ترميمات وونغ كار واي.. عن شخصيات مسكونة بالحنين

وونغ كار واي وونغ كار واي

حوار: ديفيد إيرليش

ترجمة: هيثم مفيد

لطالما اشتهر المخرج الصيني وونغ كار واي بلغة شاعرية سينمائية لم تفشل أبداً في مداعبة مشاعرنا في كل مرة نتورط فيها داخل عوالمه. فهو يُعرف بسيد “الزمن السينمائي” بسبب قدرته على تطويع أدواته الإخراجية لتسليط الضوء على تأثير الزمان والمكان على سلوك الفرد وسط عوالم قاسية تحدها الوحدة وعلاقات محطمة لم يُكتب لها النجاة.

وبعد مرور نحو 34 عاما على إصدار أول أفلامه “كما تذهب الدموع” (As Tears Go By)، وجد كار واي نفسه بحاجة إلى إعادة النظر في إرثه الخالد. فقام، بالتعاون مع مجموعة “Criterion Collection”، بإعادة إصدار سبعة نسخ مرممة من أشهر أفلامه بتقنية 4K، في مهمة استغرقت خمسة سنوات من العمل، لكنها لم ترقي لطموح الكثيرين من عشاق سينماه بسبب بعض التعديلات التي أدخلت عليها وقللت من مكانتها الكلاسيكية. وهو ما استدعى المخرج صاحب الـ66 عامًا، لتوضيح وجهة نظره حول هذه التعديلات في حوار أجراه مع موقع “إندي واير” الأمريكي:

بداية، سألت وونغ عما إذا كان قلقًا بشأن مستقبل السينما، فأجاب: “لقد سئمت من كل هذا القرف بأن “السينما تحتضر”. ما يجعلها متراجعة الآن هي تبعات ظروف الوباء وتكاليف مشاهدة الأفلام المرتفعة. بالنسبة للأشخاص الذين يهتمون حقًا بمستقبل السينما، أقترح عليهم الذهاب لشراء تذكرة لدعم دور السينما المحلية، لأن العديد منهم بالكاد ينجون”.

من فيلم “تشنجكنج اكسبريس”

ومع ذلك، في هذه الأيام يبدو أن وونغ بدا أقل تركيزًا على مستقبل السينما مما هو عليه في الماضي. لقد مر ما يقرب من عقد من الزمان منذ إصدار أخر أفلامه “المعلم الأكبر” (The Grandmaster) عام 2013. الآن، عاد أخيرًا لإخراج مسلسلاً تلفزيونيا بعنوان “أزهار شانغهاي” (Blossoms Shanghai) تستند قصته على رواية الكاتب الصيني المرموق جين يوتشنغ، ويبدو سعيدًا حيال تجربته الجديدة حتى الآن.

بالحديث عن تلك الترميمات، التي تم تجميعها في صندوق أنيق أصدرته مجموعة ” Criterion Collection”، أتضح أنها مثيرة للجدل. عندما بدأ تداول لقطات منها عبر الإنترنت، فوجئ معجبو وونغ – وأصيب العديد منهم بحالات من الحزن الشديد – عندما اكتشفوا أن الأفلام لم تعد تتطابق مع أعز ذكرياتهم عنها.

بعض الأشخاص، بعد أن شاهدوا أفلام وقعوا في عشقها للأبد، مثل: “تشونجكينج اكسبريس” ((Chungking Express و”في مزاج الحب” (In the Mood for Love)، اكتشفوا أن النسخ الجديدة قد وسعت نسب العرض إلى الارتفاع إلى 1.85:1 بدلاً من نسب الإطارات القديمة 1: 1.66، وهو ما تم اعتباره على أنه نوع من “الخيانة” لتلك الصور الكلاسيكية.

لقد تم بالفعل تشويه فيلم “الملائكة الساقطة” (Fallen Angels) في إطارات “سينما سكوب” العريضة، حيث قام وونغ بتحويلها من نسب العرض القديمة 1: 1.85 إلى 1: 2.39، والنتيجة هي أن كل لقطة من الفيلم تم اقتصاصها الآن بشكل أقرب، وتم إعادة تلوينها بطريقة جعلت بعض أبطال فيلم وونغ الأكثر قتامة يتساءلون عما إذا كانوا قد أخطأوا في تذكر شخصياتهم بصورة صحيحة.

من فيلم “في مزاج للحب”

لكن بالنسبة إلى وونغ، فإن إعادة النظر في أفلامه السابقة كان يستحق القيام به رغم الطريقة العدوانية التي تم بها الأمر، يقول: “عندما يحتاج الفيلم إلى الترميم، هناك دائمًا أشياء يمكن إصلاحها، وإلا فلماذا تهتم بالترميم في المقام الأول”. إن هذا صحيح بما فيه الكفاية، ولكن من سيعترف بهذه الخسائر؟ أجاب وونج بأنه “أثناء عملية الترميم… وقعنا في مأزق بين إعادة هذه الأفلام إلى الشكل الذي يتذكرها بها الجمهور وكيف كنت أتخيلهم في الأصل. كان هناك الكثير مما يمكننا تغييره، وقررت أن أسلك المسار الثاني لأنه سيمثل رؤيتي الأكثر وضوحًا لهذه الأفلام”.

