جنة السينما: ذكريات في رماد الزمن “سينما باراديزو”
حسن عرب
في السنوات القليلة التالية للحرب العالمية الثانية، وفي قرية صغيرة في صقلية، ولد الطفل “توتو” يلمع في عينيه شوقٌ لا حد له، شوقٌ لم يكن يعرف وجهته، تماما مثل طائر صغير خرج لتوّه من العش، فرفرف على غير هدى، حاملاً بين جناحيه قلبًا كبيرًا ممتلئًا بالأحلام، قلبًا لم يعرف أن مصيره سوف يرتبط بشاشة السينما في ركن من أركان قريته النائية.
تلك الشاشة، التي كانت تبوح لأهل القرية كل ليلة بما لا يستطيعون رؤيته في دنياهم وكفاحهم اليومي، رأى توتو فيها نافذةً إلى عوالم لم يعرفها من قبل، عوالم من الضوء والحب والألم والأمل. كان يقف مأخوذًا، كأنما وجد فيها شيئًا من روحه، شيئًا لا يستطيع أن يفسّره، لكنه كان يشعر به في أعماقه يكبر وينمو.
كان “ألفريدو”، الذي يعمل في السينما، يراه ويبتسم لتلك اللهفة التي تتوهج في عينيه الصغيرتين. لكنه كان يعرف أن الأحلام أحيانا تكون ثقيلة على أكتاف الطفولة، وأن هذا الطفل الذي ينام ويحلم بأطياف تلك الأفلام ويستيقظ على دوران بكراتها، سوف يعرف يومًا أن الحياة ليست مشهدا جميلا يُعرض على الشاشة، بل هي أيضًا الأوجاع التي تتخفى خلف كواليسها.
وتمضي الأيام، و”توتو” لا يفتأ يواظب على الذهاب إلى ذلك المكان السحري، الذي يعانق فيه قصص السينما، كأنه يحلم أن يصنع يومًا قصته الخاصة، أن يحمل الكاميرا ويُخبر العالم بما في قلبه من حكايات، لكنه كان صغيرًا، وكان العالم كبيرًا، أكبر من أن تستوعبه تلك الطفولة الوادعة.
في أحد الأيام، حدث ما لم يكن في الحسبان. احترقت السينما، واحترق معها جزء من روحه الصغيرة. رأى النار تلتهم الشاشة التي أحبها، وتغتال احلامه الصغيرة، وسمع صرخات أهل القرية يحاولون إنقاذ ما تبقى. لكنه لم ير إلا “ألفريدو”، ذلك الرجل الذي كان بالنسبة إليه الأب الذي غاب عنه ولم يعد، كان “ألفريدو” يُسابق النيران ليحمي الحلم الذي عاشا من أجله معًا. وخرج من الحريق، لكن بعينين مغلقتين إلى الأبد، وكأن الحياة قررت أن تسلب منه ذلك النور الذي أشرق به عالم “توتو” الصغير.
بعد ذلك، تغيّر كل شيء. وحمل “توتو” في قلبه ألمًا لا يستطيع أن يبوح به لأحد. غادر قريته، كما غادر طفولته وأحلامه. لكن رغم كل شيء، بقيت السينما، بقي ذلك الحب الذي لا تستطيع الأيام محوه، بقيت الذكرى، صفحة من حياته طُويت ولكنها لم تُنسَ.
وعاد “توتو” بعد سنوات طوال، رجلًا يحمل من السنين ما أثقل كاهله، لكنه لم ينسَ تلك القرية وذكرى طفولته، أحزانه، وأفراحه الصغيرة.
رأى السينما قد هُدمت، لكنها ما تزال قائمة في قلبه، كما كانت دائمًا. كان يعرف أنها أكبر من أن تكون جدرانًا، أو شاشة، بل هي تلك المشاعر التي تملأ النفس بالحنين.
وهكذا، وقف أمام الحطام، ودمعة بائسة تسيل من عينه، لكنه كان يعلم يقينًا أن الطفل الذي كان يجلس أمام الشاشة ذات يوم، لا يزال حيًا في داخله، وأن السينما، مهما تغير العالم، ستبقى تلك الجنة الصغيرة التي يستطيع أن يهرب إليها كلما أثقلته الحياة.
