“رقم هاتف قديم”: ساعات في حياة رجل وحيد

الرجال الوحيدون ليسوا على ما يُرام، هذا ما تقوله الفنون دائمًا، السينما، والشعر، والقصة وغيرها، ومهما اختلفت المدارس الفنية فإنها تتفق على قائمة تثير شهيتها دون شروط، وبغض النظر عن طول القائمة فإنّ الشعور بالوحدة ضمن المراتب الأولى بالتأكيد. أحضر فنانًا واطلب منه الحديث عن “رجل وحيد” وراقب التعبيرات والصور والرؤى التي تهطل دون توقف.

“رقم هاتف قديم” فيلم قصير للمُخرج السعودي علي سعيد، ساعات مُقتطعة من حياة حامد (يعقوب الفرحان) في إحدى مدن المنطقة الشرقية في السعودية.

يبدأ الفيلم من داخل سيارة حامد وبمرافقة آية من سورة “التوبة”، على الرغم من خلو الفيلم من أي “توبة” مهما كانت، يبدو حامد بأنّه يخوض يومًا عاديًا، لكنّه ليس كذلك، حتى أنّ الأمر استدعى صناعة فيلم حوله.

 كل قصة تستحضر توترها الدرامي الخاص بها، إنسان وحيد يعني أن يحتوي الفيلم على هزة عاطفية ما، يحدث ذلك في كل سينما العالم، من المصري “السقا مات” الذي يموت حيًا بعد فقد زوجته، وحتى الأمريكي “جوكر” المطوّق بعقده النفسية وفقره ونكران نسبه، ومن السوري “الكومبارس” الراغب في خلوة مع حبيبته في دمشق، إلى الألماني “حياة الآخرين” الذي يتجسّس فيه البطل على الكاتب المُعارض وحبيبته فتحتلّه تفاصيلهما أكثر من اللازم.  

كل رجل وحيد عالق في قصة ما، حدث يُشكّل حياته تمامًا، أو يفصلها إلى الأبد إن كان حظه تعسًا أو العكس.

يعمل حامد في مجال تعبئة أنابيب الغاز المنزلي، الأجسام المعدنية تتراص فوق بعضها البعض، بما تحتقن به من غازات مضغوطة. المشهد يوحي بقرب الانفجار لكنّها لا تفعل، إذ أنّ حامد هو من ينفجر ضد يومه الرتيب.

في بداية الفيلم يُطالع حامد رقمًا يقبع كثعبان داخل محفظته، فنعرف أنّها قصة حب من تلك القصص التي لا يخترقها الانتهاك الذي يمارسه العالم الرقمي، ولا تشفع لأصحابها أنهم يحتفظون بأرقام بعضهم البعض، يُقرّر حامد زيارة صاحبة الرقم في البيت، لكنّ رقابة الجيران تحول دول ذلك لأنّ السياق الاجتماعي يفترض الخطورة في كل رجل وحيد.

يستقيل حامد من عمله، وفي البيت تواجهه ذكرياته مرة أخرى، صورة الأم الغائبة أيضًا وليس طيف الحبيبة فقط، تصله مكالمة (على الهاتف الأرضي وليس الجوّال) لكنّه ينفي وجود شخص اسمه حامد، ثم يُقرّر أغرب قرار في ذلك اليوم، وهو الذهاب إلى مكة المكرّمة للقيام بعُمرة.

مثلما ذُكر سابقًا، القصص تستدعي ثيماتها الخاصة بالفعل، في أفلام الجنون، والتيه في تلافيف النفس، والكوابيس تحضر المرايا، وأحيانًا المسرح كما في أفلام مثل (Mulholland Drive”” وDouble Lover”“) وفي أفلام “نوار” هناك سلالم قاتمة وامرأة غامضة ترتدي معطفا من فرو المنك كما في “The Black Dahlia” و”Notorious“، وفي أفلام رعب البيوت المسكونة يُستعرض وصول الأبطال من زاوية تصوير عين الطائر أو من داخل البيت/ الفخ كما في “The Conjuring” و”The Amityville Horror“.

أمّا في أفلام ولادة النفس مرة أخرى، واستكشافها، والرحلات التي تبدأ للهروب من الذات، وتنتهي بالعودة إليها، لا بد من سيارة، ولا بدّ من طريق.

في كتاب “السينما العالمية من منظور الأنواع السينمائية” لويليام في كوستانزو وترجمة زياد إبراهيم، يقول الكاتب عن أفلام الطريق “إن التركيب السردي في كل هذه الأفلام (أفلام الطريق) دائري” ويقول أيضًا “إنّ الطريق السريع الذي يقود إلى الحريّة أو المغامرة أو الهوية هو طريق أحادي الاتجاه يقود إلى المأساة”.

