حول فساد مؤسسات الإنتاج السينمائي في الجزائر
الحديث عن عوالم مؤسسات الإنتاج السينمائي (السمعي البصري) في الجزائر يبعث على الغثيان، لأن روائح شبهات الفساد تفوح من بعضه على بعد أميال، بعد أن حادت عن الطريق الذي رسمه لها المُشرع الجزائري، واختارت توجها آخر غير طريق الإبداع وصنع أفلام جيدة، تثقف وترفّه عن المُشاهد، تمثل الجزائر، وتظهر صورتها الثقافية والحضارية والإنسانية في العالم أجمع، خاصة وأن المال الذي يُقدم لها مال عام، مُقتطع من عرق الشعب وضرائبه، وهو من حوّل أصحاب هذه المؤسسات إلى أثرياء جدد، يقودون سيارات آخر موديل، ويقضون عطلهم في أبهى وأجمل المناطق عبر العالم، ناهيك عن الذين يملكون شققا وفيلات في عاصمة الجن والملائكة وحتى أن بعضهم يقيم هناك، ولا يأتي للجزائر إلا وقت قطف الغلال، عن طريق مؤسسة الإنتاج التي يملكها في الجزائر، يديرها أو يسيرها أحد أقربائه أو معارفه، في انتظار أي تظاهرة أو مناسبة ما، من أجل تصيد مشروع سينمائي دسم، يضمن له غلافا ماليا يزيد من ثرائه، ويخفف عنه وطأة الغربة وغلاء أسعارها، هذه هي معادلة التربح والثراء التي تعتمدها الكثير من مؤسسات الإنتاج السينمائي في الجزائر.
لذا لا يمكن في حال من الأحوال أن تكون الأفلام المُنتجة جيدة ومقبولة فنيا، لأن المنطلق خاطئ، والانطلاقة لا تعكس أي توجه فني، يعني السعي وراء المال، وفي سبيل ذلك فلتسقط السينما، والدليل على صحة هذا الطرح هو أن الجزائر حاليا ووزارة الثقافة على الخصوص باتت لا تملك ميزانية مالية تُمكنها من تقديم أو إنتاج أفلام سينمائية، تمثلها وتسجل حضورها، لكن وفي ظل هذا لم يتشجع ولا منتج واحد، كي يقدم فيلما واحدا من جيبه الخاص، حتى وإن كان هذا الفيلم قصيرا، يمكن أن يعتبره رد جميل على الملايير التي استفاد منها عبر سنوات البحبوحة، أي أنه “يستخسر” في بلده جزء يسيرا جدا مما يملكه لتقديم ما يمكن أن نسيمه هدية لهذا البلد، وكغيرة على السينما الجزائرية، لكن هذا ما لم يحدث ولن يحدث، في ظل السعي الدائم للبحث عن ما تقدمه السينما، لا ما يمكن أن يقدمه هو لها.
أرباب الإنتاج في الجزائر
من الصعب حصر عدد مؤسسات الإنتاج السينمائي في الجزائر، برقم معين، في ظل تزايدها المستمر وتناميها كالفطر في كل مناسبة، وحسب بعض التقديرات فإن عددها يفوق الـ170 مؤسسة، النشطة منها في مجال السينما تقدر بحوالي 50، تعود ملكية أغلبيتها لمخرجين جزائريين بشكل مباشر، بعضهم يعيش في الجزائر، وآخرون في الخارج، يختبئون خلف أسماء أصدقائهم وأقاربهم، لذر الرماد في العيون، وهي مؤسسات قوية جدا، يملك أصحابها نفوذا كبيرا، حتى أن الكثير من المشاريع السينمائية التي يقومون بتنفيذ إنتاجها يتم الموافقة عليها بشكل مباشر، دون أن تخضع مثل غيرها للجان القراءة التي يتم تشكيلها بقرار من وزير الثقافة الجزائري، وعادة وحسب القوانين المسيرة فإنها هي الوحيدة ـ أي اللجنة ـ التي تملك سلطة قبول أو رفض أي مشروع، لكن كثيرا ما يتم تجاوزها، وهذا ما حدث مثلا مع لجنة القراءة التي كان يرأسها المخرج لمين مرباح 2009، والتي رفضت سيناريو تقدم به المخرج محمد لخضر حمينة بعنوان “شفق الظلال”، لكن تم تجاوزها من قبل وزيرة الثقافة خليدة تومي.
وهذا ما حدث أيضا في لجنة قراءة أخرى كان يرأسها السيناريست الطاهر بوكلة سنة 2015، حيث رفضت هي الأخرى مشروعا تقدمت به المخرجة المغتربة يمينة بن غيغي، وربما هذا الرفض هو ما عجّل برحيلها وحرمها من التجديد، كما أن هذا لا ينفي بأن تكون هناك تجاوزات حدثت مع لجان القراءة، مثلا كيف نفسر بأن يستفيد المخرج عبد القادر مرباح بملياري سنتيم من صندوق دعم السينما، عن فيلم “العصفور المنسي” الذي تقدمت به مؤسسة الإنتاج “أمين إنتاج” التي يملكها المخرج لمين مرباح رئيس لجنة القراءة، وقد بدأ تصوير الفيلم سنة 2010، ما يعني بأنه تم الموافقة على الاستفادة من اللجنة التي كان يرأسها لمين مرباح سنة 2009، أو على الأقل هذا ما يظهر حسب التسلسل التاريخي المنطقي، أما بخصوص صلة القرابة حسب ما يظهره اللقب الواحد فلا يمكن أن أؤكد أو أنفي.
