تداعيات حول الفيلم التسجيلي “عن يهود مصر”
شاهدت أخيرا الفيلم التسجيلي المصري الطويل “عن يهود مصر” للمخرج المتميزالمجتهد أمير رمسيس. هذا الفيلم أثار جدلا كبيرا حوله بعد أن كانت السلطات، أو بالأحرى، بعض السلطات في مصر، قد أوقفت عرضه. وهنا ثارت الأصوات الحرة في أجهزة الإعلام وأرغمت تلك السلطات على التراجع عن قرارها، خصوصا وأن جهاز الرقابة الرسمي على الفنون (التي يطلقون عليها “المصنفات الفنية”) في مصر كان قد تبرأ من قرار المنع.
الفيلم يقدم الكثير من الشهادات المصورة لعدد من اليهود الذين غادروا مصر في الخمسينيات، بعضهم أرغم على المغادرة أو تم ترحيله قسرا ورفضت السلطات عودته لسنوات طويلة وربما حتى اليوم، حتى لو على سبيل الزيارة، والبعض الآخر اضطرته المتغيرات السياسية خاصة بعد عداون 1956 الثلاثي الذي قامت فيه إسرائيل بدور رئيسي، إلى الرحيل عن الوطن الذي نشأوا فيه وارتبطوا به ورفضوا بشكل قاطع التخلي عنه أو الهجرة إلى الدولة اليهودية التي أقيمت قسرا، على أرض فلسطين العربية.
يصور الفيلم أيضا شهادات عدد من الباحثين والمؤرخين منهم من ارتبط بشكل مباشر، ببعض اليهود المصريين الذين نشطوا في صفوف الحركة الشيوعية في مصر.
ولست هنا بصدد تقديم تحليل فني للفيلم، فقد قام غيري بذلك وقدم قراءة نقدية للفيلم، لكن يكفي القول إنه فيلم يشي بالجهد الكبير المبذول فيه سواء من ناحية تجميع المادة (النظرية والمصورة) أو إستخدامه المؤثر للكثير من اللقطات القديمة النادرة، وإن كنت أرى أنه بمادته الغزيرة يمكن أن يمتد على استقامته، فيفتح الطريق أمام عمل سلسلة من الأفلام (أرجو أن يخرجها أمير رمسيس وفريقه) تسبر أغوار المواضيع المهمة التي فتحها في فيلمه، فموضوع علاقة اليهود بالتنظيمات الشيوعية في مصر يصلح لفيلم مستقل خاصة وأن الكثير من الوثائق والشهادات موجودة، كذلك يصلح لعمل فيلم مستقل موضوع هنري كورييل، مؤسس تنظيم “الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني” اليهودي المصري، الذي أرغم على مغادرة مصر بالترحيل قسرا عام 1950 ورفض جمال عبد الناصر عودته رغم وقوفه إلى جانب مصر والقضايا العربية، وقد اغتيل كورييل في باريس عام 1978 وظل البعض حتى يومنا هذا يعتبره صهيونيا مواليا لإسرائيل (من هؤلاء محمد حسنين هيكل الذي شكك خلال أحاديثه التليفزيونية لقناة الجزيرة، في ولاء كورييل الوطني مشيرا إلى علاقته بالموساد دون دليل على ذلك!) في حين أن هناك من يعتبرونه بطلا وطنيا قدم للرئيس جمال عبد الناصر خطة العدون الثلاثي على مصر في 1956، كما أيد الثورة الجزائرية وساعدها، ودعم نضال نيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا، وقيل إنه دفع حياته ثمنا لنضاله ضد العنصرية.
أما ما أريد تناوله هنا فهي الأسباب التي قد تكون وراء “فزع” البعض من الذين شاهدوا الفيلم أو السبب الذي حدا بتلك السلطة المصرية التي وصفت بأنها “جهة سيادية”، إلى وقف عرض الفيلم قبل أن تعود في قرارها هذا ربما أيضا بسبب ما تعرض له قرار المنع من انتقادات شديدة في الغرب.
