ثلاثة ألوان وذاكرة الماضي: فيلمان من دبي


عرض مهرجان دبي السينمائي الأخير فيلمين، الأول من الامارات وعرض في مسابقة المهر الإماراتي، والثاني من مصر وعرض في مسابقة المهر العربي للأفلام التسجيلية الطويلة.

بمكر شديد وخبث انثوي مطعم بخبرة الرسم عبر الكاميرا تقدم نجوم الغانم تجربتها الجديدة”أحمر ازرق اصفر”التي تبدو وكأنها استكمال لحالة القراءة المجتمعية التي تقدمها كمخرجة اماراتية تحمل هما ثقافيا وسياسيا واضحا يتبدى عبر فن البورتريه الوثائقي الذي قطعت فيه شوطا جيدا منذ تجربتها السابقة”أمل”.

في فيلمها السابق استطاعت الغانم أن ترسم صورة تحليلية لمجتمع أبو ظبي عاصمة الإمارات من خلال شخصية الفنانة السورية تدعى “أمل” عاشت هناك لسنوات طويلة، ثم بوعي ومهارة قررت أن تقترب خطوة للداخل من الانسان الإجتماعي عبر اختيار مماثل لكنه اكثر ارتباطا بالهم العام الذي يستغرقها منذ تجاربها الأولى فاختارت ايضا فنانة انثى لكنها هذه المرة مواطنة، وليست مجرد مواطنة عادية بل هي أول شخصية/ امرأة اماراتية تحصل على درجة الدكتوراه في الفن..الدكتورة نجاة مكي.

ثلاثة الوان يحملهم عنوان الفيلم ترتبط بالالوان الأساسية التي تمثل جانبا مهما من الشخصية اللونية للفنانة المتفرغة التي تباع لوحاتها بآلاف الدولارات في المزادات الخيرية في حين أنها لا تملك المقومات المادية اللازمة لكي تنتقل من بيتها الذي ضاق حيزه عن لوحاتها التي تتكاثر بتكاثر افكارها ودأبها على العمل.

الألوان الثلاثة ايضا تمثل في مستوى ما من مستويات البناء الدرامي- وليس فقط الوثائقي- هذه الخطة التي انتهجتها الغانم من أجل الوصول إلى منتهى غايتها من التجربة ونعني به التحليل الاجتماعي للواقع الاماراتي الحالي من زاوية التطور الانساني والحضاري وليس فقط الاقتصادي.

في أحد اللقاءات الاولى بالفيلم والتي اجريت اثناء معرض مكي بفرنسا يقول أحدهم ان تلك الفنانة تعتبر حالة فريدة ومبشرة بالأمل لأن لا احد يتحدث عن المنجز الفني أو الحضاري للامارات بل يتحدثون عن النمو الاقتصادي لدبي وابو ظبي ولكن ان تأتي فنانة (امرأة) بمثل هذا المستوى الراقي فهذا أمر يستدعي الانتباه والسعادة.

هذا التعليق المكثف جدا هو احد المفاتيح الهامة في قراءة التجربة ومنحها العمق الفكري والنفسي الذي يتجاوز الجانب الفردي فيها او حتى الدعائي.

ثلاثة ألوان وثلاثة مستويات من البناء الاخراجي للمادة، المستوى الأول هو(من هي الفنانة نجاة مكي) هذا السؤال يأتي من خلال المشاهد الأولى والتي تقدم لنا نجاة في معرضها الناجح في فرنسا، أنها إذن فنانة تبدو عالمية السمعة، تملك رصيد من التقدير الفني في الوسط التشكيلي والثقافي الدولي.

نجوم الغانم

هنا يتجلى أول ملامح المكر الوثائقي الذي تمتاز به الغانم، فهي تشعرنا في البداية بمدى ما نجهله عن فنانينا العرب الذين يقدرهم الغرب ويمثلون بالنسبة له جسرا حضاريا هاما مع المجتمعات التي لا تزال رغم قوتها الاقتصادية في طور النمو الانساني.

بعدها تنتقل الغانم مبشارة وفي مشهد أقرب للكوميديا السوداء إلى نجاة بعد ان عادت من فرنسا وهي تبحث عن مكان لكي تصف سيارتها فيه ولا تجد سوى مساحة صغيرة امام منزلها لكنها تتعرض بعدها للمخالفة.

