تلوين الأفلام: تجديد الفرجة وحقوق الملكية

من فيلم غزل البنات من فيلم غزل البنات

انتشرت في الآونة الأخيرة على شبكة الانترنيت ظاهرة جديدة  تتمثل في تلوين أفلام الأبيض والأسود، ومكنت فورة التكنولوجيا الرقمية من تبسيط عملية معقدة راودت عشاق الفن السابع منذ بزوغ فجر السينما، وكالعادة صار العرب أبطالا للعالم في الاستعمال الموسع لهذه التقنية؛ حيث تناسلت على مواقع التواصل الاجتماعي عشرات الصفحات راوحت مضامينها بين تقديم مقاطع فيلمية قصيرة وأفلام كاملة .

وتُسَاءِل هذه التقليعة الجديدة أخلاقية عملية صارت تتم دون موافقة صناع الفيلم، بشكل يعد خرقا لحقوق الملكية الأدبية والفنية، بل أضحت العملية في عمقها أخطر من الاعتداءات المألوفة على الملكية الفكرية مثل القرصنة والاستنساخ و التحميل المجاني .

حلم قديم يصبح ملء اليد

حين ولد الفن السينمائي أواخر القرن التاسع عشر، توشح في بداياته بلونين فقط هما البياض والسواد، ورافق عشاق الاختراع الجديد أمنيتين اثنتين، هما أن تنطق السينما وأن تتشح بألوان الطيف، وهو ما تأتى لاحقا؛ في سنة 1927 نطقت السينما أخيرا مع فيلم ” مغني الجاز”، ثم أخذت تتلون رويدا رويدا إلى أن أضحت قادرة على نقل أدق ألوان الطبيعة على شاشات العرض بأبهى الصور التي قد تتجاوز جمالية الواقع ذاته.

بسرعة، طوت الألوان الطبيعية مرحلة الأبيض والأسود، إلا أن الفضول المفعم بالخيال، ظل يتملك عشاق الفن السابع لاكتشاف كلاسيكيات سينما الأبيض والأسود بالألوان .

نشأت تقنية تلوين أفلام الأبيض والأسود في السنوات القليلة اللاحقة لاختراع السينما، وأول فيلم خضع لعملية تلوين –وإن كانت بدائية – هو الفيلم الفرنسي ” حياة وآلام يسوع المسيح ” العام 1903 ، ولن نغرق القارئ في تفاصيل تقنية معقدة، لكن حسبنا أن نشير إلى أن عملية التلوين كانت تتم بشكل حرفي مضني ومعقد؛ يقوم على إضافة الألوان والصبائغ لنيجاتيف الفيلم يدويا لقطة بلقطة ومشهدا بمشهد.

حدثت طفرات تقنية كبيرة على امتداد مراحل التطور التقني للسينما، وهي تفاصيل قد لاتهم القارئ العادي، لكن يمكن دائما للمتخصص أن يستزيد منها بالرجوع إلى المصادر التقنية المتخصصة ، مع ذلك تستدعي الطفرة الرقمية الأخيرة وقفة، فقد ساهم تطور برامج المعالجة الرقمية للمقاطع الفيلمية في إعطاء دفعة نوعية لتلوين أفلام الأبيض والأسود، لم يعد الملون يحتاج لساعات طويلة من العمل المضني على برامج الجرافيك والفوتوشوب وغيرها، وإنما صار بالإمكان رفع فيلم الأبيض والأسود على برنامج من برامج التلوين التي تعمل بالذكاء الاصطناعي ليقوم تلقائيا وباستعمال خورزميات الذكاء الاصطناعي بتلوين تام للفيلم، وهو ما يفسر ما ظهر في الآونة الأخيرة من تكاثر الصفحات التي تقدم أفلام الأبيض والأسود بالألوان على مواقع التواصل الاجتماعي.

مؤيدون ومعارضون      

من فيلم كازابلانكا

في معرض تبرير موافقته المبدئية على خوض تجربة تلوين رائعته ” أطفال الجنة “، يقول المخرج الفرنسي  مارسيل كارني : ” حتى لو لم نستطع إلا الشجب، فمن الصواب مواجهة الحقيقة؛ الفيلم بالأبيض والأسود مدعو حتمًا إلى الزوال طال الزمن أم قصر، إنها مسألة وقت فقط ، للاقتناع بهذه الحقيقة ، يكفي التمعن في الزبناء الذين يشكلون اليوم طوابير الانتظار أمام دور السينما؛ فهي تتكون بشكل حصري تقريبًا من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين ثلاثة عشر وخمسة وعشرين عامًا أي الأجيال التي ولدت في ظل سينما زاهية الألوان،هذا يعني أيضًا أنه جيل لا يعرف سينما الأبيض والأسود – وحتى إذا عرفها – لم تٌجاوز معرفته بها شدرات متناثرة، ولن نستغرب بعد كل هذا إذا احتقر فيلم الأبيض والأسود وتهرب منه ، ووجده رماديا ، مملا ، وعلى أقل تقدير عفا عليه الزمن، التلفزيون نفسه غير بعيد عن هذه الوضعية، فهو لا يعرض أفلام الأبيض والأسود إلا في أوقات المشاهدة المنخفضة وأحيانا بعيد منصف الليل …ويردف كارني… أعتقد اعتقادًا جازما أن التلوين يمكنه أن يمنح شبابًا ثانيًا وحياة جديدة لفيلمي، ويجعل التلفزيون ينظر إليه أخيرًا بالتقدير الذي يستحقه.”

