روبرت دي نيرو: ألف وجه لممثل واحد
منذ منتصف التسعينات حتى وقت قريب، ظل مستوى الأفلام التي يقوم ببطولتها الممثل الأمريكي الشهير روبرت دي نيرو، في هبوط مستمر. والغريب أنه كان يقبل القيام ببطولة أفلام يعرف هو كممثل راسخ مرموق، أنها لن تضيف له شيئا إلى مسيرته الفنية، لا على المستوى النقدي أو الجماهيري. ورغم ذلك استمر في المشاركة في الكثير من الأفلام الخفيفة تحت تصور أنه يمكن أن يؤكد حضوره في الأدوار الكوميدية. وقد بلغ حد القيام ببطولة فيلم “جدي القذر” Dirty Grandpa (2016) الذي فشل فشلا ذريعا بل اعتبره بعض النقاد أيضا عملا عنصريا بغيضا. وأصبح السؤال هو: كيف سمح هذا الممثل العملاق صاحب “سائق التاكسي” و”الثور الهائج” بهذا التدهور؟
يمكن للممثلين العظام أن يعودوا مجددا مثل طائر العنقاء إلى نجوميتهم ويستعيدون صيتهم القديم. وهو ما سيحدث لروبرت دي نيرو. ومعظم نجوم السينما تتنابهم آمال مشوشة واحساس بانعدام الأمان وانعدام القدرة على اتخاذ القرارات. لقد درس دي نيرو كل صغيرة وكبيرة اثناء استعداده للقيام بدور المقامر في فيلم “المقامر” للمخرج كاريل رايس عام 1975 عن رواية ديستويفسكي الشهيرة. لكن الدور ذهب في نهاية الامر الى جيمس كان، ثم انسحب أيضا من القيام بدور البطولة في فيلم «الخفة غير المحتملة للوجود» متيحا الفرصة للممثل الشاب داني داي لويس الذي قام بالدور عام 1988. ولعدة سنوات ظل هارفي كايتل يعاني من أن كل ما حصل عليه من أدوار، كان من «فضلات» دي نيرو، أي تلك التي رفض دي نيرو القيام بها.
ولعل شعور دي نيرو بالتوتر والقلق هو جزء من شخصيته متأصل فيها. إنه- دون شك- أحد أعظم الممثلين في عصرنا. وسوف يخّلد الى الأبد بفضل افلام مثل «الشوارع الخلفية» و «الأب الروحي ـ الجزء الثاني» و «سائق التاكسي» و«نيويورك.. نيويورك» و «صائد الغزلان” و”الثور الهائج” و”رفاق طيبون”، وأخيرا بالطبع “الأيرلندي” الذي جمعه مجددا بصديقه الحميم وسبب شهرته، المخرج مارتن سكورسيزي.
النجاح التجاري
حصل دي نيرو على جائزتي اوسكار (عن الاب الروحي «الثاني» والثور الهائج) ورشح لنيل الجائزة ست مرات (عن سائق التاكسي، وصائد الغزلان، واليقظة، ومنطقة الرعب، وغلاف كتاب اللهو، والأيرلندي). لكن المفارقة هي ان معظم أفلامه، لم يحقق نجاحا تجاريا نتيجة وجوده فيها. حقق «صائد الغزلان» و «الأب الروحي الثاني» نجاحا تجاريا كبيرا، ولكن هذا النجاح كان يعود أساسا إلى القصة المحكمة ومجموعة النجوم في الفيلم. وكلما قام دي نيرو بدور جيد، كان يلقى كل ترحيب من جانب النقاد. اما من ناحية الجمهور، فكان الأمر يختلفا: مجرد نجاح متواضع كما في حالة «سائق التاكسي» و«الثور الهائج».
وربما يرجع السبب إلى عدم قدرة الجمهور العادي على التماثل أو العثور على ما يربطهما بشخصية ترافيس بيكل أو جاك لاموتا بطلي الفيلمين.