كانت هذه القصة المقتضبة لهذا الطفل المدهش الذي لعب دوره “سلفاتوري كاسيو” تمهد رحلتنا في هذه الأيقونة السينمائية، نستكشف عوالمها العميقة تتجاوز حدود الشاشة، وتصل إلى قلب يحمل في داخله الحنين إلى البراءة الأولى، نمضي مع “سينما باراديسو”، تلك القطعة الفنية التي لا تروي فقط حكاية “توتو”، بل تفتح أبوابًا في ذاكرتنا جميعا، لتُظهر لنا مرآة الحنين والشوق إلى أيام البراءة الأولى، وتتوالى الأيام ويكبر الطفل، وحتى زمن السينما يختلف ويتغير، وكأن توتو الصغير يمثل طفولة تلك الشاشة العجيبة.
هذا السرد البصري لأحداث الفيلم، كان لوحةً مرسومة بالأضواء والظلال، تتحدث عن الحب والخسارة، وعن تلك العلاقة الغامضة بين الإنسان والزمان. سوف ندخل عوالمه كما يدخل المرء حلمًا عزيزًا، يتذكر فيه لحظاتٍ كان فيها سعيدًا دون أن يعرف، ويبكي دون أن يدرك أن البكاء هنا هو لغة روح تُلامس حقيقة الحياة.
“سينما باراديسو” هي قصة كل إنسان يرى حياته تنعكس أمامه كفيلم سينمائي، تتعانق فيها الأفراح بالأحزان، وتتداخل البدايات بالنهايات، وكأنها تذكير دائم بأن السينما حياة يعاد سردها بطرق حالمة. من أجل هذا كله، كانت تلك القصة الصغيرة مقدمة مهمة لما سنقرأه في هذه الأيقونة السينمائية، روعة الجمال حين يلتقي بالحزن في عناق أبدي لا ينتهي.
يبدأ الفيلم بالمخرج السينمائي سالفاتور دي فيتا راجعا من عمله إلى شقته، فتخبره حبيبته أن والدته اتصلت. كان صوت أمه المليء بحشرجات الحنين إليه، يحمل خبراً موجعا زلزل أعماقه: “ألفريدو مات.” كان لهذا الخبر جرساً قويا يفزع سبات الذكريات.
بدا سالفاتور وهو مستلق في فراشه غير مهتم في البداية، وكأن الخبر لم يحرك أي مشاعر لديه. لكن الارتباك في عينيه، بدا واضحاً، وكأن رياح الحزن هبت فجأة داخل غرفة نومه المغلقة.
حبيبته، التي لم تعرف صديق روحه قط، تسأله بعفوية: “من هو ألفريدو؟” لم يجبها. بل أدار وجهه بعيداً عنها كأنه يهرب من سؤالها، ويستسلم للذكريات التي بدأت تقفز في مخيلته دون أن تطلب إذناً.
صور متداخلة من طفولته تنساب كفيض من نور خافت في ظلام الذاكرة. قريته في صقلية التي لم يزرها منذ أكثر من ثلاثين عاماً تظهر أمامه كصورة ضبابية، تملؤها الوجوه التي فقدت ملامحها بفعل الزمن. ألفريدو لم يكن شخصا عاديا. بل كان جزءاً من قلب تلك القرية، وجزءاً من قلبه أيضاً.
لكن لماذا كان سالفاتور غائباً كل هذه السنوات؟ ما الذي كان يهرب منه؟ الحنين، الألم، أم الحقيقة التي كان يعرف أنه سيواجهها هناك؟ كانت حياته في روما مليئة بالشهرة، لكنها فارغة من الروابط. لم يعرف الالتزام في العلاقات، ولم يجد الدفء الذي يبحث عنه.
الليلة، بين سؤال بسيط وجواب معلق، بدأت رحلته. رحلة إلى داخل نفسه، حيث ألفريدو لا يزال حياً، ينتظره في زاوية منسية من طفولته ويبدأ الفيلم.
حينما نتحدث عن جنة السينما، فإننا لا نتحدث عن فيلم يحكي قصة، بل عن رحلة تمتزج فيها الأحلام بالذكريات، وتتوهج فيها المشاعر كما يتوهج شريط السينما تحت ضوء جهاز العرض. إن هذا الفيلم، بكل بساطته وعظمته، يذكرنا أن الحياة مليئة بلحظات عابرة، نعيشها دون أن ندرك قيمتها، لكنها تعود لتصبح أجمل حين ننظر إليها من بعيد، تمامًا كما يصبح الغروب لوحة أكثر سحرًا كلما غابت شمسه في الأفق.
