رؤية نسوية لفيلم “زوج حلاقة الشعر”
رشا كمال
في الملصق الدعائي لفيلم “زوج حلاقة الشعر”The hairdresser’s Husband يلاحظ استحواذ جسد الممثلة آنا جالينا على الجزء الأكبر من الصورة. فهي تظهر جالسة على كرسي عالٍ، خلف منضدة، غارقة في القراءة، مرتديةً فستانًا أحمر يُبرز جمال سيقانها الطويلة، وذراعيها، وعُنقها، وشعرها الأسود القصير، تحيط بها هالة ضوئية دافئة تتسلل من نافذة جانبية تتباين مع فستانها الأحمر مما يجذب الانتباه لجسدها.
تدعو هذه الوضعية الساكنة والخاضعة إلى ضرورة وجود رائي متلصص، يُراقب هذا المشهد من زاوية تملؤها الرغبة والتفحص. فهي ليست كـ”الماجا العارية” في لوحة غويا، التي تسلب سلطة النظرة المتلصصة عبر مواجهةٍ مباشرة. هنا، يبدو أن جالينا تدفع المشاهد إلى أن يتماهى مع موقع المراقب، متأملاً جسدها من بعيد. ويدعو هذا الملصق إلى التساءل عن تمثيل المرأة في الفيلم، وعما يوحيه العنوان الذي يضعها في موضع مضاف إليه، تابعة لزوجها.
عند البحث في أبرز سمات سينما المخرج باتريس لوكونت، نجد أنه يولي اهتماماً كبيراً بالجوانب النفسية والإنسانية، بالإضافة إلى تعقيدات العلاقات العاطفية في أفلامه. ومن المواضيع التي يتناولها باستمرار في أعماله استحالة العثور على السعادة في العصر الحديث، كما أوضح الناقد أمير العمري في مقاله “زوج حلاقة الشعر بعد 25 عاماً: حلم السعادة الأبدية رغم الموت”. مثل أفلام الفتاة فوق الجسر (La Fille sur le pon وفيلم زوج حلاقة الشعر.
تعددت المقالات والآراء التي أشادت برومانسية وعذوبة وشاعرية فيلم “زوج حلاقة الشعر“، وهذا صحيح إذا ما تماهينا مع وجهة نظر بطله التي سخر لها المخرج كافة قراراته الإبداعية، بما في ذلك تصميم الشخصيات النسائية وطريقة تصويرها في الفيلم.
يتجلى المفهوم المراوغ للسعادة في سيناريو زوج حلاقة الشعر” من خلال السرد المقيد بوجهة نظر بطله وراوي أحداثه أيضاً.
يفتتح الفيلم بطفل صغير يرتدي عصبة رأس تبدو ذات طابع شرقي، يرقص أمام البحر على أنغام موسيقى عربية. بعد ذلك، نرى رجلاً مسناً يصفف شعره بينما يغرق في أفكاره. تنسحب موسيقى المشهد تدريجياً حتى تتحول إلى صدى، ويعلو بدلاً منها صوت أنفاسه، معلنة أننا، منذ البداية، داخل أفكار هذا الرجل قبل أن يبدأ في رواية قصته. ندرك لاحقاً أن هذا الرجل هو نفسه ذلك الطفل.
يعني الفيلم بشخصية أنطوان وخيالاته الجنسية منذ أن كان في الثانية عشرة من عمره، أي نهاية فترة الكمون كما يطلق عليها فرويد، والتي تكون فيها رغبات الطفل وخيالاته الجنسية كامنة حتى ذلك السن تقريبًا، فيمر المراهق بعدها بصحوة جنسية.
يتزامن إدراك أنطوان لوعيه الجنسي في تلك الفترة بتعلقه بصاحبة محل حلاقة الشعر في بلدته، مدام شيفير، وعلى إثر التجربة التي يعيشها بالقرب منها يتبلور لديه الهدف الذي يبني عليه الفيلم أحداث، أن يتزوجها.
يتحقق حلمه فيما بعد بعثوره على ماتيلد، وهي امرأة شابة تصغره في العمر، يعرض عليها الزواج في أول لقاء يجمعهما، ويتحقق حلمه بموافقتها على الزواج منه، فيقرر العيش معها مكتفيا بها عن العالم داخل صالون الحلاقة الذي تمتلكه.