يكاد مارسيل كارني يلخص في هذه السطور كل الأسانيد التي يعتمدها أنصار تلوين الأفلام القديمة، لكن بالمقابل واجه تلوين أفلام الأبيض والأسود ولا يزال معارضة قوية، يرى معارضوه أنه اعتداء صارخ يسيء إلى أصالة العمل السينمائي، ووصفته نقابة كتاب السيناريو الأمريكان بأنه عمل من أعمال التخريب الثقافي، وشكل المخرج ودي ألن مع عدد من مشاهير السينمائيين أمثال ميل بروكس وميلوس فورمان وستيفن سبيلبرغ وجورج لوكاس و مارتن سكورسيزي جبهة للتصدي لتلوين الأفلام القديمة.

يواجه تلوين الأفلام السينمائية، تحديات فنية وتقنية كبيرة، فمن جانب لا يعبر التلوين بالأمانة المطلوبة عن واقع الألوان في العمل الأصلي سواء من حيث الطبيعة أو الملابس والإكسسوارات ، كما أن هنالك صعوبات تقنية في ضبط الظلال والإضاءة وفرض تناسقها، وتسود صعوبات أخرى في إجادة نقل سحنات الممثلين على الشاشة التي تبدو في مجملها متشابهة لا تراعي الاختلافات الخلقية، والأدهى التشويه الذي يحدث وعبرت عنه الممثلة جنجر روجرز مستنكرة ” ما شعور الممثلة عندما ترى نفسها على شاشة تلفزيون مطلية مثل كعكة عيد ميلاد “، لكل هذه الاعتبارات رأى كثيرون في تلوين الأفلام السينمائية مساسا بأصالة العمل الأصلي وحق مؤلفه في إبقائه على شكله الأول.

موقف القانون والقضاء

غابة من الأسفلت

يتمتع مؤلف العمل السينمائي سواء أكان المنتج في الولايات المتحدة الأمريكية أو المخرج في أوربا وباقي العالم، بحقين من حقوق الملكية الفكرية على مصنفه، أولهما حق مادي يخوله حق الاستئثار باستغلاله بما يعود عليه بالمنفعة أو الربح المادي عن طريق جميع أنواع الاستغلال كالبيع والتأجير والتوزيع والاستنساخ والعرض وما في حكمها من أنواع التصرفات التي تتم بمقابل، أما الحق الثاني، فيعرف بالحق المعنوي أو الأدبي، ويُخول المؤلف السلطات اللازمة لحماية مصنفه بوصفه جزء من شخصيته، وهو بهذه الصفة حق غير مادي لا يقوم بمال، ولا يقبل التصرف فيه ولا الحجز عليه ولا يسقط بالتقادم مهما طال الزمن .

ومما يمنحه الحق المعنوي أو الأدبي للمؤلف تأكيدا لأبوته على العمل الفني وحقه في فرض حمايته ؛ الحق في تعديل مصنفه بالتغيير والتحوير والترجمة والاقتباس، ولا يجوز لغيره أن يمارس هذا الحق إلا بإذن  كتابي منه أو ممن يخلفه، والشاهد عندنا أن عمليات التلوين التي تطال المصنفات السينمائية بالأبيض والأسود تندرج في نطاق سلطة المؤلف في تعديل مصنفه فلا يسوغ القيام بها إلا بإذنه أو تحث إشرافه، وبالتالي فإن كل ما يتم اليوم على نطاق واسع بشبكة الانترنيت يندرج في نطاق الاعتداءات على حقوق الملكية الفكرية للمصنفات السينماتوغرافية.  

ولقد أتيحت للقضاء الفرنسي فرصة الفصل في نزاع قضائي هم تلوين عمل سينمائي صور في أصله بالأبيض والأسود. ففي عقد الثمانينات من القرن الماضي، حاول التلفزيون بعث أفلام الأبيض والأسود ومنحها حياة ثانية من خلال تقنية التلوين، ورامت العملية في جوهرها الدفع بهذه الأفلام إلى العرض في ساعات ذروة المشاهدة، مما يجلب مزيدا من المستشهرين، ويعود في الأخير بالنفع على الفيلم وصناعه، في هذا السياق أعلنت القناة الخامسة في التلفزيون الفرنسي عن استعدادها لبث نسخة ملونة من فيلم ” غابة من الاسفلت” للمخرج جون هيوستون الذي سبق أن عرض في فرنسا بداية الخمسينات من القرن الماضي تحث عنوان ” عندما تنام المدينة”.