في هذه الحكاية، تبدو الحياة فيلمًا قديمًا، كل لحظة هي مشهد، وكل ذكرى هي لقطة تعبر عن ماضٍ نحمله في قلوبنا. وكما أن اللقطات البسيطة في السينما تصنع المعجزات، فإن التفاصيل الصغيرة في حياتنا قادرة على أن تضيف ألوانًا إلى لوحتنا غير المكتملة. ترى، هل كان الطفل “توتو” يدرك حينها أن السينما، بما تحمل من أصوات وصور، ستصبح نافذته إلى العالم وإلى نفسه؟
ولعلنا ونحن نشاهد هذه القصة نكتشف أن أكثر اللحظات سحرًا ليست تلك المخطط لها، بل التي تأتي من تلقاء نفسها، فتغمرنا ببهائها وكأنها تقول لنا إن الجمال في العفوية، وإن الحنين هو أعظم ما يتركه الزمن فينا. عندما نرى “توتو” يعود إلى قريته، نتساءل: أليست الذكريات الطفولية هي تلك الأحلام التي لم تتحقق لكنها، مع ذلك، منحتنا الحياة؟ أليس كل إنسان يحمل في داخله طفولة ضائعة، وأحلامًا دفنت في صخب العالم لكنها ما زالت تنبض في أعماقه؟
ثم إن “جنة السينما” يعلمنا أن الأماكن التي قد تبدو لنا، في البداية، مجرد نقاط عابرة في مسيرة الحياة، تتحول إلى رموز للشوق والحنين. وكيف لقاعة سينما، تلك الغرفة المظلمة التي كانت تجمع أهل القرية على حب واحد، أن تتحول إلى حلم، إلى لغة صامتة عميقة، قادرة على تجاوز الكلمات والوصول إلى عمق الروح.
ومع ذلك، فإن أجمل ما في الفيلم ذلك التساؤل الصامت الذي يتركه فينا: ماذا لو كانت السينما نفسها هي هذه الحياة؟ ماذا لو كانت كل لحظة على الشاشة هي انعكاس لما عشنا أو ما كنا نتمنى أن نعيش؟ في هذا الفيلم نجد الإجابة بصوت المشاعر التي تبقى فينا طويلًا بعد انتهاء العرض.
في جنة السينما، الشخصيات هي أرواح تعيش بيننا، تنقل لنا مشاعرها وتدعونا لمشاركة اللحظات. “توتو”، الطفل الذي وجد في السينما عالمًا يفوق حدود قريته الصغيرة، وكأنها نافذة تطل على الحلم. كان مثالًا على تلك الروح الطفولية التي ترى السحر في كل شيء، هو يذكرنا أن الطفولة ليست مرحلة فحسب، بل هي جذر تمتد وتتفرع منه كل أحلامنا، وتظل تنبض في أعماقنا مهما حاول الزمن أن يمحوها.
أما “ألفريدو”، ذلك الرجل المسن الذي يعمل مشغلًا للأفلام، فهو الحكيم المليء بالتجارب، يروي حكايات عن الحب والخسارة، وعن الشجاعة التي نحتاجها لترك الماضي والمضي قدمًا. لقد كان ألفريدو هو الشخص الذي علمنا أن المعرفة ليست فيما نقوله، بل فيما نفعله، وأن أعظم العطاء هو ذلك الذي لا ننتظر شيئًا مقابله. حين وقف بجانب توتو وأراه العالم من خلال الضوء المتراقص على الشاشة، كان يرسل رسالة خفية: “أنظر إلى ما هو أبعد من الصورة، ابحث عن الحقيقة وراء الحلم.”
يتنقل المخرج من السينما الى الحياة اليومية لأهل القرية، الرجال ذاهبون للعمل او راجعون، والنساء يملأن جرارهن بالماء من الساقية، وكأنه يقول أنا لا أتنقل بين عالمين مختلفين، إنه عالم واحد هذا الذي تشاهدون.
وفي عمق هذا المشهد نشأت تلك العلاقة الساحرة، التي نسجها تورناتوري بين توتو وألفريدو. علاقة كانت شبيهة إلى حد بعيد بعلاقة الشاشة الفضية بالجمهور.
في الحقيقة إن شقاوة توتو وأسئلته الكثيرة، وتعليقاته الجريئة، هي ما أعطت هذا الفيلم رونقه وسحره، كان هذا الطفل العجيب نبض الفيلم وروحه المتمردة، كان يرى العالم بعيون مليئة بالشغف، ويطرح الأسئلة التي يحجم الكبار أحياناًعن طرحها.