يقتصر النص على تجربة أنطوان من خلال حدثين رئيسيين في ذكرياته: صحوته الجنسية في فترة المراهقة، وعثوره على ماتيلد بعد رحلة بحث مضنية كما يروي لنا.
ويتجنب النص عمدًا أي تفاصيل أخرى عن حياته بين هذين الحدثين، ويركز فقط على رغبته المستميتة في التمتع بتلك التجربة والعيش داخلها. بذلك، تبدو شخصية أنطوان أكثر وضوحًا من الشخصيات النسائية في الفيلم، مثل شخصية مدام شيفير وزوجته ماتيلد، على الرغم من قلة المعلومات المتاحة عنه. يعود ذلك إلى كونه بطل القصة وراويها، وإلى بساطة رغباته التي تجعل دوافعه أكثر وضوحًا.
تتحدد الشخصيات النسائية في الفيلم وفق حجم تجربة أنطوان معها. أول هذه الشخصيات هي مدام شيفير، المرأة الصهباء فائقة الجمال، كانت غير متزوجة، لكنها كانت تحظى بالعديد من الأحباب، على حسب رواية أنطوان.
لم يهتم أنطوان الطفل بتفاصيل حياتها الشخصية بقدر ما أثاره عطرها، ورائحة شعرها وجسدها. حين كانت تقترب منه ويغمض عينيه مستغرقاً في حواسه، لم يكن يستمع لما تقوله أو يلقي بالاً لحديثها، لأنه كان مغموراً بنشوته عندما يلامس جسدها أثناء غسيل شعره. وحتى بعد انتحارها، لم تفارق تفكيره؛ فقد عشق نهود النساء بسببها، وظل يحاول استعادة تلك الأحاسيس عبر استنشاق عطرها في المكان. لم يتعمق النص في دوافع شخصية مدام شيفير أو طبيعتها، بما يتماشى مع كونها التجربة الأولى لخيالات الصبي المراهق.
تعتبر صحوته الجنسية مع مدام شيفير هي الأصل الذي استمر في البحث عن نموذج يشبهه طوال حياته حتى وجده في ماتيلد، لم يصرح بذلك في روايته لكن براعة النص تمثلت في استخدام نص تحتي من خلال الحوار على لسان زبائن ماتيلد عن العلاقة بين الزهور الطبيعية والصناعية، ولا تتضح أهمية هذا الحوار في المشاهدة الأولى للفيلم لتماهي المُشاهد مع نظرة أنطوان التي تلاحق ماتيلد وهي تخدم زبائنها. لكن عند إعادة المشاهدة، يبرز هذا المشهد بعد لحظة مهمة، حينما يبدي أنطوان الطفل رغبته في الزواج من صاحبة محل حلاقة، ثم نرى بعدها ماتيلد لأول مرة على الشاشة.
هذا الربط، من خلال الانتقال بين رغبة أنطوان في الزواج من حلاقة بعد تجربته مع مدام شيفير، ثم رؤيتنا لماتيلد، يؤسس لطبيعة العلاقة بين المرأتين في ذهن أنطوان.
يتفق هذا الربط مع مفهوم أفلاطون حول العلاقة بين المُثل وأشباهها المادية، حيث يرى أفلاطون استحالة وجود نموذج دون وجود مثله الأسمى. في الفيلم، لو لم توجد تجربة أنطوان مع مدام شيفير، لما وجدت ماتيلد في حياته. فماتيلد ليست هي المعنية بحد ذاتها كإنسانة، بقدر ما تمثل تداعيات تلك التجربة الأولى التي عاشها أنطوان مع مدام شيفير وصحوته الجنسية معها.
استند أنطوان في سعيه نحو الفوز بقلب ماتيلد إلى النصائح الذكورية التي تلقاها من والده وهو طفل صغير. كانت أولى تلك النصائح تتمثل في تشبيهه لصعوبة حل الكلمات المتقاطعة بالمرأة المتمنعة، إذ قال له إنه “كلما كانت المرأة أصعب، كانت لحظة استسلامها أكثر حلاوة”. وقد استعان بتلك النصيحة عندما رفضت ماتيلد في أول زيارة له إلى صالونها أن تقص شعره، لكنه لم يفقد الأمل واستمر في السعي.
