تعدد المستويات في فيلم برجمان “بيرسونا”

وهم الصورة في "بيرسونا" وهم الصورة في "بيرسونا"

رغم مرور أكثر من ستين عاما على فيلم “بيرسونا” Persona (أو “القناع”) للمخرج السويدي الكبير إنجماربرجمان (من 1966)، إلا أنه لايزال يثير الكثير من التساؤلات، ويدفع الكثير من الباحثين والنقاد وعشاق السينما ودارسوها عموما، الى الاجتهاد في محاولة فهمه وتفسيره.  

يعتبر “بيرسونا” نقطة فاصلة في تاريخ برجمان السينمائي، ففيه ينتقل الفنان من سينما الرمز وسينما الواقع، إلى سينما الشعر، أو سينما التعبير الذاتي الفلسفي عن العلاقة بين الإنسان وذاته، عن وجوده في الكون، بل وعن علاقة الفن بالحياة وبالعالم وبالحقيقة. وفيه يطرح تساؤلات مقلقة مثل: هل الفن تعبير عن الواقع أم أنه يوهم بالواقع وقد لا يكون ما يعرضه له وجود أصلا بل ينبع من خيالنا ومن هواجسنا الشخصية التي نسقطها على ما نشاهده.

هذه التساؤلات لا تأتي من خلال دراما سينمائية، بل يمكن القول إنه لا يوجد في فيلم “بيرسونا” دراما أو حبكة أو صراع. صحيح أن هناك شخصيات، أو بالأحرى، شخصيتان، وعلاقة خاصة حميمية تربط بينهما، تدور في دائرة الرغبة في التواصل والتكامل والحب لكنها علاقة مشحونة بالتشكك والكراهية والسخط والغضب أيضا. إنها علاقة كامنة في صميم بنية الفيلم ذاته وبنائه البصري. وفيه يعبر برجمان عن فلسفته الخاصة من خلال الصورة والعلاقة بين مكوناتها، أنوارها وظلالها، إيقاعها البطيء الذي يجعل اللقطة قد تستغرق عدة دقائق على الشاشة، أو من خلال حصر الشخصية داخل ديكور ذي ملامح محددة، يبدو تارة كما لو كان كهفا أو مقبرة تضم نعشا تتمدد في داخله الجثة التي لم تفقد الحياة تماما بعد، وتارة أخرى تنطلق الشخصيتان خارج الديكور الخانق إلى شاطئ البحر ولكن من دون أن يتحقق الشعور بالحرية أو يقل العجز عن التواصل.

إن التواصل هنا ليس مع الشخصية الأخرى فقط بل مع الذات أساسا. فهل تفهم الشخصية ذاتها بعد أن “تبوح” بما لديها؟ فـ”بيرسونا” أيضا فيلم عن البوح الذي يجرح ويصدم، وينتهي إلى إيلام صاحبته أكثر مما يطهرها أو يشعرها بالارتياح.

الازدواجية

الازدواجية علامة بارزة في “بيرسونا”

محتوى الفيلم يقوم على شخصيتي امرأتين. كلاهما هي الوجه الآخر للأخرى. وفكرة الازدواجية واضحة في الفيلم. وكلما شاهد المرء الفيلم كلما أدرك أن “بيرسونا” ربما لا يكون عن شخصيتين، أو امرأتين، بل عن شخصية واحدة، ترى نفسها في صورة الأخرى، سواء أكانت “اليزابيث فوغل” (ليف أولمان) الممثلة التي أصيبت بعدم القدرة على النطق عندما كانت تؤدي دور “اليكترا” على المسرح وأخذت تضحك في هستيرية، أو “ألما” (بيبي أندرسون) الممرضة التي كُلفت من قبل الطبيبة النفسية التي تعالج “إليزابيث” بالإشراف على علاجها.

