“روك القصبة”.. لا تجعلوا أى امرأة تبكى!
لا الفكرة جديدة، ولا الحكاية فريدة، ولكن سحر الفيلم الفرنسى المغربى Rock The Casabaha من كتابة وإخراج ليلى المراكشى، يكمن فى تلك المعالجة التى قدمت نماذج لا تنسى للمرأة المغربية والعربية، وفى تلك النظرة النسوية التى لا تغفل أفقا إنسانيا متسامحا ومتصالحا مع الماضى، حتى لو كان مليئا بالكوارث.
اشتغلت ليلى على التفاصيل، فرسمت صورة جماعية لأسرة، وصورة أيضا لوضع المرأة فى لحظة ما، نسج السيناريو المتماسك، إلا من ملاحظات بسيطة، خريطة لعواطف تمس الإنسان فى كل مكان، وانتهى الى ضرورة ألا يجعل المجتمع النساء تبكين، الحقيقة أن نساء الفيلم كن أحيانا على وشك الإنهيار.
شاهدت من قبل فيلمين أو ثلاثة تتخذ من وفاة الأب وسيلة لتعرية النفوس والقلوب، وحيلة درامية لاكتشاف الذات والآخر، ظهور المتوفى كروح تقودنا الى أسرته وجنازته أيضا ليس جديدا، ولكن “روك القصبة” نجح رغم ذلك فى أن تكون له بصمته، بدأ ذلك مباشرة مع مشهد البداية: الأب المتوفى مولاى حسن (عمر الشريف)، يظهر مرتديا قميصا وبنطلونا باللون الأبيض، فى خلفية المشهد قصر منيف، وهناك هرج ومرج من الخدم والحشم، ولكنه يتحدث الى الكاميرا عن حبه للسينما، كان هناك صديق يحكى لهم الفيلم قبل أن يشاهده مع شقيقه أحمد، لا ينسى مولاى حسن أن يؤكد أن ما نراه فى السينما، ليس إلا صورة لما هو فى الواقع، هنا استهلال ذكى، يمهد المتفرج للحكاية، التى ستأخذ من السينما خيالها (روح الأب الهائمة)، ولكنها أيضا عن نماذج حقيقية من الواقع العربى والمغربى، روح الأب المرحة بأداء عمر الشريف الرائع، وببريقه الساطع، ستأخذنا الى رحلة تكشف من خلال السينما، عن شخوص من لحم ودم، ثلاثة أيام فقط تجتمع فيها بنات المتوفى، ندخل الى تفاصيل الأسرار والفضائح المسكوت عنها، وتتلون صورة مولاى حسن الغائب الحاضر بألوان الفرح والمأساة، حتى يحدث التصالح فى النهاية.
فيلم نسوى
الفيلم النسوى فى رأيى هو الذى ينجح فى تقديم شخصياته النسائية بكل تضاريسها النفسية والإجتماعية بصورة قوية ومتعاطفة، ليس شرطا أن تكون مخرجته سيدة، بل إن مجموعة من أنضج الأفلام النسوية المصرية مثل “أريد حلا” و”لا عزاء للسيدات” و”أفواه وأرانب” و”أسرار البنات” و”فتاة المصنع” من إخراج رجال. ليلى المراكشى لديها حساسية فائقة فى رسم الشخصيات النسائية، ولكنها أيضا لا تشيطن الرجال، أرجو ألا تنسى أن كل هاتيك النسوة لم تجتمعن إلا تأبينا لرجل على اختلاف آرائهن حوله، بل إن مولاى حسن الروح هو أظرف وأرق شخصيات الفيلم قاطبة، نسمع عنه أنه كان لا يبالى بشراء سيارة مرسيدس، ولكنه كان يدقق فى شراء كمية صغيرة من السكر، تعتقد بعض شخصيات الفيلم أنه تسبب فى انتحار ابنته ليلى، ابن الخادمة يبدو لوقت طويل ناقما عليه، وكارها له، ولكن كل ذلك سيتبدد فى النهاية، هذا إذن فيلم منحاز لنسائه، ولكنه لا يعادى الرجل، بل يريد أن تتأسس العلاقة بين الجنسين على قاعدة مختلفة من المصارحة والمكاشفة، مع هامش كبير من التسامح، ورفض أن يكون الماضى قيدا على الحاضر أو المستقبل، ولا شك أن كل ذلك منح الفيلم طابعه الإنسانى العام، رغم مظهره النسوى الذى لايختلف عليه أحد.
الى حد كبير كانت أحداث الأيام الثلاثة متوازنة، احتفظ السيناريو بأسراره حتى المشاهد الأخيرة، ومنح فرصا متساوية لتعرية شخصياته، ولم يقتصر على جيل واحد فقط، ولم يجعل هناك ارتباطا آليا بين السن والسلوك، لدينا مثلا شخصية طاعنة فى السن (الجدة) أكثر شبابا وحيوية من شخصية شابة تكبّل نفسها بالقيود(كنزه)، كل ذلك أعطى الدراما تنوعا وألوانا مختلفة، وأتاح أيضا أطيافا من التحليل الإجتماعى والنفسى، بدا أحيانا كما لو أن القيود داخل النساء أكثر مما هى خارجهن، واكتست المعالجة بمزيج من الضحك والدموع دون تنميط أو تبسيط.