أما ألفريدو، بحكمته، فهو ذلك المخرج غير المرئي، يوجه توتو كما توجه الكاميرا المَشهد، يقطع مشاغبته، لكنه يمنحه الحرية ليعيش شغفه احيانا.
وعندما يهدده مازحًا بقطع لسانه كما يقص شريط الفيلم، لم يقصد تهديدًا بمعناه الظاهري. كان يقول لنا، أن حيوية الطفل، كلماته، ضحكاته، وحتى صمته، هي جوهر هذا الفيلم. توتو كان عدسة الكاميرا التي ترى الحياة، وكأن ألفريدو يترك لنا كلمات الطفل تلون المشهد، لأننا بدونها نصبح مجرد متفرجين على عالم بلا ألوان.
وفي هذه القصة، هناك أم توتو، تلك المرأة صمدت كالجبال وسط صخب الحياة، حملت ألم فقد زوجها في الحرب، وأعباء الواقع، لكنها لم تتخل يومًا عن حبها لتوتو. إنها تجسيد لتلك القوة التي نجدها في أعين من يحبوننا بصدق، حتى حين نغيب عنهم في رحلة البحث عن الذات.
ثم نرى البلدة نفسها، بكل سكانها وتفاصيلها. كأنها خشبة مسرح، تتغير ملامحها مع الزمن، لكنها تحتفظ دائمًا بشيء من الماضي. كان كل من فيها، الأطفال الذين يضحكون في صالة العرض، والعشاق الذين يختبئون في المقاعد الخلفية، كان أهل البلدة جميعهم جزءًا من لوحة كبيرة تعكس الإنسان بكل تناقضاته.
هناك تقاطعت بساطة الحياة مع سحر السينما، وكأنهما نغمتان في لحن واحد. في تلك الأزقة الضيقة التي تغمرها أشعة الشمس الذهبية، يعيش “توتو”، ذو العينين اللتين تلمعان بالفضول. يحب السينما ليس لأنها تسلية، بل لأنها كانت بوابته إلى عوالم أخرى، حيث يمكن للأحلام أن تصبح أكبر من حدود بلدته، وأوسع من الأفق الذي يراه كل صباح.
“ألفريدو”، بشعره الرمادي وابتسامته الوادعة، كان يرى في توتو انعكاسًا لروحه الشابة التي لم تذبل رغم السنين. كان ينظر إلى الطفل وكأنه مرآة تعيد إليه صورة طفولته. بينهما نشأت علاقة أشبه بتلك التي يجتمع فيها الحب الأبوي مع صداقة حميمة.
توتو كان يقضي ساعات طويلة بجانب ألفريدو في غرفة العرض، يشاهد أضواء الأفلام، ويراقب الجماهير يتفاعلون معها بضحكاتهم أو دموعهم. في تلك الغرفة الصغيرة التي تتداخل فيها رائحة الغبار مع صوت دوران البكرات، تعلم توتو أن السينما ليست مجرد صور، بل هي لغة تتحدث إلى القلب مباشرة. علمه ألفريدو أن الأفلام وجدت لتروي قصصا، لتخلق ذكريات، وتوقظ أحلامًا، وتعلمنا أن نحيا بشكل مختلف.
مع مرور الزمن، بدأت أحلام “توتو” تنمو. لكنه، كما كل الأحلام الجميلة، كان عليه أن يختار: هل يبقى في بلدته الصغيرة، أم يخرج إلى العالم الكبير بحثًا عن شيء أكبر؟ كانت لحظة الفراق بين “توتو” و”ألفريدو” من تلك اللحظات التي تبقى محفورة في القلب. حينما قال له بحكمة رجل يعرف الحياة جيدًا: “لا تنظر وراءك، امضِ في طريقك، وحقق أحلامك.” وكأنه كان يعلم أن الحنين سيصبح جزءًا من توتو، لكنه أراده أن يكون حنينًا قويًا، يمنحه دافعًا للحياة بدلًا من أن يصبح قيدًا إلى الماضي.
كان جوزيبي تورناتوري، مخرج “جنة السينما”، رساما يمسك الفرشاة ويرسم على قماش الحياة ألوان الحنين والحب والاشتياق. أراد أن يقول شيئًا بسيطًا لكنه عميق، شيئًا نعرفه جميعًا لكننا ننساه وسط ضجيج الأيام وزحام المدن: أن الحنين هو الجسر الذي يربط بين أحلامنا القديمة وحياتنا الحالية. وإن السينما بالنسبة له ذاكرة حية، ومرآة تعكس أعمق المشاعر وأكثرها صدقًا.