أما عند طلبه الزواج منها فقد اتبع النصيحة الثانية من والده ومفادها أن “الرغبة القوية في شيء ما ستؤدي حتمًا إلى تحقيقه، وإن لم يتحقق، فذلك يعني أنه لم يتمناه بقوة”. لذلك عندما وافقت ماتيلد على طلبه الزواج، كانت تلك لحظة فارقة، قطع عندها المخرج اللقطة ليظهر أمامها أنطوان الطفل مبتسمًا، معبرًا عن سعادته الغامرة بتحقيق حلمه أخيرًا بالزواج من صاحبة صالون الحلاقة.
يكتنف الغموض شخصية ماتيلد نظرًا لطبيعة السرد المقيد بوجهة نظر أنطوان، فهي أيضاً حبيسة ذكرياته، ولا نعرف عنها سوى ما يبوح به أنطوان. إلا أن تعقيدات شخصيتها تظهر من خلال زلات لسانها أو عبر حوارات زبائنها، مما يكشف ضمنيًا عن علّتها التي يعجز أنطوان عن رؤيتها بسبب صمتها وانغماسه في شهوته معها. كانت ماتيلد تتنبأ بالعواصف قبل وقوعها، مما يشير ضمنيًا إلى اقتراب التغير في حياتها، وتلمح آثار الزمن على زبائنها، كما كانت تعبر عن خوفها من احتمالية تغير مشاعر أنطوان تجاهها أو من أن يتقدم بها العمر فيبتعد عنها، أو أن يحول بينهما الموت.
تخشى ماتيلد التغيير لأنه يجلب معه الألم، فمثلاً عندما يسألها أنطوان عن صورها في مرحلة الطفولة، تبرر عدم احتفاظها بها بأن الوقت يمر سريعًا. يظل السبب وراء قبولها عرض الزواج من أنطوان غامضًا، خاصة أنها لم تكن تعرفه جيدًا، ومع ذلك اكتفت بالعيش معه داخل جدران صالونها، وارتضت أن تكون موضعًا لشهوته. لأنهما، في الحقيقة، وجهان لعملة واحدة، يشتركان في نفس المنظور الهيدوني للسعادة، المتمثل في الانغماس في اللذة وتجنب الألم. وهذا ما يمنعهما من إدراك أن السعادة الحقيقية تقوم على قبول التغير والفناء كجزء من الحياة.
تظهر طبيعة كل شخصية في الفيلم ومفهومهما الخاطئ للعيش الهانئ في واحد من أبلغ مشاهد العمل، حيث يرقص أنطوان وماتيلد معًا. يعبر أنطوان عن رغبته في الفوز باليانصيب ورغبته في السفر معها إلى بلاد الشرق، بينما تطلب هي منه أن يضمها إليه بقوة، معبرةً عن مخاوفها من اقتراب اليوم الذي سيتوقف فيه عن الرقص معها. يرد عليها مستنكرًا، متسائلاً كيف لا يتسنى له مداعبة خصرها ولمس جلدها. فهو يراها جسدًا فحسب، لا يكترث بماضيها أو مخاوفها، بل يهمه فقط ابتغاء اللذة والمتعة اللحظية معها.
يتضح من هذا المشهد، ضمنيًا، سبب قبولها الزواج منه؛ فهو يختلف عن الآخرين في حياتها، فقَبلت المتاح أمامها بدلاً من المجهول. نستشف أيضًا أن مخاوفها أعقد من ذلك بكثير، لكننا لا نتعمق فيها بسبب تقييدنا بذكريات أنطوان اللحظية معها.
يتسلل الخوف والقلق إلى ماتيلد دون أن يشعر أنطوان بذلك. يبدأ هذا الشعور عند اكتشافه وجود شق في سقف المحل، حيث تعتريها نظرة قلقة تُفسرها المشاهد اللاحقة بوتيرة سريعة. تتجلى هذه المخاوف في الزبون الذي تتركه زوجته لتتغير مشاعرها تجاهه، وفي الحالة التي آل إليها المالك السابق للمحل الذي انتهى به المطاف في دار العجزة، بالإضافة إلى حديث الزبائن المتكرر عن الموت. كل هذه المشاهد تنبئ بزحف التغيير إلى حياتها الهانئة.
لم تكن طبيعة النص المقيد هي الوحيدة المساهمة في تهميش الأدوار النسائية؛ بل للصورة نصيبها الأكبر في تشييء المرأة من خلال التحديقة الذكورية للبطل. لنظرة الرجل ثلاث وجهات نظر، كما توصلت إليها المنظرة النسوية السينمائية لورا مولڤي في دراستها اللذة البصرية والسينما الروائية. تتمثل هذه الوجهات في نظرة صانع العمل، أي المخرج، لأبطاله، وهنا أقصد المرأة وجسدها.