يدور القسم الأول من الفيلم (وهو قصير) في المستشفى، وفي القسم الثاني (الأطول) تنتقل الاثنتان الى المنزل الذي وهبته الطبيبة مؤقتا لمساعدة مريضتها على الشفاء. يقع المنزل على شاطئ البحر في جزيرة نائية. المرأة الأولى “إليزابيث” صامتة تماما رغم انها تدرك وتعي وتستمع وتنصت بكل اهتمام كما يبدو على ملامح وجهها، وهي تعبر بنظرات عينيها أو ابتسامتها أو إيماءة من رأسها. والثانية لا تكاد تكف عن الكلام، فيما يبدو مثل “مونولوج” طويل تعكس من خلاله ذاتها وتعبر عن مخاوفها وتكشف تدريجيا، دون أن تدرك، نقاط ضعفها الكامنة أمام اليزابيث التي يُفترض أنها الطرف الضعيف، المريض، العاجز عن الكلام. هنا تتبادل المرأتان الأدوار، فتكتسب اليزابيث القوة تدريجيا وتصبح الأكثر هيمنة على “ألما”، بينما تصبح “ألما” أكثر هشاشة وضعفا وخضوعا مما يدفعها الى الرغبة في الإيذاء والانتقام.

برجمان مع بطلتي فيلمه ليف أولمان وبيبي أندرسون

من الممكن بالطبع الاستناد في تحليل فيلم “بيرسونا” على منهج التحليل النفسي كما فعل الكثيرون. فالباحثة التشيكية رومانا شفاسوفا Romana Švachová تذكر في بحثها الذي أجرته عام 2019 بعنوان “سد الفجوات في سيناريو بيرسونا” (بحث مقارن بين السيناريو الأصلي والنسخة النهائية من الفيلم)، أنه “في الفترة بين 1967 و2005، كان هناك 11 بحثا أكاديميا في دراسة الدوافع السيكولوجية في فيلم “بيرسونا”، من بينها 9 أبحاث تدرس الجوانب الميتا- سينمائية في الفيلم”.

التحليل النفسي لا يكفي لفهم جوهر الأزمة الوجودية في “بيرسونا”. أزمة الشخصية التي هي في الحقيقة أزمة خالقها نفسه أي برجمان الذي يبدو كما لو كان يعكس مشاعره الشخصية بالخوف والقلق والرغبة في الابتعاد عن التواصل وفي رؤية ذاته من دون “القناع” والكف عن القيام بدور الموجه، الأستاذ، القائد، المخرج الذي يوهمك بأن ما تشاهده يطابق الحقيقية. برجمان هنا يعكس أيضا هواجسه عن المرض والموت والقوة والضعف والعجز عن الحب وغياب من ينصت ويستمع ويتعاطف، تماما كما كان يفعل في فيلمه السابق مباشرة “الصمت” (1963).

التشابه مع “الصمت”

 لا شك في وجود الكثير من أوجه الشبه بين “الصمت” The Silence و”بيرسونا” ولو من ناحية البناء العام. ففي “الصمت”، هناك امرأتان في علاقة حميمية صامتة تشوبها الغيرة والتوتر والغضب والحب والكراهية والنبذ، إحداهما مريضة ترقد على الفراش، والأخرى أكثر جمالا تتمتع بالتحرر المطلق، وبين الاثنتين طفل، هو نفسه الذي يظهر في “بيرسونا” في البداية ثم في النهاية وكأنه يلعب دور الشاهد الذي لا يتدخل بل يراقب ويفهم ويدرك. وفي كلا الفيلمين نرى إحدى المرأتين تروي تجربة شخصية جنسية بتفاصيلها المثيرة، سواء كانت مليئة بالمبالغات والأكاذيب والإضافات (كما في “الصمت”) أو يفترض أن تكون قد وقعت فعلا (كما في بيرسونا) ولكننا لسنا على يقين من أن التفاصيل التي ترويها “ألما” في “بيرسونا” قد وقعت لها حقا مع صديقتها كاترينا (التي تغيب عن الفيلم).

استخدام عمق المجال في “الصمت”

 بين الفيلمين أيضا علاقة ما تتعلق بفكرة التواصل، أو بالأحرى، العجز عن التواصل: غياب اللغة المشتركة مع الآخرين في “الصمت”، وتناقض الشخصيتين وما تنزله إحداهما بالأخرى من عذاب بسبب رفضها لفكرة تفوقها، وصمت الطرف الثاني، أي “اليزابيث”، في “بيرسونا” ورفضها تبادل الحديث مع “ألما” رغم كل ما تبذله الأخيرة من محاولات، الأمر الذي تفسره “الما” بأن “إليزابيث” تتعمد إهانتها والحط من شأنها.