الموت والحياة
الموت حاضر بقوة فى صورة جسد الأب المسجى الذى سيتم تغسيله، وفى جنازته، وفى مراسم دفنه، ولكن هذا الموت هو الذى سيجعل النساء تبدأن حياة جديدة بدون الأب السيد، تقول الأم عيشة (هيام عباس) فى نهاية الفيلم لبناتها: “خذن حريتكن، ولا تتنازلن أبدا عنها”، هى إذن رحلة تحرر من الماضى بكل عقده وسقطاته ومشكلاته، سترث النساء ثروة الأب الغنى، وستتخلصن فى نفس الوقت من ميراثه السىء، هنا أيضا لفتة شديدة الذكاء، تم تمريرها بمنتهى النعومة الأنثوية العذبة.
أما النماذج النسائية المحورية فهن الأم “عيشة” التى تحتفظ بسر الأب حتى النهاية، والتى تعترف بأنها غفرت له لأنها أحبته، والابنة الأولى كنزه (لبنى الزبال) التى تمثل نموذج المطيعة والممتثلة، تعمل كمدرّسة، لديها زوج يعمل طبيبا للأسنان، وابن شاب أكثر تمردا، وهى محافظة حتى فى حجابها، والابنة الثانية مريم (نادين لبكى) التى تفتقد الثقة بنفسها، تزوجت أيضا بطريقة تقليدية من شاب من أسرة، أنجبت منه طفلين، ولكنها تخشى التقدم فى العمر، وتتغلب على هواجسها بإجراء عمليات التجميل، امرأة لم تتحقق حتى على المستوى العاطفى، مما يجعلها تغازل طبيب التجميل فى جنازة والدها، والابنة الثالثة صوفيا (مرجانة العلوى) التى هاجرت الى أمريكا لتعمل ممثلة، تزوجت من مخرج لأفلام الرعب يدعى جيسون رغم رفض الأب، أنجبت طفلا لا يتحدث إلا الإنجليزية، لكن أزمة صوفيا الكبرى فى علاقتها مع الأب الميت تخص شقيقتها ليلى التى انتحرت، سنعرف فيما بعد أن الفتاة حملت من خادم الأسرة زكريا، وأن الأب حاول إجهاضها خشية الفضيحة، ولكنها قتلت نفسها، صوفيا كانت قريبة من ليلى، تشبهها حتى فى الشكل، وعندما تعود صوفيا، تقرأ على جثمان الأب خطابا أرسلته لها شقيقتها ليلى قبل موتها.
هناك شخصية أخرى هامة هى الخادمة ياقوت التى تطلب منها الأم مغادرة المنزل إثر وفاة الأب، ولكن بعد مرور أيام الحداد الثلاثة، سنكتشف فيما بعد أن ياقوت كان عشيقة الزوج ملاى حسن، وانها أنجبت منه زكريا، الخادمة ايضا تحب مولاى حسن حتى بعد موته، الحقيقة أن هذا الخط هو أضعف خيوط السيناريو، وقد أدى بوضوح الى تعقيد ميلودرامى لا لزوم له على الإطلاق، يتمثل التعقيد فى أن زكريا قد أقام علاقة مع أخته غير الشقيقة ليلى دون أن يعرف، ونتج جنين عن هذه العلاقة، لم يكن الفيلم فى حاجة الى هذه العقدة المضاعفة التى أثقلت الحبكة، والتى كادت أن تأخذنا الى فيلم آخر.
فى مشاهد قليلة يظهر جيل آخر من النساء تمثله الجدة (والدة عيشة)، والتى تبدو أكثر شبابا وحرية من حفيداتها، تأكل وتشرب وتتذكر زوجها الراحل، وتنصح صوفيا بألا تعيش فى طنجة (المدينة التى تحتضن الحكاية)، فى مشاهد أخرى قليلة يظهر جيل الأطفال الذين يمرحون على هامش الجنازة، ابن صوفيا يقول عندما يرى القصر إنه مكان ملىء بالأشباح فى إشارة مجازية الى ما سنراه من شخوص، فى منتصف الفيلم يعلن الطفل كراهيته للمكان وللمغرب أيضا، ولكنه فى النهاية، يبدو سعيدا، ويتعرف من خلال فيلم قديم على أسماء أفراد عائلته.