هناك ممثلون يستمتعون بحب الجمهور بشكل مستمر لعشرين سنة أو أكثر، سواء ظهروا في أفلام جيدة أو رديئة. وكمثال على ذلك، جاك نيكولسون وروبرت ريدفورد. انهما ممثلان جيدان بالتأكيد، قدما أفلاما ممتازة، ولكنهما استطاعا الاستحواذ على حب المشاهدين أساسا، بفضل توفر نوع من الشفافية والدفء عندهما. انهما يسعيان إلى نيل حب الجمهور الذي يعتقدان أنهما يستحقانه. كان نيكولسون- قبل اعتزاله- يستطيع أن يقوم بدور القاتل البشع في «اللمعان» لكوبريك، او ضابط البحرية في «بضعة رجال طيبين» لروب رينر، حيث يمضغ الحوار ويؤدي بشكل يشي بالجنون والتطرف، ورغم ذلك كان يحظى بحب الجمهور الذي يعشق كل ما يقوم به جاك.
دي نيرو ليس كذلك، انه لم يكن يظهر في الإعلانات التليفزيونية، يحذر المشاهدين من انقراض الطيور النادرة أو الاشجار أو تلوث الهواء (مثل ريدفورد). وهو لا يترك كاميرات التليفزيون تتسلط عليه وهو يتابع مباريات كرة السلة (كما كان يفعل جاك نيكولسون). ومن النادر للغاية أن يوافق على اجراء المقابلات الصحافية أو التليفزيونية. انه لا يحب الظهور بمظهر الشخصية العامة أو النجم. وعندما يبتسم فانه ربما يجعلك تشعر بنوع من عدم الارتياح. هنا بالضبط توجد المشكلة. فبعد أكثر من عقدين من العمل الشاق في السينما، ظهر دي نيرو في إعادة إنتاج لفيلم قديم هو “منطقة الرعب” Cape Fear أي في دور ماكس كادي الذي سبق أن قام به في الفيلم القديم روبرت ميتشوم. وهو دور يظهره كرجل شرير بشع كالشيطان. وهنا تساءل الكثيرون: لماذا يقبل دي نيرو القيام بدور كهذا؟
لم يحاول دي نيرو ان يشرح أو يبرر. ويقول المقربون منه أن التبرير أمر لا يخطر له على بال. انه عادة شديد التكتم والسرية، وهو ما قد يعني أن عمله يحمل تهديدا بالخطر له أكثر مما بالنسبة لغيره من الممثلين. وبالمقارنة فان نيكولسون مثلا يمكنه القيام بدور الشيطان وهو يغمز للمشاهدين وكأنه يقول لهم: “لا تقلقوا.. جاك يعرف ان هذا فظيع. إنه مجرد تمثيل يا أولاد”!
هناك لحظة ما في فيلم «الثور الهائج» عندما يحتاج المشاهدون الى فهم الممثل. يقوم راي روبنسون بضرب “جاك لاموتا” (دي نيرو) ضربا مبرحا، لكن الاخير لا يقبل أبدا الهزيمة او استجداء شفقتنا. هناك نظرة نلمحها في عينيه تقول لنا: سوف لن أرضخ لك أبدا. هذا نوع من الرفض الهائل لدى الممثل. ولكنه قد يصبح أيضا من مؤشرات دماره الشخصي. لعدة سنوات، كان من الصعب للغاية التفكير في أي فيلم يقوم فيه دي نيرو بدور يستدعي شفقتنا. ان الذي جعل من فيلم “سائق التاكسي” عملا كبيرا، هو رفض دي نيرو أن يجعل من شخصية ترافيس بيكل، ببساطة وحشا أو روحا ضالة. فعند نهاية ذلك الفيلم، لا نعرف بالضبط ما إذا كان مجنونا هذا الشخص مجنونا أم قديسا تخلى عن الحكمة والرصانة، أو تعبيرا ساخرا عن الحلم الأمريكي الزائل!