اختار أن يحكي قصته من خلال عيني طفل صغير، لأن الأطفال يرون العالم بعفوية لا تعرف التزييف، وحين ننظر إلى الحياة من أعينهم، نرى الحقيقة كما هي، نقية بلا أقنعة. توتو كان رمزًا لكل شخص فينا، لكل حلم دفناه مع الزمن وكل شغف نسيناه عندما نضجنا.
عندما تشاهد هذا الفيلم فأنت ترى احتفالًا صاخبًا بالفرح، يلتقط لحظات الحياة الصغيرة التي نخالها عابرة، لكنها في جوهرها دعوة للتأمل، وتختزن في داخلها كل المعاني والتجليات. تلك الأشياء التي رغم صغرها تمنح للحياة إشراقها.
كل نظرة، كل ضحكة، كل مشهد من شقاوة “توتو” أو حماسة الجماهير في دار السينما كان يعكس جمال الحياة بكل تناقضاتها.
“جنة السينما” يخلق السعادة، كنبض مستمر في قلوب شخصياته، وفي قلوبنا نحن المشاهدين. هذا الفيلم لا يشاهد فقط، بل يُحس، يُعاش، هو حياة تعرض أمامنا عن البدايات المشرقة، وعن النهايات التي تحمل في طياتها حزنًا جميلًا، يوقظ فينا حلما طفوليا، ويخبرنا أن الفرحة ليست في الوصول إلى هدف بعيد، بل في تفاصيل رحلتنا نحوه: في نظرة طفلٍ يُذهل لأول مرة برؤية الشاشة، في ضحكة صديقٍ يسخر من الحياة رغم قسوتها، وفي حبٍ يبقى مشتعلاً كضوء جهاز العرض، بعد أن تطفئ قاعة السينما أضواءها.
تورناتوري يستخدم الضوء والظل كما يستخدم الكاتب كلماته. مشاهد القرية مشبعة بنور الشمس، وبالنقاء والبساطة أيضا، بينما لحظات الفراق مليئة بالظلال الطويلة التي تعكس ثقل الوداع. تورناتوري أراد أن يهمس لنا أن السينما، مثل الحياة، نور وعتمة، وفرح وحزن.
وفي لقطة أخرى لا تُنسى، يتألق ذلك التمثال الذي يزيّن قاعة العرض، رأس الأسد الذي يُطلق من فمه ضوء الأفلام، وكأنّه يحرس الحكايات القديمة ويُضيء الطريق للحالمين. وفي لحظة مأساوية، تتحول هذه الصورة الخيالية الوادعة إلى كابوس؛ فيندلع الحريق في القاعة، وينفث الأسد من فمه ناراً بدلاً من الضوء، وكأنّ الأحلام التي يحملها التمثال قد تحوّلت إلى رماد.
وفي مشهد آخر، تجلس أم توتو في زاوية الغرفة تغزل الصوف، كما لو كانت تحيك شهور الزمن الكئيبة في الانتظار والذكرى. وحين تلمح ظل ابنها يعود من غربته الطويلة، تنتفض لتراه، فتهوي سنارة الصوف من يدها. كأنها تعلن عن توقف الزمن للحظة، يتشابك الخيط بها فتنتقض العُرى التي كانت تنسجها بإحكام، وتتلاشى الشهور التي قضتها في الانتظار، تتفكك أمام الكاميرا لتعيدنا دفعة واحدة إلى ذلك الماضي الجميل، حيث كانا معا وكان كل شيء أكثر دفئًا وإشراقًا.
أما مشهد اللقاء بعد ثلاثين عامًا من الغياب، فيأتي مختصرًا بلمسة إخراجية مليئة بالحنين والحكمة. لقطة عناق بعيدة لا تستغرق إلا بضع ثوانٍ، نعم هذا الغياب الطويل قد يترك أثره في القلوب، لكن اختصار الكلمات والعناق إلى لحظة هادئة، هو في الحقيقة اتفاق غير مُعلن بين الغائبين أن اللقاء ليس سوى محطة قصيرة في طريق الحياة.