هنا تبدأ الغانم في تحديد ملامح التجربة اجتماعيا وربما سياسيا ايضا، وتنتقل إلى المستوى الثاني من الفيلم وهو(من هي المواطنة نجاة مكي) حيث تتابع المخرجة الوضع الأجتماعي لنجاة التي ضاقت عليها جدران منزلها بحكم اتساع نشاطها في الرسم والتشكيل والنحت، واصبح الحي الذي تعيش فيه يغص بالجنسيات الأجنبية التي لا تستطع نجاة أن تتسق معها في اطار عام بحكم حساسيتها الفنية لكنها- وبخبث سينمائي من كاميرا الغانم- تظل قادرة على اكتساب خبراتها اللونية وقدراتها التشكيلية من وسط كل هذه الفوضى الشكلية والأنسانية التي تحيط بها.

استطاعت المخرجة أن تقدم لنا هذا التضاد البصري والفكري الواضح بين العالم الفني والتشكيلي لنجاة وبين بيئتها الاجتماعية كمواطنة تعاني من مشكلات تعيق تفرغها للابداع والرسم رغم اخلاصها الكامل الذي وصل إلى حد الرهبنة – فلا زواج ولا ابناء- انها زوجة لللون وام لللوحة.

بجرأة مغلفة بنقد سياسي وعبر تتابع المشاهد تقدم لنا الغانم شكواها الثقافية في نظرتها لمجتمعها الذي يقدم معرضا لنجاة في متحف الشارقة بينما لا يمكنها من أخذ ترخيص لصف سيارتها امام منزلها او يساعدها على أن تنتقل إلى منزل اكبر يصلح كمسكن واستديو لأبداعاتها التي لا تنتهي.

عبر تسعين دقيقة من زمن الفيلم ثمة انضباط ايقاعي يخص التأكيد على أن هذه الفنانة تعمل طوال الوقت، فخمسين في المئة من مشاهد الفيلم عبارة عن لقطات لنجاة وهي ترسم وتلون وتقوم بالنحت والتشكيل وكأنها تسابق الزمن في اخراج كل ما بداخلها قبل أن يمضي العمر سريعا.

هذه النسبة من مشاهد الرسم والابداع تبدو مقصودة جدا للتأكيد على المباشر على أن هذه الفنانة – وكل ما تمثله من قيم التطور الحضاري والأنساني- تحتاج إلى رعاية المجتمع بشكل اكيد لصالح هذا المجتمع وليس لصالحها الشخصي او الاجتماعي، تتبلور رسالة الغانم بشكل ماكر لكنه مؤثر، التطور الحضاري لا يأت فقط من واقع النمو الأقتصادي والسيولة المالية بل عبر الأيمان بقيمة الفنون والثقافة والعلوم الذين يقومون بمهتمهم الفكرية والواجدانية في مواكبة المجتمع- اي مجتمع- للتطور الحقيقي.

اسمي مصطفى خميس

اسمي مصطفى خميس ليس مجرد تجربة وثائقية جديدة في سلسلة الأفلام التي قدمها المخرج المصري محمد كامل القليوبي- سواء عن رائد السينما المصرية محمد بيومي أو عن ابنة الفنان نجيب الريحاني- والتي من الصعب تصنيفها نوعيا على انها مجرد تجارب وثائقية.

القليوبي لديه هذه القدرة على”عجن” الأنواع ببعضها حتى تفقد ملامحها الأصلية وتصير مكونا بصريا وفكريا جديدا، ظاهريا تعكس تجاربه السابقه ولعا بالبورتريه الشخصي في مفهومه المجرد او التقليدي ولكن في حقيقة الأمر فان كاميرا القليوبي تتجاوز ذلك إلى رسم ملامح نفسية وانثربولوجية زمنية ليس فقط للشخصية التي يتصدى للحديث عنها ولكن للحقبة والحالة التاريخية والإنسانية التي تحيط بها وتؤثر فيها، وإلا ما الذي استدعى “حادثة خميس والبقري”إلى ذهنه رغم أنها بعيدة كل البعد عن تاريخ السينما الذي يعتبر التربة الأثيرة لافكاره بالإضافة لكونها احد الحوادث التي لا يتوفر لها ارشيف بصري سواء على مستوى الصور الفوتغرافية أو المواد المصورة نظرا لحساسية القضية وكونها أحد المناطق المظللة في تاريخ حركة الجيش المصري عام 1952.