كانت “إستر” في “الصمت” تشعر بالدونية، أي بأنها أقل ذكاء وثقافة ومعرفة من شقيقتها الكاتبة “أنا” لذا اختارت أن تنتقم منها بتعذيبها أو بخيانتها الجسدية مع الرجال، وكذلك بإهمالها والتخلي عنها وتركها تموت وحيدة في غرفة فندق خالٍ من النزلاء. وفي “بيرسونا” تشعر “ألما” وتعترف مباشرة، بأنها ليست على نفس الدرجة من الذكاء والتجربة والشهرة مثل “إليزابيث” الممثلة المشهورة.

ورغم أن فكرة “الازدواجية” تجمع بين الفيلمين، إلا أن برجمان يقطع مسارا أكثر جرأة وتعمقا في “بيرسونا” ويهتم كثيرا بالتعبير البصري عن تلك الفكرة من خلال جماليات الصورة واستخدام المونتاج وإدخال الحلم ومزجه بالحقيقة بل والتلاعب بفكرة الحلم الذي قد لا يكون حلما، بل وأن ما نراه في الفيلم بأكمله قد لا يكون سوى مجرد “فيلم” أي من نسج الخيال. برجمان على سبيل المثال، يجعل التفرقة تصبح صعبة تدريجيا بين المرأتين في اللقطات القريبة والقريبة جدا لوجهيهما أو لجزء من الوجه. وهو يحصرهما معا في لقطة واحدة (شهيرة) تجمع بين نصف وجه اليزابيث ونصف وجه آلما، دلالة على أنهما قد أصبحتا شخصية واحدة. ولكن هل كانت الاثنتان أصلا منفصلتين.

يتحرر برجمان من القواعد التقليدية فيصور لقطات تبدو دون صلة مباشرة بالموضوع، ويكرر مشهدا بكل حواره من زاوية مختلفة، ويجمع لقطات متعارضة معا تخالف قاعدة التتابع السلس، ويصور لقطات مبهمة خارج البؤرة، ويستخدم الشاشة البيضاء والكاميرا المتحركة التي تتبع الشخصية (على شاطئ البحر) أو تراقبها من بعيد (ألما وهي تكسر زجاجة وتضع القطع المهشمة على الأرض في الممر الذي ستعبر عليه اليزابيث لكي تؤذيها)، والتناقض الحاد بين الأبيض والأسود، وبين مقدمة الصورة وخلفيتها حيث تصبح الخلفية هي الأوضح.

الوجه الآخر

الوجه والوجه الآخر

اليزابيث تسبب الألم لألما عندما تكتب رسالة توجهها للطبيبة، تفضح فيها ما باحت لها به ألما، من تلك المغامرة الجنسية المجنونة التي خاضتها ذات مرة مع صديقتها كاترينا وشابين من الغرباء على شاطئ البحر، وبدت لغة الخطاب وكأن اليزابيث تهزأ وتسخر من مشاعر ألما.

ألما هي الوجه الآخر لإليزابيث، وهي تؤلمها عندما تواجهها في مشهد محوري في الفيلم، وتقص عليها كيف أنها- أي إليزابيث- أنجبت طفلا لم تكن تريده، فجاء الطفل مشوها، وكانت تتركه عند أصدقائها حتى لا يحول بينها وبين مواصلة التمثيل في المسرح. هذه القصة ترويها ألما أولا ولكننا نسمعها من خلال رد فعل اليزابيث عليها وهو رد فعل مليء بالألم والاستنكار والحزن، وفي المرة الثانية نراها ولكن بعد أن تصبح الكاميرا على وجه ألما التي تردد نفس كلمات هذا “المونولوج” الطويل المؤلم حرفيا وبكل قسوة. ولا شك أن اختيار الزاويتين المختلفتين مقصود تماما، ربما لكي يقول لنا برجمان إن ما نعرفه عن أنفسنا ليس بالضرورة هو الحقيقة، وأننا كثيرا ما ندفن الحقيقة ونحتاج الى استدعائها مباشرة إلى العقل الواعي مهما كانت مؤلمة.

