“دانى كولينز”.. كل الأوقات مناسبة لكى تتغيّر!
ممتع حقا هذا الفيلم ” Danny Collins” الذى كتبه وأخرجه دان فوجلمان، وقام ببطولته آل باتشينو، وعرضه مهرجان القاهرة السينمائى فى دورته رقم 37، فهو يمثل نموذجا لتلك الأعمال التى تكتسب قوتها من بساطتها العميقة والممتنعة.
سر الفيلم ليس فى أصله الواقعى الذى أستلهم منه السيناريو، ولكن فى العمل على تطوير الفكرة، ونسج مواقف درامية وإنسانية، والجمع بين مزيج من المعالجة الجادة والكوميدية معا، أى أن السر فى تحويل الخاص والمحدود، الى عام وشامل.
من هذه التفاصيل البسيطة ولد عمل سيعيش فى الذاكرة طويلا، وسيضاف بالتأكيد الى قائمة أفضل أدوار آل باتشينو، الذى لم يكن ممكنا أن يستعيد كل إمكانياته العالية، وأن يحلّق بالشخصية، فيكسوها إحساسا وعواطف ومشاعر، إلا إذا كانت هناك كتابة جيدة، وحوار ذكى، وبناء متماسك للشخصيات المساعدة أيضا.
الحكاية الأصلية طريفة: ذات يوم من العام 1971، أدلى مغنى شعبى إنجليزى صاعد بحديث لمجلة. سئل المغنى واسمه ستيف تيليستون عما إذا كان الثراء المتوقع له بعد نجاحه يمكن أن يؤثر على فنه، فقال إن هذا الأمر قد يحدث فعلا. لفت الحديث نظر نجم فريق البيتلز الشهير جون لينون، فكتب رسالة خصيصا الى ستيف، طالبا منه أن يخلص لفنه، ولنفسه، بل إن يوكو، زوجة لينون اليابانية، شاركت زوجها فى كتابة الخطاب وتوقيعه. يبدو أنهما شعرا بأن موهبة صاعدة على وشك السقوط بسبب سوء تقدير معنى الشهرة والثراء. لكن الخطاب لم يصل الى ستيف إلا بعد مرور 34 عاما على كتابته.
احتفظ السيناريو بمعالم الحكاية، ليس بسبب طرافتها فحسب، ولكن لأنها منطلق الى سؤال الفيلم الأعمق وهو : هل يمكن أن يغير هذا الخطاب الذى لم يصل الى صاحبه فى شبابه حياة نفس الشخص عندما أصبح عجوزا؟ ثم تتولد أسئلة فرعية تغذى الفكرة وتعمقها حول تأثير الشهرة والمال على القيمة الفنية، وعن قدرة الإنسان على مواجهة نفسه، ومراجعة ماضيه، وعن عدم وجود سن يستحيل أن نتغير بعده، المهم فقط أن نمتلك الإرادة والرغبة فى التغيير.
المغنى التائه
تحوّل ستيف الى شخصية ثرية دراميا اسمها “دانى كولينز”، والتى لعبها باقتدار آل باتشينو. نرى دانى شابا فى مشهد افتتاحى يتحاور مع مندوب مجلة أمريكية. يبدى إعجابة بجون لينون. يتشكك فى إمكانية صمود قيمة فنه كمغنى جديد وشاب بعد أن يحقق الثراء. كان ذلك فى العام 1971، ثم نقفز فى المشهد التالى الى العام 2014، دانى كولينز أصبح مطربا شهيرا، رغم تقدمه فى السن، إلا أن آلاف المتفرجين يحضرون حفلته،ويغنون معه أغنيته الخفيفة “البيبى دول”.
ولكن ملامح دانى العجوز الحقيقية سرعان ما تتكشف: خلف النجاح والثراء الفاحش، إنسان ضائع، يدمن المخدرات والكحوليات، تزوج ثلاث مرات، ولديه الآن خطيبة شابة ترتدى أقل قدر من الملابس، وتخون دانى مع شاب فى عمرها، ولكن لديه أيضا فرانك (القدير كريستوفر بلامر) مدير أعمال دانى العجوز، وصديق عمره، وهو الذى سيهدى الى دانى خطاب حصل عليه من أحد هواة جمع آثار جون لينون. كان لينون قد أرسل الخطاب الى الصحفى الذى أجرى الحوار مع دانى عام 1971، وطلب من دانى أن يكون مخلصا لفنه ولنفسه، وليس للمال. الصحفى لم يقدم الخطاب الى دانى فى حينها، ولكنه باعه لهواة جمع آثار لينون، وعن طريق الصديق الوفى فرانك الذى اشترى الخطاب، ستصل الرسالة الى دانى كهدية فى عيد ميلاده فى العام 2014.
وكأن دانى كان فى حاجة الى شىء ينقذه من حياة فقدت مذاقها، لذلك نراه يتعلق بالخطاب القديم، بل ويعتقد أن المتاهة التى عانى منها رغم النجاح الساحق، كانت بسبب عدم تسلمه الخطاب فى حينها، وعدم العمل( بالتالى) بنصيحة لينون، مغنيه المفضل.