ثم في مشهد آخر يضاد هذا المشهد، نراهما يسيران بهدوء، يتحدثان وكأن ذلك الغياب بينهما لم يكن موجودا أصلا، أو كان استراحة عابرة، وكأن الزمان قد طوى المسافات دون أن يُثقل كاهل اللقاء.
وفي قلب هذا كله، نتذكر ألفريدو، حكيم السينما، الذي يُدرك ببساطة ما عجز الآخرون عن فهمه. كلماته المقتبسة من آلاف الأفلام التي شاهدها، تمنح نصائح عن الحب، عن الشغف. ألفريدو العاشق للأفلام؛ هو السينما نفسها، بصورها المتناقضة، المبهجة والمؤلمة.
كان تجسيدًا لكل شخص مر في حياتنا وأضاء طريقنا بنصيحة أو بحب صادق. كان يقول لتوتو ولنا جميعًا إن الأحلام لا يجب أن تُحبس في الأماكن الصغيرة، والحنين يمكن أن يكون طائرًا يطير معنا، بدلًا من أن يكون قيدًا يحبسنا ويشدنا إلى الماضي.
إن “جنة السينما” قصيدة بصرية تُعيد فيها السينما نحت تماثيل صغيرة من الأحلام، تمنح المشاهدين أجنحةً للتحليق في عوالم أخرى، حتى عندما تحترق هذه التماثيل، فإن الزمان لا يطوي قصص الحب وتلك الأحلام.
الموسيقى التي فاضت من قريحة إنيو موريكوني، كانت روحًا تعيش في كل مشهد، تعبر عن الكلمات التي لم تُقل وعن المشاعر التي لم تظهر. كان تورناتوري يثق بسحر “إنيو” ويعلم أن موسيقاه لديها الجرأة لتقص القصة حتى عندما تعجز الحوارات، وأنها سوف تهمس إلى القلب بلغة يفهمها الجميع.
عندما يجلس توتو، بعد سنوات طويلة، ليشاهد الهدية التي تركها له ألفريدو. هل كانت شريطا سينمائيا، أم رسالة مكتوبة بلغة الضوء والظلال، رسالة مليئة بحب عابر للزمن. نراه أمام الشاشة، يعود إلى قلب ذكرياته طفلًا، يعيش لحظات الدهشة الأولى وهو يشاهد العالم يتشكل أمام عينيه في قاعة السينما القديمة.
كان الشريط يحتوي على لقطات مقصوصة من أفلام قديمة، تلك القُبَل المحذوفة التي لطالما منعها كاهن الكنيسة، عادت تودعه في عرض أخير، هي تقول لتوتو إن الحب الذي فقدته أو تجاهلته في حياتك كان دائمًا هنا، قريبًا منك، يختبئ في ظلال ذكرياتك. كانت هذه القُبَل رموزًا، لكل ما فقده توتو وهو يسعى وراء أحلامه، لكل ما تركه خلفه حين غادر البلدة ليبحث عن مستقبله. عن اللحظات الصغيرة التي نظنها عابرة لكنها تحمل أثقل المعاني.
كانت دموعه الصامتة، تقول في صمتها: إننا غالبًا لا ندرك قيمة ما نملكه إلا بعد أن نفقده. الشاشة الكبيرة أمامه كانت مرآة تعكس أعماقه، وشوقه لكل ما مضى وما لن يعود.
أراد تورناتوري أن يجعلنا نفكر: كم مرة قصصنا أجزاءً من حياتنا لأنها لم تناسب القصة التي أردنا أن نعيشها؟ كم مرة حذفنا مشاعر وأحلامًا لأنها بدت لنا غير مناسبة أو غير ممكنة؟ لكن الحياة بكل ما فيها من نقص وعدم اكتمال، تأخذ عقولنا بروعتها وجمالها.
حين انطفأت أضواء العرض وأُشعلت أضواء الحياة، لم يكن توتو وحده من تغير؛ بل تغيرنا نحن أيضًا. كأن السينما حملتنا معها في رحلة حقيقية، تركت فينا شعورًا غامضًا، جميلًا كجمال القُبَل التي يسرقها الزمن، ينتزعها عنوة من صرامة الأقدار، يمنحها لنا عطايا لا نجرؤ على طلبها، لكنها تصل إلينا في لحظة انتصار عابرة على مقص الرقيب.