الصورة في “بيرسونا” تتحدث وهي أقوى كثيرا من الحدث، أو أن “الحدث” أو تلك العلاقة المتوترة القائمة بين الاثنتين، تبرز وتتعمق وتظهر من خلال لقطات الوجهين، والشخصيتان تبدوان في معظم مشاهد الفيلم حبيستين داخل لقطات قريبة ضيقة وخانقة، وتلعب الإضاءة دورا في تكثيف مشاعر الشخصيتين والتعبير عن فكرة الازدواجية والتبادلية أي تبادل الأدوار بين القوة والعنف، الهيمنة والاستكانة، الغضب والهدوء، الانتقام والبوح والتفريغ بالمعنى السيكولوجي، ولكن أساسا: الحب والكراهية.

ليف أولمان تسجل بالكاميرا

من عالم السينما

يبدأ الفيلم بمشهد يلخص فيه برجمان بدايات السينما، سحر الصورة الخيالية، وطفل يمسح نافذة غرفة بيده لتتبدى له صورة وجه يتضح تدريجيا، هو وجه “اليزابيث”. ثم تظهر آلة عرض ومصباح الآلة يصدر ضوءً قويا مع موسيقى درامية حادة، ثم شريط رسوم متحركة، ويدين ثم شاشة ناصعة، ثم عقربا، ثم مسمار ضخم يُدق في كف بشرية.

يعكس الفيلم عالم برجمان الخاص، خياله، عن نفسه، عن نظرته للعالم، عن شعوره بالاختناق في شخصية تحبسه وتمنعه من ممارسة ما يحبه. وهو يعبر عن المشاعر المكتومة التي لا يتم التعبير عنها بالكلام من خلال الأبيض الناصع شديد البياض، والأسود الداكن شديد السواد. ويستخدم المواد التسجيلية الدخيلة تماما على الفيلم لكي يدفعنا الى التفكير: ما الذي دفع اليزابيث إلى الصمت؟ هل هو ما يحدث في العالم من أحداث دامية؟ إنه يجعلها تشاهد على شاشة التليفزيون لقطات تسجيلية لما كان يقوم به الألمان من تجميع اليهود في معسكرات الاعتقال النازية، ثم راهبا بوذيا يحرق نفسه احتجاجا على حرب فيتنام.  ولكن هل ما يفعله الانسان بالإنسان هو ما يؤرق اليزابيث (وبرجمان)؟ أم فكرة الحياة المزدوجة التي لن يتحرر منها المرء سوى بمواجهة الذات وخلع القناع، وبالتالي التحرر من الخوف من الموت؟ كلها أفكار لا توجد إجابة شافية قاطعة عليها.

اليزابيث تنطق مرتين في الفيلم: الأولى عندما تهم “ألما” بإلقاء ماء ساخن على وجهها، فتسارع بنطق كلمتين فقط: كلا. توقفي. إنها تخشى الأذى، التشويه، العذاب وربما أيضا، الموت. أما في المرة الثانية قرب النهاية فنرى ألما تحتضنها وتكرر أمامها كلمة “لاشئ” وتطلب منها أن تكررها وراءها. ومع إصرار ألما هذه المرة، تتحرك شفتا اليزابيث وتنطق” لاشئ”. هل هو العدم؟

 يتركنا برجمان وعشرات الأسئلة تدور في أذهاننا. فلا شيء يتضح تماما، وكما يبدأ الفيلم بغموض الشاشة البيضاء التي يظهر عليها وجه اليزابيث ليحل محله وجه ألما، قبل أن يختفي الوجهان، ينتهي الفيلم بشاشة غامضة مبهمة يتحسسها الصبي نفسه بعد رحيل اليزابيث في اللقطة السابقة، ليظهر الوجه مجددا ثم يختفي بسرعة، فقد انتهى الفيلم الذي كان يدور في جهاز العرض السينمائي.

فيديو

Visited 158 times, 1 visit(s) today