شخصيات ذكورية
أما الشخصيات الذكورية فلم تكن نمطية، هناك العم أحمد الذى يبدو جشعا يحاول السيطرة على الميراث، والذى يقاوم الشيخوخة بالزواج من شابة صغيرة، والذى نعرف فى النهاية أنه كان يتحرش جنسيا ببنات أخيه وهن أطفال، وهناك الشاب ابن كينزه الذى يحلم بأن يكون مغنيا فى برودواى، وبالطبع شخصية زكريا الذى يشعر بالمرارة بسبب مأساته مع ليلى، ورفض الأب له، مع أنه قام بتربيته منذ أن كان فى الثامنة من عمره، ترك زكريا دراسة الطب، وفتح محلا لسرقة الأفلام السينمائية من الشبكة الإليكترونية وطبعها وبيعها، أصبح زكريا سكيرا ومدمنا للمخدرات، فيما بعد سيكتشف زكريا إن مولاى الحسن هو والده، وأنه اعترف به رسميا عام 1994، وأنه شريك إخوته فى الميراث، تبدو تصرفات زكريا طبيعية بالنظر الى عقده الشخصية التى جعلته خادما يتعلق بتراب الأسياد، ولكن تظل الشخصية الذكورية التى تدمر النمطية بوضوح هى شخصية روح مولاى حسن بتأملاتها عن الموت والحياة، وبروحها المرحة، وبعلاقتها بالحفيد الأمريكى، ثم بتلك العبارة التى يرددها عمر الشريف فى نهاية الفيلم، والتى تلخص تعاطف السيناريو مع بطلاته، يقول مولاى حسن: ” قالت لى أمى: لا تجعل امرأة تبكى، لأن الله يعد دموعها”.
رغم تماسك البناء بشكل عام، فإننى لم أستوعب تعقيد الحبكة ميلودراميا كما شرحت من قبل، ولا أظن أن الفيلم كان بحاجة الى نهاية سعيدة لعلاقة جيسون وصوفيا، إنها فى كل الأحوال امرأة مستقلة، وقادرة على العيش بمفردها سواء فى أمريكا أو المغرب، رغم أنها لا تلعب فى أفلام هوليوود إلا دور الإرهابية، ولكن يبدو أن الفيلم أراد أغلاق كل الأقواس، مستبقيا من عالم السينما الذى تحدث عنه مولاى حسن تقليد النهايات السعيدة، يبدأ الفيلم بالشجرة وخلفها نور الشمس، وينتهى بنفس اللقطة، فى كل الأحوال، نجحت نساء الفيلم فى تجاوز الماضى، اكتشفن أنفسهن أفضل، تحررن الى حد ما، آلت إليهن ثروة الأب، زرفن بعض الدموع، وسعدن بضحكات صافية حتى فى عز الحزن والألم.
نجحت المخرجة فى توزيع الأدوار، وفى قيادة الممثلين، استغلت كاريزما وقدرات عمر الشريف الذى كان يسيطر على خيال المتفرج، حتى فى تلك المشاهد التى لا نراه فيها، الممثلات كن رائعات، وكانت أفضلهن هيام عباس القديرة فى دور الأم عيشة بكل تناقضاتها وقوتها وضعفها، ومرجانة العلوى فى دور صوفيا بكل شبابها وحيويتها وحضورها وتعبيرها عن جيل أكثر استقلالا بين فتيات المغرب.
منحت الكاميرا الأهمية للشخصيات، ولكنها لم تغفل المكان، طنجة التى نشاهد الجالسات على شواطئها، سافرات ومحجاب، بالمايوهات وبالجلاليب، القصر المعزول الأبيض الذى يخفى أحداثا سوداء، مشاهد كثيرة قدمت بنعومة وسلاسة مثل مشهد نوم الأم وسط بناتها، ومشاهد المواجهة الهادئة بين عيشة وياقوت، شريط الصوت أيضا كان جيدا: أغنية ترافق جنازة الأب، وصوت عبد الوهاب يغنى “يا دنيا ياغرامى” فى المنزل، كان مولاى حسن عاشقا لعبد الوهاب، الفيلم نفسه يحمل عنوان أغنية شهيرة لفريق إنجليزى قدمها فى بداية الثمانينات، أغنية تحمل أخلاطا من اللغات مثلما يتحدث الأبطال بالفرنسية والعربية والإنجليزية، ولكنها أيضا أغنية تحتفى بالحياة وبالغناء، وفيها معنى التمرد والحرية، وما الفيلم فى حقيقته الى محاولة نسوية للمراجعة من أجل التحرر، وبداية صفحة جديدة مع الحياة.
نساء “روك القصبة” لهن شبيهات فى كل مكان فى العالم العربى، لا تحلمن إلا بالعدل والمساواة، تبحثن أيضا عن الحب، ولكنهن ترفض القهر، لا تعادين الرجل، ولكنهن قادرات على الدفاع عن أنفسهن، مولاى حسن لم يكن طاغية، ولكنه لم يكن مثاليا، يتعاطف الفيلم مع النساء، ولكنه يتفهم أن الإنسان أبعد ما يكون عن الكمال، وأن الجميع يستحقون التسامح. فى السينما، كان هناك من يكشف الحدوتة لمولاى حسن قبل أن يشاهد الفيلم، وفى “روك القصبة” عملت المخرجة وكاتبة السيناريو على فكرة سبق تقديمها، ومع ذلك فقد نجحت فى أن تجذبنا لمشاهدة حكايتها حتى النهاية.
عاشت السينما الجميلة.