في “رقم هاتف قديم” نصف طريق ونصف رحلة ونصف توبة، يذهب حامد في رحلة على الخط السريع متوجهًا إلى مكة المكرمة، وهي الحلقة الأهم سرديًا التي تصل مُفتتح الفيلم بختامه، حامد يرتدي ملابس الإحرام، لكنّه لا يستمع إلى القرآن كما جرت العادة، بل يدير أغنية لراشد الماجد صدرت في 1991 ويقول فيها “عذّبتني بالهوى يا زين، وتعذيب الأحباب راضي به”، ينتشي حامد بالأغنية ونراه يخرج رويدًا من قُمقُم الكآبة التي تغلفه منذ المشاهد الأولى، لكنّ حدثًا قادماً من لاوعي حامد، وقد يكون ميتافيزيقيًا، يقطع ذلك بقسوة، فيعود أدراجه نحو قصته التي لم ينهِها ولم يبدأ فيها من جديد.

رغم خلو فيلم “رقم هاتف قديم” من مشاهد “الراشدين فقط”، إلا أنّه فيلم جسور، مُتطاول بحرفية، وجريء تلك الجرأة المتسللة التي تمر دون زعيق أو إزعاج، ليس على مستوى السرد بل حتى على مستوى الصورة.

إن الأفلام التي تستعرض هشاشة الرجل العاطفية قليلة جدًا، والأمر يزداد صعوبة عندما نتحدّث عن الرجل الخليجي أو السعودي تحديدًا، هذه المكاشفة حول خبايا الحب والعلاقات للرجل السعودي يكاد يكون غير مطروق سينمائيًا.

تظهر جرأة الفيلم أيضًا في استبدال الأغاني بالقرآن الكريم، وفي عدم إتمام العمرة، وهو أمر يجب ألا يحدث إلا لسببٍ قاهر، فما هو السبب القاهر يا تُرى؟

ذكرى الحبيبة التي تبلغ ذروتها تحت الشمس الصحراوية، يذهب حامد لمقابلة حبيبته/ قِبلته بملابس الإحرام على سلالم شقتها، ويدور بينهما حوار هناك لنفهم القصة العالقة في حياة حامد كشوكة السمك في الحنجرة، قبل أن تترك له الباب مواربًا ليبتلعها ظلام الشقة.

هل يدخل حامد بيت حبيبته؟ في الحقيقة لا يهم ذلك، لقد حقق الفيلم هدفه، ومتعته المتمهلة في اكتشاف يوم حامد، الرجل الوحيد الذي استقال، وأفسد عمرته، وزار حبيبته مرتين في يوم واحد.

جدير بالذكر أن “رقم هاتف قديم” فاز في مسابقة السيناريو في معمل تطوير الأفلام بمهرجان أفلام السعودية، وهو من إنتاج مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي “إثراء”.

قامت بدور الحبيبة هَيَا الممثلة “أم كلثوم سارة بارد”، التي كان التفاوت واضحا بين أدائها و”يعقوب الفرحان”، لصالح الفرحان.

زوايا التصوير تُشعر المشاهد بسطوة المكان، في البيت، والطريق، والغبار، والحرارة، والطلاء المتقشر، والسلالم المكتومة، والأبواب الكالحة، كاميرا علي سعيد شديدة الحساسية مثل حامد تمامًا.

عنوان الفيلم مأخوذ من قصيدة نشرها الشاعر العراقي مظفر النواب قبل عقود، والفيلم كان له رهافة الكلمة، وحِدّة الصورة، فجاء فيلمًا معبّرًا ينبئ برؤية تعي تمامًا قدرة الشعر والسينما، وأثر الرجال الوحيدين دون أمهات وحبيبات.

“رقم هاتف قديم” فيلم رائق، وحسّاس، ورغم أنّه شديد الذاتية، لكنّه يخص الكثيرين، فيلم مُلتصق بزمانه ومكانه، ومتحدثًا بلسانهما: الأغاني، حضور الهاتف الأرضي، الصور (غير الرقمية) المُتبادلة بين العاشقين، وشريط الكاسيت الذي انقرض، وهو فيلم يمتلئ بمشاعر العجز، والندم، والانحباس، والأبواب التي تُصفق او تُفتح على أنصافها، فيلم لم ينهِ بطله شيئًا، لا الوظيفة، ولا العُمرة، ولا الطريق، لكنّه يستحوذ على انتباه المشاهد كاملًا وعلى إعجابه أيضًا.

Visited 3 times, 1 visit(s) today