منذ هذه المشاهد الأولى يوضع الأساس المتين للدراما: هذا شخص ناجح وثرى ولكنه تعيس، والآن يعود الماضى فى صورة خطاب سيدفعه الى مراجعة كل شىء، ومحاولة تغيير ما يمكن أن يغيره، ومنذ هذه المشاهد أيضا، يتم تضفير الجدية بالكوميديا، سواء فى ملامح شخصية دانى، أو فى كون الموقف له وجهان متناقضان: خطاب الى شاب لم يعد شابا، ومحنة عجوز وتعاسته رغم أنه حقق الثراء والنجاح والشهرة.
علاقات متشابكة
الى نيوجرسى سيذهب دانى تاركا كل شىء، وهناك سيحاول أن يستعيد ابنا له لم يره أبدا. إنه الشاب توم الذى تزوج وأنجب طفلة جميلة. لقد كان توم ثمرة ليلة قضاها دانى وهو تحت تأثير المخدر مع والدة توم، ثم ماتت الأم بالسرطان، وتركت مع ابنها ذكرى مريرة عن دانى احتفظ بها الابن. ستغذى هذا الخط الإنسانى العذب مساعدة دانى لحفيدته الطفلة التى تعانى من صعوبات فى التعلم، حيث سيلحقها بأغلى مدرسة متخصصة، كما سيغذيه اكتشاف دانى أن ابنه توم نفسه مريض بالسرطان، ولكنه يأمل أن تكشف التحاليل عن بدايات المرض لا نهاياته.
ولكن دانى الذى يتصرف مثل شاب ظريف سيتعرف أيضا على مديرة الفندق الفاخر مارى (آنيت بيننج)، وسيحاول أن يصنع علاقة رومانسية تناسب عمره، ثم سيكتب أول أغنية منذ 30 عاما، بعد أن ظل طوال تلك الفترة أسيرا لما يقدم له، ولا يغنى إلا ما هو ناجح ومطلوب فى الحفلات.
يتحول خطاب جون لينون من قصة ظريفة الى سؤال بحجم الحياة كلها، سؤال عن الإختيار الصعب بين القيمة الفنية، والثمن المادى، وسؤال عن حساب الذات. يكتب كولينز أغنية جميلة عن تفكيره فى الربيع، بينما تتساقط حوله أوراق الخريف فيجمعها. الأغنية التى يعزفها على البيانو تعبرعن صراع بين تغيير يريده، وحاضر يحاصره فى صورة حفلات وحياة صاخبة، لايمكن التخلص منها بسهولة.
فرانك صديق ومدير أعمال، إنه يتكلم بهذه الصفة أو تلك عند اللزوم، يحتاج دانى لكى يستمر فى حياته المرفهة أن يواصل الحفلات. فى أول اختبار يتعثر دانى، لا يجرؤ على غناء أغنيته التى ألفها، ويستجيب لطلب الجمهور بغناء “البيبى دول”. يعود دانى الى المخدرات والكحوليات، ثم يعتذر لابنه وللآخرين. التغيير ليس سهلا على الإطلاق، ولكن يكفى دانى أنه حاول، ويكفيه أنه استعاد ابنه وعائلته الصغيرة فى نيوجرسى.
لا يغلق الفيلم أى باب، فقد ينجح كولينز فى حفلة قادمة فى غناء ما يريد، ينتهى الفيلم وهو يساند ابنه انتظارا لنتيجة التحاليل، عندما ينطق الطبيب باسم الابن توم، يكون معنى ذلك أن المرض ليس فى مرحلة متقدمة. يولد أمل جديد من إرادة التغيير، ويستعيد كولينز قدرته على تغيير حياة الآخرين.
صال آل باتشينو وجال بعد أن وجد أمامه شخصية شديدة الثراء من الناحية الدرامية، فقدم النجم الفذ بسلاسة عدة وجوه : المغنى الشهير، والمدمن اليائس، والأب العطوف، والجد الظريف، بل إنه بدا أحيانا كشاب يغازل الجميلات فى كل مكان. كان باتشينو يضحكنا ويشعرنا بالشجن فى مشهد واحد. الشخصيات الأخرى رسمت أيضا بعناية لأنها تساهم فى رسم بورتريه كولينز كاملا: مارى المديرة العملية التى تخفى عاطفة جياشة، والتى تعانى أيضا من فشل حياتها الزوجية السابقة، والابن المريض توم ( بوبى كانافيل فى أداء راسخ أمام طوفان باتشينو) الذى يتحول موقفه من والده، من كراهية الى تعاطف وصداقة، وفرانك الصديق الوفى ومدير الأعمال الذى يكشف عن جوهر شخصية دانى عندما يقول لابنه : “إن والدك طيب القلب ولكنه يتصرف دوما بصورة قذرة !”، حتى الطفلة التى لعبت دور الحفيدة الثرثارة كانت رائعة، وقد ساهمت أيضا فى أن يكتشف كولينز نفسه من جديد.
مع عناوين النهاية، يظهر ستيف تيليستون صاحب القصة الأصلية لخطاب جون لينون المفقود، إنه يحكى لنا عن استلامه للرسالة بعد 34 سنة، وكأنه يذكرنا بالبذرة التى صنعت هذه الدراما الممتعة. ولكن ما سيبقى فى الذاكرة هو دانى كولينز الذى كان قادرا على محاولة التغيير، والذى ترك سيارته المرسيدس لعامل الفندق، والذى اكتشف أنه لن يصنع ربيعا، إلا بعد أن يلملم أوراق الخريف المتساقطة من عمره الضائع. هكذا تصنع الدراما من الواقع، واقعا موازيا، أكثر خلودا وعمقا من أحداث الحياة التى استلهمت منها.