان ينبعث من جوف الحرائق المشتعلة في آبار النفط لكي يحتمي بجنود لم يخوضوا المعركة، بل يكتفون بالفرجة عليها من بعيد، يحولون النجاة من الجحيم الذي اندلع بعد تفجير آبار النفط، ثم يحتفلون في النهاية بحرب لم يكن لهم فيها دور!
العودة إلى البيت
كان من اللافت للنظر كثيرا، أن يحقق منديس، المعروف بأفلامه الجادة، نجاحا كبيرا في إخراجه فيلميه عن مغامرات جيمس بوند، اللذين فى عليهما ملامح إنسانية، وهما من نوعية أفلام الحركة والعنف والمغامرات والإثارة والتشويق، بل يمكن القول إن فيلم “سبكتر” أحد أفضل الأفلام التي عرفتها هذه السلسة، وسيبقى طويلا في الذاكرة، المشهد الأول من الفيلم الذي يستغرق عشر دقائق في تصوير نتصل بدون قطع، بواسطة كاميرا “الاستيديكام” المحمولة التي تتابع البطل من مجال الاحتفال بيوم الموتى في شوارع العاصمة المكسيكية، ثم وهو ينتقل لتعقب أحد كبار رجال العصابات وقتله لكي تبدأ مطاردة مثيرة في الشوارع تنتهي في طائرة مروحية!
غير أن منديس أعلن بعد نجاح فيلم “سبكتر” أنه لن يعود لإخراج أفلام جيمس بوند، مؤكدا أنه يشعر بحنين جارف للعودة إلى المسرح. وقد صرح بأنه لا يشعر بالسعادة بقدر ما يشعر وهو يجري تدريبات على مسرحية جديدة مع أبطال المسرحية من الممثلين، أو وهو ينتهي من عمل مونتاج فيلم من أفلامه، وأعرب عن اشتياقه للعودة الى مناخ المسرح، الذي يقول إنه يشعره بأنه في بيته، وبأنه يستطيع التحكم في العمل على العكس من التصوير السينمائي الذي كثيرا ما يشهد فوضى كبيرة في مواقع التصوير. ولكنه لن يتوقف تماما عن الإخراج السينمائي، بل سيجمع بين العالمين كما أعلن. ومن يعرف؟ لقد سبق أن رفض منديس إخراج فيلم “سبكتر” لكنه عاد فقبله – ربما تحت إغراء المال الكثير الذي جناه من وراءه- وربما يعود مجددا إلى إخراج فيلم جديد ضمن السلسلة الشعبية الشهيرة، فمن يدري!