يجيبنا المخرج عن هذا التساؤل عبر محورين اساسين المحور الأول هو الربط الغير مباشر الذي يحدث في ذهن المتلقي عندما يستمع ويشاهد ذهنيا عبر شهادات المؤخرين والمعاصرين واقعة الإضراب العمالي عقب حركة الجيش في مدينة المحلة وما تلاها من القبض على احد العمال وغفير المصنع والحكم باعدامهما.

هذا التداعى يأتي من خلال مقارنة ذهنية تتمثل في عقل المتلقي عندما يقارن وقائع الأضراب والقبض على الشابين وسرعة الحكم عليهم بالأعدام وبين ما يحدث في الوسط العمالي المصري منذ قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير.

اما المحور الثاني فهو التأكيد من خلال اللقاءات مع رموز من الحركة العمالية والنقابية الحالية في مصر على أن تلك الواقعة كانت محاولة الدولة/النظام لاخصاء الحركة العمالية بالكامل والتي استمرت حتى قبيل ثورة يناير بسنوات قليلة حيث شهدت المحلة على سبيل المثال اعنف الاضرابات والمواجهات بين العمال وبين شرطة نظام مبارك قبيل سقوطها بداية من عام 2005.

هي اذن قراءة شديدة المعاصرة لحادثة لم يبرد فيها دم التاريخ بعد لأنها شكلت منعطفا خطيرا في العلاقة بين الحركات العمالية والأنظمة السياسية في مصر خلال الخمسين عاما الماضية.

اعتمد القليوبي على لقاءات مطولة مع اثنين من اشهر المؤرخين والباحثين في تلك الفترة د.رفعت السعيد رئيس حزب التجمع (سابقا) والكاتب الصحفي صلاح عيسي، بالإضافة إلى توثيق الملامح الشخصية لكلا الشابين (خميس والبقري) عبر لقاءات مع ما تبقى من أسرتيهما لضمان أن يمس المتفرج هذا النفس الإنساني الذي عادة ما يتوه في مثل تلك السياقات السياسية.

يحاول القليوبي برغم ندرة المادة المصورة عن الشابين أن يشعرنا بمآساوية اللحظة التي ازهقت فيها روحاهما خاصة عندما يتوقف أمام تفصيله تبدو عابرة لكنها مؤثرة وجدانيا حين يقول أخو مصطفى الصغير إن اغلب مواليد القرية الذين ولدوا عقب اعدام الشاب تم تسميتهم مصطفى على اسم” الشهيد”.

لقد اعتبر الشابين من قبل من عاصروا الواقعة”شهيدين”وهي احدى الذرى الدرامية الهامة في الفيلم لأنهم لم يكونا ضد النظام الملكي الذي من المفترض أن”الحركة المباركة/ الثورة”قامت لتطهيره ولكنهم كانا يرغبان في توصيل اصواتهما للنظام الجديد ظنا منهما أنه سوف يستمع لهما بدلا من ان يقطع راسيهما.

ومن نفس هذه التفصيلة الصغيرة- اطلاق اسم مصطفى على المواليد- يمكن أن نتصور لماذا اطلق المخرج على فيلمه هذا العنوان، ان مصطفى خميس ليس ضمن شخصيات الفيلم التي تتحدث حتى يمكن أن نقول أنه من الطبيعي أن يكون عنوان الفيلم بضمير المتكلم ولكنها محاولة لإحياء الواقعة-وليس فقط الشخص- والتأكيد على أن ما حدث استمر ولم ينقطع لأن تداعياته السياسية استمرت طويلا فيما يخص علاقة النظام بالطبقة العمالية.

أول ما يمكن أن يخطر ببال المتلقى سؤال: من هو مصطفى خميس؟ وبالتالي يشكل العنوان نقطة هجوم خاطفه عليه لأننا في النهاية امام تجربة تريد للذاكرة الجمعية أن تظل على تأهبها في استرجاع ما فات لأنه لا يزال حاضرا على المستوى السياسي حتى لو اختلفت الأسماء والتفاصيل.

ربما يعتبر البعض الفيلم مليئا بالمقابلات التليفزيونية في محاولة لتعويض فقر الأرشيف المصور، لكن المخرج استطاع أن يختار من بين عشرات الساعات التي سجلها مع شخصياته تلك اللقاءات التي تمنحنا مساحة للتخيل وتعويض شح الصورة بثراء الحكاية وخصوبة الحالة الدرامية التي تولدها القصة.

(يتشرالمقال بتصريح من مسؤول نشرة مهرجان دبي السينمائي)

Visited 6 times, 1 visit(s) today