عندما يقف توتو في قلب القرية، بعد سنوات طويلة من الغياب، ناظرًا إلى سينما “باراديسو” التي تحولت إلى حطام، على وشك أن تُهدَم بالكامل. كانت دار السينما تلك ذاكرة حية، مكانًا يعبق بأحلام القرية كلها، ورمزًا لعالم توتو الذي بدأ منه كل شيء. ويرى فيها الآن أثر الزمن الذي مضى بلا رجعة.
تهب الرياح، تحمل معها أصواتًا خافتة من الضحكات القديمة، وصدى الأفلام التي عرضت ذات يوم. يسرح توتو بنظره نحو الحطام، وكأنه يرى كل المشاهد التي عاشها في ذلك المكان. كان المشهد مشهد وداع للمبنى، وداع لطفولته، للبراءة، وللأحلام التي رافقته. كانت السينما تمثل الزمن نفسه، الزمن الذي لا ينتظر أحدًا، ولا يبقي على شيء كما كان.
لم يقصد المخرج أن يخبرنا عن التحولات التي تأتي مع مرور الوقت، بل قصد الطريقة التي نرى بها حياتنا. كانت دار السينما استعارة عميقة، عن تمثال من الثلج، نحاول الاحتفاظ به، وكلما حرصنا على إمساكه بحرارة أكبر، كان ذوبانه أسرع في أيدينا.
حين يُهدم المبنى في المشهد الأخير، تتطاير شظايا الجدران والغبار في الهواء، يبدو المشهد وكأنه طقوس سحرية للولادة من الموت. كأن المخرج يهمس فينا أن الهدم هو جزء من البناء، وأن الذكريات، مهما كانت موجعة، هي ما يُحيي شعلة الحياة.
المشهد يقول الكثير بلا كلمات: الحياة تمضي قدماً، حتى عندما نقف مذهولين أمام آثار الماضي. لكن هذا الحطام أيضًا قد يكون بدايةً، وأن ما نحمله في قلوبنا هو الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن يهدم.
وعندما يعود توتو إلى قريته لحضور جنازة ألفريدو، ذلك الرجل الذي كان بمثابة معلمه الروحي، يتحول الوداع وداعاً لحقبة كاملة من الزمن. كأن الحكاية لم تعد فقط عن ألفريدو الإنسان، بل عن السينما التي رافقت ذكرياته وأحلامه.
حينها يسأل توتو صديقه وهم يسيرون خلف الجنازة، متى أغلقت السينما، تأتي الإجابة محملة بوجع الزمن: “التلفزيون، الفيديو، الاقتصاد… لقد أغلقت منذ ست سنوات.” في تلك الكلمات البسيطة، يبدو أن جنازة ألفريدو ليست إلا واجهة لجنازة السينما نفسها، تلك التي قاومت طويلاً قبل أن تخبو تحت وطأة الحياة التي تغيرت.
توتو كما يرثي ألفريدو، يرثي أيضاً شغفه الأول، المكان الذي تعلم فيه كيف يرى العالم من زاوية الحالمين. الجنازة ليست مجرد وداع لرجل، بل لمرحلة من الحياة كانت فيها السينما تملأ ساحة القرية بالضحك والدموع والمشاعر. أما الآن، فالقرية أصبحت مكاناً مختلفاً تماماً.
ربما أراد المخرج تورناتوري أن يقول لنا إن السينما ليست مكانا أو شريطا يعرض الصور، بل هي ذاكرة مشتركة، شعور جماعي، علاقة إنسانية عميقة.
يشعر توتو بمعنى الحب الذي منحه إياه ألفريدو، حب السينما، وحب الحياة، وأن الأماكن، مهما تغيرت، تظل تحمل عبق الماضي وروح البدايات. ليست القصة عن طفولة ضائعة أو حب عابر، بل عن الإنسان الذي يلتقط شظايا عمره ويعيد تشكيلها في صورة خالدة.
تورناتوري هو مخرج بقلب شاعر ونظرة فيلسوف. هادئ الإبتسامة، عيناه تحملان بريقًا من الحنين، يتحدث كما لو كان يروي أسطورة عن فيلمه الذي أسر القلوب.
يقول: “حين شرعت في العمل على جنة السينما، لم أكن أتصور أنها ستصبح أكثر من حكاية بسيطة، قصة دافئة عن حب السينما.