مؤسسات مُنفذة لا تنتج
المتتبع الجيد لعمليات الدعم المالي للمؤسسات السينمائية (السمعي البصري) صندوق تنمية الفن السينمائي وتقنياته وصناعتهالتابع لوزارة الثقافة الجزائرية، خصوصا في السنوات الأخيرة، التي كثرت فيها المناسبات الثقافية والتاريخية، كخمسينية الاستقلال، وستينية الثورة، والجزائر عاصمة الثقافة العربية2007، وقسنطينة عاصمة الثقافة العربية 2015، وتلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية2011، حيث يتم من خلال هذه المناسبات فتح المجال لاستقبال أعمال ومشاريع تخص السينما، لا بد أن يلاحظ بأن هناك بعض المؤسسات تحصل على حصة الأسد من هذا الدعم دون غيرها، من بينها مثلا مؤسسة “ماشاهو” التي يملكها المخرج الجزائري بلقاسم حجاج، الذي فتح مؤخرا “مخبرا” رقميا متكاملا، يقوم بعمليات المونتاج والميكساج وتصحيح الألوان للأفلام، وقد كلّف عشرات الملايير، لكن عندما نعرف السبب يبطل العجب، بحكم أن مؤسسة “مشاهو” استفادت الكثير من المرات من أموال الدعم، ومن بين المشاريع التي أخذتها نجد مثلا فيلم “البرنوس المحروق” الذي جسدت شخصية فاطمة نسومر 2014، الذي أخرجه صاحب المؤسسة المنفذة بلقاسم حجاج، بمناسبة الخمسينية.
والغريب في الأمر بأن وزارة الثقافة الجزائرية قدمت سنة 2010 غلاف مالي يقدر بـمليار سنتيم، لمؤسسة “نات ديفيزيون” لكتابة سيناريو عن “فاطمة نسومر” يقوم بإخراجه الجزائري المغترب رشيد بن حاج، لكن المؤسسة لم تقدم أي سيناريو أو فيلم إلى اليوم، ولا ندري كيف تم التصرف مع هذا الأمر الخطير، لكن من المؤكد بأن المؤسسة المذكورة استفادت من دعم مالي آخر، حيث انتجت من خلاله فيلم “عطور الجزائر” لرشيد بن حاج، وبالعودة إلى “ماشاهو” سنجد بأن هذه المؤسسة استفادت العديد من المرات من أموال الدعم، من بينها تنفيذ إنتاج فيلم “الساحة” لدحمان أوزيد، و”ركب سيدي الشيخ” لمحمد شريف بقة، و”رجل الأطلس” الذي أخرجه بلقاسم حجاج أيضا، و”أطفال جبريل” للإبراهيم تساكي، ناهيك عن عديد الأعمال الأخرى التي أنتجت أو يتم التحضير لها حاليا.
ونجد أيضا بأن هناك مؤسسة “ليث ميديا” لصاحبيها ياسين العلوي ومريم طاهي، هي الأخرى استفادت من العديد من المشاريع، من بينها فيلم “احمد زبانة” لسعيد ولد خليفة، و”الوهراني”، و”مسخرة” للياس سالم، و”خدة” لجودت قسومه، و”امينيق” لمبارك مناد، و”قاراقوز” لعبد النور زحزاح، و” الرجل الأول” لجيوفاني ايميليو، وغيرها من الأعمال الأخرى، كما أن هناك مؤسسات إنتاج تستفيد هي الأخرى بشكل دوري من الدعم، أهمها “طاسلي” لصاحبها عبد الكريم بوشارب، قريب المخرج رشيد بوشارب، و”أفلام المنبع” لصاحبيها بشير درايس ويزيد شزال، و”أمين إنتاج” للمين مرباح، و”عاصمة فيلم” لمحمد شويخ ويمينة، و”غروب” لطارق لخضر حمينة، ابن المخرج محمد لخضر حمينة، و”ميسانس” لحيى مزاحم، وغيرها من المؤسسات الأخرى التي استفادت من عشرات الملايير في عز البحبوحة المالية، لكنها لم تصرف ولو سنتيم في عز الأزمة المالية.