أنا هنا
تكمن خطورة «سائق التاكسي» (1976) في قدرته الخطابية. فمباشرة بعد المذبحة، نعتقد جميعا ان ترافيس بيكل فقد حياته أو أنه سيقضي بقية عمره داخل السجن. غير اننا نفاجأ به يقود سيارته كالمعتاد، وحيدا كما كان دوما. هل هذه النهاية حقيقة أم أنها مجرد حلم؟ رغم ذلك فالمرء يجيب بأن دي نيرو أصبح هو الفيلم ذاته، بوجهه كما يظهر في مرآة سيارة التاكسي. وليس هناك ممثل آخر يستطيع أن يكون بهذه القوة وهذا الضعف في نفس الوقت. هنا تلتحم القوة المثالية الأميركية بالعنف، ويمكن الإحساس بتأثير ذلك، ليس فقط على الشاشة، وانما في الشوارع.
كان لسان حاله يقول يوجه حديثه للجمهور وهو يردد العبارة الشهيرة في الفيلم أمام المرآة: “هل تتكلم معي؟ هل تتكلم معي؟ لا بد أن تكون.. لأنني الوحيد هنا”.
في النصف الثاني من السبعينات، اتخذ دي نيرو مسارا مدهشا. لم يكن الإنجاز الأكبر في «سائق التاكسي» فقط ولكنه تمثل في قدرته المدهشة على دراسة شخصية مارلون براندو في «الاب الروحي» ثم تقديم صورة شابة لهذه الشخصية، ثم كان المشروع الأهم بالنسبة له وهو فيلم «صائد الغزلان» (1978) الذي كان يعتمد الى حد كبير على شخصية دي نيرو في تجميع خيوط الاحداث والشخصيات. ثم كان «الثور الهائج» (1980) الذي قام الممثل فيه باكتساب الوزن وانقاصه كما لم يحدث من قبل في أي فيلم عن الرياضيين. لقد استطاع دي نيرو أن يزيد من وزنه ثم يتخلص من الزيادة، بطريقة تعكس انضباطا مستحيلا، قليلون من الممثلين يستطيعون ممارسة ذلك.
بين المخرج والممثل
وقد عرف دي نيرو الفشل أيضا في تلك السنوات. لقد ذهب الى ايطاليا لكي يشارك في فيلم «1900» مع المخرج برتولوتشي، ثم قام بدور مونرو ستار المنتج السينمائي اليهودي الذي صنع مجد شركة مترو غولدوين ماير في الثلاثينات في فيلم «التايكون الأخير» (1976) لإيليا كازان، وقد فقد الكثير من وزنه لكي يستطيع القيام بهذا الدور. ومع سكورسيزي قام ببطولة «نيويورك.. نيويورك» (1977)، وعانى لكي يقنعنا بأنه يجيد العزف على آلة الساكسفون. وقد فشل هذا الفيلم في السوق، ولكن دي نيرو قدم فيه واحدا من أعظم ادواره على الاطلاق.. دور جيمي دويل، الموسيقار الذي يتزوج المغنية (ليزا منيللي) وهو رجل عبقري سواء في الموسيقى أو في الحب، لكنه سرعان ما يفقد اهتمامه بمجرد أن يحقق غرضه.
لم يسبق أن كانت هناك علاقة بين مخرج وممثل كتلك التي تأسست واستقرت بين سكورسيزي ودي نيرو. وقد بدا ان سكورسيزي غير قادر على منح ثقته لأي ممثل آخر للتعبير عن رؤيته. انه كثير الكلام بينما دي نيرو متحفظ. وإذا كان دي نيرو قاسيا في داخله، فان سكورسيزي رجل حساس طفولي مرح يحب ان يتخيل نفسه جزءا في صحبة الرفاق الطيبين. ان علاقتهما كان لابد أن تسفر عن أعظم انجاز سينمائي بالنسبة لكل منهما. وقد تحقق هذا دون أدنى شك، في “الأيرلندي” (2019) بعد أن تجاوز الاثنان الخامسة والسبعين.