كانت فكرتي أشبه برسالة شكر متواضعة لتلك الشاشة السحرية التي منحتني في طفولتي عوالم لا حدود لها، وجعلتني أحلم في قريتي الصغيرة في صقلية. لكن مع كل مشهد كتبته وكل لقطة صورتها، كنت أشعر أن شيئًا أكبر مني يتحرك أمام عيني. لم أعد مخرجًا يروي حكاية؛ كنت كمن يشهد ميلاد شيء عظيم. كأن الفيلم لم يعد يخصني وحدي، بل أصبح ينتمي لكل من عشق السينما وكل من عاش حياته لهذا الحلم، لكل من شعر أن الضوء المنبعث من جهاز العرض حياة بأكملها تُولد وتُحكى.”
ثم يتوقف قليلاً، ويضيف: “عندما عرض الفيلم لأول مرة، كنت أشعر بخوف غريب. كنت أعرف أن القصة صادقة، لكن هل يمكن أن تصل إلى الجميع؟ لم أكن مستعدًا للكيفية التي احتضن بها الجمهور الفيلم. كنت أظن أن الحكاية تخصني، لكنها كانت تخص الجميع. تلك اللحظة كانت ساحرة، لكنها حملت ثقلًا جديدًا. هل تعلم ماذا يعني أن تصنع فيلمًا يلامس القلوب بهذا الشكل؟ سوف تخاف وتفكر كثيرا في كل شيء تصنعه بعده.”
تورناتوري يضحك ضحكة قصيرة، مليئة بالتأمل، ويواصل: “كل مرة كنت أبدأ في إخراج فيلم جديد، كنت أسمع صوتًا صغيرًا في داخلي يقول:هل ستحب الناس هذا الفيلم كما أحبوا جنة السينما؟ كنت أشعر كأنني أعيش في ظلاله، وكأنني أخوض معركة مع نفسي ومع ذكريات ذلك النجاح.
كان جنة السينما محبوبا جماهيريا، فيلما اعتبره الناس مرآة لأرواحهم، كيف يمكن لأي عمل جديد أن ينافس ذلك؟”
ثم يستطرد، وهو يحدق بعيدًا كما لو كان يرى تلك اللحظات مرة أخرى: “لكنني تعلمت شيئًا مع الوقت. الأفلام، مثل الحياة، لا تتكرر. كل فيلم له روحه الخاصة، حكايته، ولادته. جنة السينما كان له وقع خاص. لكنني فهمت أن كل فيلم آخر ليس أقل أهمية، لأنه يمثل جزءًا من رحلتي كمخرج، كإنسان. كنت بحاجة لأتعلم كيف أحتفي باللحظة بدلًا من أن أحاول التفوق على الماضي.”
تورناتوري، يحاول أن يقول إن السينما ليست فقط صناعة، بل عقيدة؛ طريقة لفهم الحياة، ووسيلة لجعل الغياب ممتلئًا بالحضور.
ننهي مشاهدة هذا الفيلم الرائع لكننا نعلم أننا سنعود لمشاهدته يومًا ما، ولعلك كلما جلست وشاهدت هذه التحفة السينمائية، تتعرف على زاوية جديدة للضوء لم ترها من قبل، مشهد يروي حكاية أخرى لم تنتبه لها، أو نظرة في عيون توتو وألفريدو تخبئ حوارًا تسمعه كل مرة بشكل مختلف. إنه فيلم يتجاوز حدود السرد التقليدي. ترى فيه شغف الطفولة بكل نقائه، وقسوة الفقد بكل صمته، وتلك المساحات الفاصلة بين الخيال والواقع، حيث السينما تصبح حياة بأكملها. كل مشاهدة لهذا الفيلم هي اكتشاف، غوص في بحر عميق لم تلمس قاعه بعد، وكلما أبحرت فيه أكثر، شعرت أن المعاني تتسع كما لو أن الفيلم نفسه ينمو معك، يكبر في أحزانك، يبتسم مع آمالك، ويهمس لك أسرارًا عن الحياة لم يخبرك بها أحد.
وهكذا تستمر أحلامنا، لا تموت بل تتحول إلى نجوم صغيرة تضيء عتمة الروح. كل لحظة، هي ولادة جديدة، هي دعوة لأن نصبح أطفالًا مرة أخرى، السينما – كما الحياة – لا تسير وفق قواعد منطقية بل وفق مشاعر صادقة، حيث يرى المخرج ما لا يراه الآخرون، ينسج واقعًا جديدًا من خيوط الخيال، ويُذكرنا بأن كل فيلم يحمل في طياته شيئًا منا، حكاية نكتبها نحن، حتى نُطفئ الأنوار مرة أخرى، ونبدأ عرضًا جديدًا.