هل سيتدخل مجلس المحاسبة ويفتح تحقيق
يتساءل الكثير من المتتبعين للشأن السينمائي الجزائري من غياب دور الرقابة لدى وزارة الثقافة الجزائرية، التي تملك السلطة الكافية، من أجل محاسبة كل مؤسسة إنتاج سينمائي (سمعي بصري)، تقوم بخرق القوانين المنظمة لهذا القطاع، لكن هذا ما لم يحدث، رغم الخروقات القانونية الكبيرة والخطيرة التي تقوم بها تلك المؤسسات، والدليل بأنه ورغم مرور ثلاث وزراء على مبنى هضبة العناصر، بداية بعهد الوزيرة نادية لعبيدي ذات الخلفية السينمائية التي استلمت مهنتها شهر ماي 2014، وانتهت في نفس الشهر سنة 2015، أي بعد سنة واحدة من تقلد المنصب، ليبدأ ومنذ تلك اللحظة عهد عز الدين ميهوبي وإلى اليوم، وقبلهما طبعا الوزيرة خليدة تومي.
لكن ولا وزير من هؤلاء قدّم حصيلة رسمية تظهر التقرير الأدبي والمالي لنشاط مؤسسات الإنتاج السينمائي، أو حزمة العقوبات التي تم تسليطها على أصحابها المخالفين والذين لم يحترموا ويستجيبوا لقوانين الجمهورية، أو تقديم أسماء المؤسسات التي لا تقدم تقاريرها بشكل دوري، خصوصا الذين لم يُحيّنوا مؤسساتهم على القوانين الجديدة،قانون رقم 03 – 11 الصادر في 14 ربيع الأول 1432 الموافق 17 فبراير 2011 الخاص بفن السينما، ولماذا لم تلجأ الجهات الوصية إلى المادة 14 من المرسوم تنفيذي رقم 13- 276 مؤرخ في 20 رمضان عام 1434 الموافق 29 يوليو سنة 2013، يتعلق بالرخص والتأشيرات السينمائية، التي تمكن الوزير المكلف بالثقافة أن يعلق رخصة ممارسة نشاط الإنتاج السينمائي لمدة ثلاث أشهر (3) في حالة ما إذا لم يستجيب المنتج للاعتذارات التي تكون قد أرسلت إليه للأسباب الآتية:
ـ عدم انجاز الفيلم الذي يكون قد حصل بخصوصه على دعم من قبل الدولة، في الآجال المقررة. وفي هذا الشأن هناك العديد من المؤسسات التي لم تستجيب لهذا البند، لكن لم نرى أي عقوبات في حقهم، كما أن هناك أيضا من يصور أعماله دون أن يكلف نفسه اشتراط البطاقة المهنية التي أقرها المرسوم التنفيذي 13ـ276 المذكور أعلاه الذي يحدد ، كيفيات تسليم البطاقة المهنية للسينما وسحبها، والذي من جملة ما جاء فيه:
المادة الأولى : تطبيقا لأحكام المادة 12 من القانون رقم 11- 03 المؤرخ في 14 ربيع الأول عام 1432 الموافق 17 فبراير 2011 والمتعلق بالسينما، يهدف هذا المرسوم إلى تحديد كيفيات تسليم البطاقة المهنية للسينما وسحبها.
المادة 2 : كل شخص يمارس نشاطا سينمائيا يشكل أهم مصدر دخله وتتوفر فيه الشروط المطلوبة في هذا المرسوم ، له الحق في الحصول على بطاقة مهنية للسينما يسلمه إياها الوزير المكلف بالثقافة بعد أخذ رأي لجنة البطاقة المهنية.
ومن هنا نطرح سؤال آخر، هل قامت وزارة الثقافة بتشكيل هذه اللجنة التي تحث عليها المادة 3 من المرسوم، والتي تقضي بضرورة أن يقوم الوزير المكلف بالثقافة بتشكيل لجنة تكلف بدراسة طلبات تسليم البطاقة المهنية للسينما والبث فيها وتدعى في صلب النص “اللجنة”، وتتشكل حسب المادة الرابعة كما يأتي :
* ممثل الوزير المكلف بالثقافة رئيسا.
* مدير المركز الوطني للسينما والسمعي البصري عضوا.
* ممثل عن المنتجين السينمائيين عضوا.
أربعة (4) ممثلين عن مهنيي السينما ( مخرج وموزع ومستغل قاعة عرض وتقني في شعبة السينما) أعضاء، لو أن الوزارة هي الأخرى مؤسسة لا تستجيب للقوانين المنظمة للفن السابع في الجزائر.
وعليه يطالب مهنيو السينما وعشاقها في الجزائر، بضرورة تحرك مجلس المحاسبة، من أجل فتح تحقيق شامل في الأموال التي قدمتها وزارة الثقافة لمؤسسات الإنتاج، وكشف الطريقة التي تم من خلالها، خصوصا وأن مجلس المحاسبة يملك اختصاصا شاملا لرقابة كل الأموال العمومية مهما كانت الوضعية القانونية لمسيريها أو المستفيدين منها، كما يخول له سلطة رقابة و تقييم نوعية التسيير على صعيد الفعالية و النجاعة والاقتصاد في تنفيذ الميزانية، وتقديم نتائج هذا التحقيق للرأي العام، ليكون أمام الصورة.
عن جريدة “الحياة الجزائرية”