السبب الأول ربما يعود إلى أن الفيلم يفتح بابا تصور كثيرون أنه قد أغلق وإنتهى الأمر، أي خروج اليهود المصريين من مصر، وعلاقتهم بمصر حتى بعد خروجهم وكيف أن أثرياء اليهود المصريين الذي كانوا يلعبون دورا بارزا في الاقتصاد المصري، لم يذهب أي منهم إلى إسرائيل، بل رفضوا تماما الفكرة وتفرقوا في بلدان مختلفة، في افريقيا وأوروبا- كما يؤكد الدكتور محمد أبو الغار في الفيلم.
ولاشك أن الفيلم يقدم نماذج من اليهود المصريين الذين أرغموا على الرحيل في فترة المد الوطني والمواجهة مع إسرائيل والنظر إلى اليهود المصريين باعتبارهم “جواسيس محتملين”، ويقدمهم الفيلم في صورة دافئة، محببة، تتمتع بالتلقائية والحب الشديد الذي يبدونه لمصر حتى من لا يتكلم منهم اللغة العربية، وهي صورة قد تدفع المشاهدين إلى التعاطف معهم، والشعور بالغضب إزاء قرارات السلطة السابقة “العسكرية” التي جاءت مع ضباط يوليو، خصوصا وأن عرض الفيلم تزامن مع التصريحات التي أطلقها عصام العريان، أحد قيادات الإخوان المسلمين، والتي رحب فيها بعودة اليهود المصريين منتقدا موقف النظام الناصري الذي إتهمه بـطترحيل اليهود” في حين نفت الصحافة “الناصرية” تماما حدوث ذلك. وقد تسببت تلك التصريحات في رد فعل، أقل ما يمكن أن يوصف به، أنه “مصدوم”!
السبب الثاني قد يعود إلى ذلك الخوف “الغامض” من “اليهود”: كيف يمكن أن يكون هناك يهود مصريون، يتكلمون مثلنا ويشعرون بما نشعر، في حين أنهم يجب أن يكونوا مرتبطين بدولتهم التي تقف منا موقف العداء منذ نشاتها بالقوة المسلحة؟ وكيف نقبل فكرة وجود يهود مصريين بينما الدين الإسلامي يحضنا على محاربتهم وعدم الثقة بهم أبدا، وهو ما يتضح من اللقطات الأولى في الفيلم التي يستطلع خلالها المخرج آراء عدد من المصريين البسطاء!
مخرج الفيلم أمير رمسيس
إن هذا الخوف الغامض من “اليهود” يدفع الكثيرين خاصة مع صعود تيار الإسلام السياسي، إلى رفض فكرة منح قطاع من اليهود المصريين مساحة للتعبير عن آرائهم، والحديث عن الماضي وما تعرضوا له خلاله من “إضطهاد” في وقت تضطهد دولة إسرائيل الفلسطينيين وتعتدي عليهم يوميا، وتقيم الحواجز والسدود بينها وبينهم، وتعتقلهم داخل أراضيهم!
كان هناك خوف أيضا في ظل الأوضاع السياسية المتوترة في الشارع المصري، من أن ينعكس هذا التوتر على عرض الفيلم عروضا عامة مما قد يؤدي إلى ردود فعل قد يشوبها العنف.
والسبب الثالث أن الفيلم يتبنى انتقادات واضحة يوجهها عدد من الشخصيات التي تظهر فيه مثل الدكتور رفعت السعيد، الناشط اليساري البارز مثلا، والدكتور محد أبو الغار، والصحفي أحمد حمروش وغيرهم حتى من جانب الشخصيات اليهودية التي تظهر بالفيلم، لجماعة الإخوان المسلمين، وهو ما يدفع المخرج إلى فتح ملفات ما حدث عام 1947 ثم 1948 من تفجيرات للمحلات اليهودية والاعتداء على “حارة اليهود” وعمليات الترويع التي تعرضت لها الأسر اليهودية التي كانت تملك الكثير من المصالح التجارية في مصر التي تعرضت للهجوم والحرق والتفجيرات، مما دفعها للهجرة. وهو أمر لاشك أنه يسبب “عدم الارتياح” للجماعة التي تحكم الآن في مصر.