ومع ذلك، فإن ترميمات وونغ لديها القدرة على إغرائك إلى الجانب المظلم وإقناعك بشيء لا تستطيع اللقطات المتداولة وحدها فعله؛ هذه الترميمات هي أكثر إخلاصًا للروح الجماعية للنسخ الأصلية بسبب التغييرات التي تم إجراؤها عليها. ومن منظور معين، فإن هذه التعديلات تبلور نفس الحكمة المراوغة التي كانت شخصيات وونغ تطاردها في عوالمها السحرية. فلا شيء يمكن أن يكون تمامًا على حاله كما كان في الماضي. أو كما قال المخرج الفرنسي أوليفييه أساياس ذات مرة في خطاب لتكريم صديقه في مهرجان لوميير السينمائي: “شخصيات وونغ كائنات مسكونة بالحنين إلى ما لم يعرفوه”.

وهذا لا يعني أن وونغ لم يكن مستعدًا لحالة الجدل تلك. فإلى جانب الإصدار الرقمي لأفلامه، قام بتضمين ملاحظة تدافع عن قرار إعطاءه الأولوية لرؤيته الأصلية لهذه الأفلام والإخلاص التام لذكرياتنا عنها. ففي داخل كتيب الصندوق الأنيق كتب وونج بشاعريته المعتادة مقتبسًا من كلام الفيلسوف اليوناني هرقليطس قوله: “لا أحد يخطو في نفس النهر مرتين، ذلك أنه لا يبقى نفس النهر، وأنت أيضًا لا تبقى على ما أنت عليه”. ولاحقًا، قال للتأكيد: “أدعو الجمهور للانضمام إليَّ في البدء من جديد، لأن هذه ليست نفس الأفلام، ولم نعد كذلك نفس الجمهور”.

إن التغييرات التي تم إجراؤها على النسخ الجديدة هي تقريبًا ذات طبيعة جمالية، لكنها قد تؤثر على الاتصال العاطفي لدي الجمهور مع النسخ الأصلية. إن وونغ يدرك بالتأكيد أن إعادة تعديل “تشونجكينج اكسبريس” (Chungking Express) إلى نسبة أبعاد مختلفة أو تحريك “الملائكة الساقطة” (Fallen Angels) تحت طبقة جديدة من تشبع الألوان ليست مجرد تعديلات سطحية “لا أفرق أبدًا بين شكل الفيلم ومضمونه. بالنسبة لي، يجتمعون دائمًا مثل اللحم المقدد والبيض”.

يجب أن يكون وونغ أيضًا حذرًا من محاولة محو بصمته القديمة على أفلامه؛ فكلما حاولت شخصياته أن تنسى الماضي بجهد أكبر، كلما حُكم عليهم بتذكره. يظهر هذا السبب والنتيجة الساخرة بشكل واضح في فيلم “رماد الزمن(Ashes of Time) “، ولكن يمكن رؤيته في جميع أفلامه حتى تلك القديمة. ففي فيلم “أيام أن تكون متوحشًا” Days of Being Wild)) يصبح يودي (ليزلي تشيونغ) على استعداد لقضاء بقية حياته داخل كرة الثلج بعد أن قضي داخلها دقيقة واحدة مع سو (ماجي تشيونغ). تتسرب الحقيقة إلى أن يودي يحاول بشكل يائس التخلص من ذاكرة قديمة نابعة من مكان بعيد؛ مثل طائر يقضي حياته كلها في الهواء ليكتشف أنه لم يطير في أي مكان، ليموت يودي على بعد أميال قليلة من المكان الذي ولد فيه. كما وصف أساياس شخصيات وونغ: “كائنات مسكونة بالحنين إلى ما لم يعرفوه”.

يمكن قول نفس الشيء عن وونغ ذاته. لقد قام بهذه الترميمات لإرضاء حنينه الطويل إلى إصدارات أفلامه التي لم يكن قادرًا على إدراكها أبدًا. يؤكد وونغ أنه يشبه شخصياته بقدر ما يميل الناس إلى الافتراض “مع كل أفلامي، هناك دائمًا إغراء لإعادة تحريرها، لكنني تمكنت من التغلب على نفسي من خلال عدم الاستسلام لذلك”.

علق وونغ على ردود الفعل المختلطة التي أثيرت مؤخرًا عقب طرح النسخ المرممة، وقال: “أشعر بفخر كبير عندما أعرف أن بعض أفلامي تعيش في ذكريات بعض الناس، وأنا أحترم إحباطاتهم”. ومع ذلك، أوضح: “بصفتي مخرج، تعيش هذه الأفلام أيضًا في رأسي. ما زلت أتذكر بوضوح كيف بدوا، وكان لدي الرغبة في إصلاحهم. سيكون من العدل للجمهور الذي لم يشاهد هذه الأفلام أن يقابلها في أفضل أشكالها”.

قد تؤدي جهود وونغ الخيالية لإرضاء حنينه إلى إثارة غضب المشاهدين غير المستعدين لفصل عاطفتهم عن تلك النسخ القديمة. ولكن مثلما يمكن لشخصية توني ليونغ في فيلم “2046” أن تصنع السلام مع الألم الذي لا يزال يحمله من فيلم “في مزاج الحب” In the Mood for Love)) من خلال تخيل مستقبل ليس سوى صدى خافت لماضيه الذي لم يتم حله. فإن أفلام وونغ هي مصدر ندم أيضًا له، وهذه الترميمات هي طريقته الوحيدة لتهدئته. 

إن جوهر سينما وونغ لا يكمن في أن شخصياته تتعافى من ذكرياتهم، بل بالأحرى أنهم يجدون طريقة للعيش معها. أو، كما يقول وونغ: “الفن رقصة لا تنتهي من الأوهام. فمن المستحيل أن نرقص تمامًا كما فعلنا من قبل، ما تغير حقًا ليس الأفلام ولكن الرجل على الأرض”.

المصدر:

موقع أنديويار Indieiwre- 25 مارس 1925

Visited 3 times, 1 visit(s) today