تقدم أبناء المخرج الذي كان قد توفي لتوه بدعوى استعجالية لمنع  بث النسخة الملونة للفيلم بدعوى مساسها بالحق الأدبي لوالدهم، فقضى قاضي الأمور المستعجلة بباريس وفق طلبهم وهو الأمر الذي أيدته محكمة الاستئناف، أمام ذلك لم يكن أمام مالكة حقوق استغلال الفيلم شركة Turner Entertainments Company سوى التوجه إلى قاضي الموضوع ممثلا في المحكمة موسعة الاختصاص بباريس للترخيص بعرض النسخة الملونة في فرنسا، إلا أن المحكمة قضت في حكمها الصادر في 23 نونبر 1988 برفض طلب الجهة المنتجة، ومما عللت به حكمها أن ” التلوين يؤثر بشكل مؤكد ومباشر على حساسية المشاهد، ومن المرجح أن يغير انطباعاته مما يشكل مساسا بالحق المعنوي للمؤلف.”

استأنفت الجهة المنتجة للفيلم الحكم، فأصدرت محكمة الاستئناف بباريس قرارها بتاريخ 6 يوليوز 1989 بإبطال حكم محكمة الدرجة الأولى بدعوى أن ورثة جون هيوستون لا يمكنهم الاحتجاج في فرنسا بالحق الأدبي الذي يعترف به القانون الفرنسي لمخرج الفيلم، على أساس أنه يجب الفصل في القضية بموجب القانون الأمريكي الذي يجعل منتج العمل السينمائي هو المالك لحقوق المؤلف وله وحده إثارة الحق الأدبي .

حين نٌقِل النزاع أمام محكمة النقض الفرنسية، قضت بموجب قرارها الصادر بتاريخ 28 ماي 1991 بنقض قرار محكمة الاستئناف بباريس، وإحالة الأطراف على محكمة الاستئناف بفرساي بعلة أنه ” لا يسوغ بأي شكل من الأشكال المساس بسمة عمل أدبي وفني كيفما كانت الدولة التي كشف عن العمل لأول مرة فوق أرضيها؛ وأن الشخص الذي يعتبر مؤلفا بمجرد إنشائه للعمل يتمتع بالحق المعنوي (أو الأدبي) الذي أقره لصالحه القانون”.

ضمنيا أقرت محكمة النقض الفرنسية لجميع المؤلفين المشتركين الدفع بالحق الأدبي والأحقية في الترخيص بالتلوين من عدمه، على أن موقفها لم يحظ بتأييد أغلب المتخصصين في قانون الملكية الفكرية بفرنسا، فقد تساءل كثير منهم فيما إذا لم يكن منع تداول الفيلم في حد ذاته مساسا بالحق الأدبي لجون هيوستون بشكل الذي قد يُولِدٌ ضررا يفوق عملية التلوين نفسها ؟ ثم ماهو ذنب باقي المؤلفين المشتركين، وهل عليهم أن يخضعوا لإرادة عائلة هيوستون ؟ وما سيكون عليه موقف القضاء الفرنسي لو انضم هؤلاء المؤلفين المشتركين إلى الجهة المنتجة في دعواها ؟

نعتقد أن هنالك أفلاما لا يسوغ تلوينها مطلقا دون الحصول على أدون من مؤلفيها ، لأنها اختارت التصوير بالأبيض والأسود مع وجود الألوان كفيلم جون هيوستون هذا و” نفسية معقدة ” لهيتشكوك 1960 و” مانهاتن” لودي ألن 1979 و”قائمة شندلر” لسبلبيرج 1993 وغيرها، فهذه اختيارات جمالية ينبغي احترامها، أما الأفلام التي صورت بالأبيض والأسود قبل ظهور الفيلم الملون أو نتيجة ضعف الإمكانيات التي لم تتح التصوير بالألوان، فينبغي ترك الأمر للقضاء من خلال  مختلف الملابسات لتقدير وجاهة الدفع بالحق الأدبي حتى لا يتخذ من طرف بعض المؤلفين مجرد وسيلة لابتزاز المنتجين .

مبدئيا تضم دائرة أصحاب حقوق التأليف في مجال السينما؛ المنتج في المنظومة الأمريكية، والمخرج بالنسبة للعمل برمته، والسيناريست بالنسبة للقصة، والمؤلف الموسيقي فيما يخص الموسيقى التصويرية، لكن ماذا عن أصحاب الحقوق المجاورة كفناني الأداء، وهل يمكنهم التمسك بحق أدبي في مواجهة مشاريع تلوين أعمالهم ؟

تفيد أخبار قادمة من مصر، أن بعضا من ذوي حقوق فناني الأداء الذين شاركوا في مسرحية ” مدرسة المشاغبين” يستعدون لرفع دعوى ردا على تلوين هذه المسرحية وعرضها على إحدى المنصات الالكترونية على الشبكة، ومادام القضاء سينظر القضية ، فمن الأفضل انتظار المبدأ الذي سيكرسه بصدد مسألة شائكة لم تعرض للقضاء حتى في الأنظمة المقارنة .     

Visited 98 times, 1 visit(s) today