أما النظرة الثانية فهي نظرة الممثلين لهذه المرأة، أي كيف يرونها في العمل. وأخيرًا، تأتي النظرة الثالثة من المتلقي، سواء كان المشاهد الذكر أو أنثى، وكيفية رؤيتها لجسد امرأة أخرى على الشاشة.
تتعادل ذاتية الكاميرا بصريًا مع المنظور السردي المقيد لوجهة نظر البطل. نشاهد العالم منذ البداية من عيون أنطوان الطفل المتلصصة على مدام شيفير وهو يراقبها من بعيد. يعزز استخدام الإضاءة من قوة التحديقة الذكورية، إذ تتحول بظهور مدام شيفير لأول مرة لتصبح أكثر دفئًا ونعومة، تحوطها هالة ناعمة متوهجة.
تلتقط الكاميرا نعومة بشرتها، ولون شعرها الناري، وجسدها الغض المكتظ. وتُحيل جسدها إلى أجزاء من خلال اللقطة المقربة عندما يسترق أنطوان النظر إلى نهدها المستدير. وعند اكتشافه لموتها، تضيع مهابة الموت أمام نظراته الطفولية المتلصصة على جسدها الميت المسجى أمامه.
أما ماتيلد، فهي صاحبة النصيب الأكبر من التحديقة الذكورية لأنطوان. تتحرك الكاميرا حركة بطيئة متأملة لسيقانها الطويلة وهي جالسة خلف المنضدة، مرتدية فستانها الأحمر، تطالع إحدى المجلات، وتحيط بها هالة من الضوء. تستدير مبتسمة تجاه الكاميرا، لندرك أن أنطوان هو صاحب هذه النظرة أو التحديقة إليها، وهي نفسها اللقطة المستخدمة في الملصق الدعائي للفيلم. تتحرك الكاميرا ببطء على جسدها طوال الأحداث، إما من نظرة أنطوان وهو يتطلع إليها، أو من وجهة نظر المخرج التي تعكس ذكريات أنطوان. في كل الحالات، تؤطرها هالة دافئة ناعمة، يعززها استخدام اللقطة المقربة.
تدور معظم أحداث الفيلم داخل صالون الحلاقة، حيث لا يتضح الإطار الزمني للأحداث إلا عندما يخبرنا أنطوان، وكأن الزمن قد تجمد داخله. تظهر ماتيلد في مشاهد عديدة وهي تنظر من وراء زجاج الصالون، بينما يراقبها أنطوان من بعيد، كأنها حبيسة هذا المكان الزجاجي الذي يحميها من عوامل الزمن والموت.
مع تعدد الخيارات الإبداعية التي استغلها المخرج في الفيلم، تبرز اختياراته للأغاني العربية التي يعشقها أنطوان منذ طفولته. إن وجود الأغاني العربية في فيلم فرنسي ليس بالأمر الجديد، لكن عند محاولة ربط تداعيات الغناء العربي، وما يشبه الرقص الشرقي المصاحب له، بتجربة المتلقي الغربي، يظهر تأثيره على نظرة الغرب لعالم الشرق، حيث الغرائبية والغموض والشهوانية. هذا العالم قد صوّره الأدب قبل السينما، حيث تُستعبد المرأة لخدمة وإرضاء شهوات الرجل. تتواءم هذه النظرة الاستشراقية وتداعياتها مع العالم الحسي الخاص بأنطوان وماتيلد، ويعزز هذه الأجواء اللوحات التي تصور الشرق بطبيعته الصحراوية، ونخيله، وأنهاره، وجماله، التي تزين جدران المكان.
قد يُعتبر فيلم “زوج حلاقة الشعر” رومانسياً وشاعرياً وحزيناً إذا ما توحد المشاهد مع حلم بطله في العثور على فتاة أحلامه والعيش معها عيشة راضية بمعزل عن العالم. في هذه الحالة، لا يخدش جمالها حزن، ولا تفقد من وزنها رطلاً، ولا ينتهك جسدها الحمل. ومع ذلك، يمكننا أيضاً رؤية الفيلم من منظور مغاير، حيث يتم استغلال نظرة البطل لتشييء المرأة، مما يجعلها نصب تحديقته، إشباعاً لحلم صبي صغير، مما يستحيل معه تحقيق سعادة الرجل البالغ.