لقد جرب دي نيرو قصص الحب، لكنه لم يحقق النجاح. في فيلم «الوقوع في الحب» (1985) لا تبدو مثلا علاقته مع ميريل ستريب محل الاهتمام، كما كانت علاقته هامشية بها في فيلم «صائد الغزلان»، ولم يكن الأمر بأفضل منه مع جين فوندا في «ستانلي وأيريس» (1990) أو مع أوما ثيرمان في “كلب مسعور وغلوري”. ان الممثلين الذين لا ينهزمون ربما كانوا غير صالحين لقصص الحب. لكن مهنة الممثل تظل عرضة للخطر في حالة غياب موضوع قوي يستحوذ على عقول وقلوب المشاهدين. إننا نرى مثلا في فيلم «نيويورك.. نيويورك» كيف يرتبط الحب بالفشل. هناك خيط بسيط عن الخوف من الجنس يكمن بين طيات الفيلم. رجل ضائع يفضل التقاط العاهرات على إقامة علاقات عاطفية.
وأصبح فيلم «ملك الكوميديا» (1983) أكثر جاذبية مع مرور الوقت. وقد أعاد تود فيليبس الى الأذهان في فيلمه الكبير “الجوكر” (2019). أما مع سكورسيزي فليس من الممكن ألا نلاحظ استمتاع المخرج والممثل بالعمل معا. ولكن في فيلم «رفاق طيبون» رغم أن أداء دي نيرو كان جيدا، إلا أن أداء جو بيشي طغى عليه. ثم جاء فيلم «منطقة الرعب» (1991) الذي حقق آمال سكورسيزي في تحقيق نجاح جماهيري كبير أخيرا. لكنه ترك طعما مرا في الحلق. فهو إعادة لفيلم قديم اقتضى ادخال تعديلات كثيرة. انه يمتلىء بالعنف. وأفضل مشهد فيه هو المشهد الاغوائي الطويل الذي يدور بين دي نيرو والفتاة المراهقة (جوليت لويس) التي يسعى لنيلها للانتقام من والدها. انه مشهد يكشف عن شخصية أكثر رقة، تفهم هذه الفتاة، وربما في ظروف أخرى مغايرة، كان يمكن أن تكون شخصية شديدة الاختلاف. فشخصيته تجذب الفتاة وتحظى بحبها واحترامها لولا انها ابنة غريمه المحامي الذي كان سببا في دخوله السجن.
كان النجاح التجاري الكبير الذي تحقق لفيلم “ذات مرة في أمريكا” الذي أخرجه الايطالي سيرجيو ليوني (1984)، عائدا إلى تلك الكيمياء السحرية التي جمعت بين أبطال الفيلم وخاصة بين دي نيرو وجيمس وودز. وربما يكون دوره في “الأيرلندي” مشابها الى حد ما لدوره في فيلم ليوني. ولكن كان يتعين أن يستخدم سكورسيزي فيه تقنيات تصغير السن ليبدو دي نيرو كما كان في “ذات مرة”، وهذه التقنية يعتبرها دي نيرو نوعا من الماكياج.
ما لا يعرفه الكثيرون أن دي نيرو يمتلك مع شركائه، 39 مطعما و80 فندقا من الفنادق الراقية في القارات الخمس. وقد أصبح الطلب عليه كممثل أكثر من أي وقت مضى. فمن الغريب أنه مع تقدمه في السن، أصبح أكثر جاذبية لدى جمهور السينما. وبعد “الأيرلندي” لا أحد يعرف ما الذي يمكن أن يضيفه دي نيرو، وربما يتعين علينا فقط أن ننتظر ما إذا كانت الفرصة ستتاح لصديقه سكورسيزي، لمعاودة العمل معه في فيلم جديد.