السبب الرابع أن هناك نغمة واضحة في الفيلم تشير إلى غياب مجتمع التسامح الذي كان قائما في الماضي قبل أن تتحل مصر إلى “جمهورية”، خصوصا في مدينة الاسكندرية، وهي فكرة لا يرحب بها كثير من المسؤولين الرسميين الموجودين في بعض الأجهزة التي يطلق عليها “السيادية” فهي فكرة تتناقض مع الرغبة في الترويج-كذبا- لمصر كبلد منفتح على كل العقائد والأجناس في حين أن الحقيقة العارية تقول لنا إنها لم تعد كذلك بكل أسف!
أخيرا، يثير الحديث عن اضطرار العائلات اليهودية الكبرى التي كانت تدير وتملك العديد من المصالح التجارية في مصر إلى التخلي عن ممتلكاتها ومغادرة البلاد بعد تنامي الصراع العربي الإسرائيلي، وتصاعد الرفض لها من داخل المجتمع – كما يتردد في الفيلم، يثير مجددا قضية التعويضات اليهودية التي يطالب بها اليهود المصريون الذين يقيمون في فرنسا، وليس فقط إسرائيل التي استقرت فيها أيضا آلاف الأسر اليهودية الفقيرة التي هاجرت من مصر في الخمسينيات والستينيات.
ربما أيضا يكون غياب “طرف آخر” يناقض روايات وشهادات اليهود ويطرح وجهة النظر الرسمية المصرية في هذا الموضوع، جعل الفيلم يبدو ميالا إلى جهة واحدة متعاطفة من البداية مع اليهود رغم ما جاء في الفيلم بالطبع من مبررات تتعلق بتنامي عمليات التجسس والتخريب في مصر وقيام المخابرات الإسرائيلية بتجنيد بعض العناصر اليهودية كما تبدى فيما عرف بـ”عملية سوزانا” أو “فضيحة لافون” التي كانت تهدف إلى الوقيعة بين نظام عبد الناصر والولايات المتحدة بتفجير عدد من المنشآت الأمريكية في مصر.
لكن الفيلم عرض، وعرض عروضا عامة أيضا في سابقة هي الثانية من نوعها في مصر منذ أكثر من أربعة عقود، ونجح عرضه وأقبل عليه الشباب لمشاهدة جانب من تاريخ مصر، دون أن يتسبب هذا في اي اضطرابات سياسية أو أعمال عنف أو ردود فعل من الخارج والداخل كما كان متصورا!
الأسباب التي أشعلت الضجة حول الفيلم تعود أساسا، إلى أمور وتصورات لاعلاقة لها برؤية الفيلم ولا بمستواه الفني ولا حتى بصدقيته وقدرته علىالتوثيق الموضوعي، بل إلى ما يمكن أن تولده الصور من ردود فعل قد تساهم في تأجيج بعض المواقف هنا أو من هناك. وهذه بلاشك إحدى بقايا المجتمع الشمولي الذي يريد أن يضع كل أشكال الفنون “تحت السيطرة”.
هذه الشمولية التي لاتزال قائمة حتى بعد نمو حركة الوعي ووصولها إلى الذروة في 25 يناير 2011، بل إن الهاجس المسيطر حاليا على السلطة يتلخص في ضرورة إحكام السيطرة على كل مؤسسات الدولة خصوصا الإعلام.
وطالما ظل الوضع على ما هو عليه حاليا، فلا مجال للحديث عن اجتياز مظاهر التخلف الدولة القمعية!