تأثير النقد المكتوب باللغة العربية في تلقي السينما

نادرا ما ظهرت شخصية الناقد السينمائي في السينما العربية، في إحدى هذه الحالات النادرة، يسخر مخرج أفلام المقاولات في فيلم ” صانع النجوم” لمحمد راضي من الناقد والصحفي “لما بتطلع تشتم أفلامي في الجرايد الشباك بيشتعل نار”.

ويكاد هذا التعريض الساخر يلخص واقع الهوة بين النقد والمشاهد، ويتقاطع مع لازمة أخرى كثيرا ما رددها صناع أفلام التسلية في السينما المصرية ” الجمهور عايز كده” التي تعني في عمقها أن الناظم في صنع الأفلام ليست القيم الفنية والجمالية التي يروج لها النقد، وإنما هي أذواق الجمهور العريض ورغباته.

يفتح الاستشهادان الطريفان مجال بحث تأثير النقد على استقبال الجمهور للسينما في نطاق نظرية التلقي التي تطورت في مجال الأدب قبل أن تعرف تطبيقاتها في باقي الفنون ومنها السينما.  

لا يُقصد في مفهوم هذه الدراسة بالنقد المكتوب باللغة العربية النقد الذي يقتصر على متابعة وتقييم الإنتاج السينمائي العربي وحده، وإنما يمتد إلى مجموع الكتابات التي تجعل السينما في العالم أجمع مادة لها دون التقيد بعمق جغرافي أو هوياتي.

ويستتبع التركيز على لغة النقد في هذا المقام، استبعاد النقد المكتوب بلغات أخرى غير اللغة العربية الذي يؤثر بدوره في التلقي لدى متعددي اللغات من جمهور السينما العرب.

لكن، هل يشكل النقد السينمائي المكتوب باللغة العربية وحدة متجانسة أما أنه متعدد المنابع ومتباين الاتجاهات؟  

نقد بصيغة المتعدد

باستقراء الحركة النقدية العربية، رصدنا خمس كتل رئيسة نرى أنها الأكثر تأثيرا في تلقي السينما مع اختلاف في درجات تأثير كل كتلة على حدة.

1-   النقد الأكاديمي، وهو نتاج الدراسات الأكاديمية المتخصصة في معاهد السينما وكليات الآداب وما في حكمهما، وإذا كانت هذه العينة هي الأكثر تقيدا بالضوابط العلمية بحكم اشتغالها بالمناهج الأكاديمية والأدوات التقنية للسينما، إلا أن تأثيرها لا يزال ضعيفا بحكم بقاء أعمالها حبيسة أدراج مكتبات الكليات والمعاهد المتخصصة، إذ لا تصل عادة إلى القارئ العريض إلا إذا عرفت طريقها للنشر بجهود مؤلفيها، والمنشور منها يجد صعوبة في ربط وشائج التواصل مع القارئ بحكم تعقيدها وإغراقها في التقنية.

2-   النقد الصحفي وهو أقدم أنواع النقد السينمائي ظهورا في المنطقة العربية، نشأ في مصر في ثلاثينيات القرن الماضي بغرض إخباري محض تمثل في مواكبة الإنتاج السينمائي الوليد. انصرف هذا النقد في بداياته لمتابعة أخبار نجوم السينما قبل أن يؤسس لطقوس نقدية بدائية ظل منهجها منصبا على محاكمة مضامين الأفلام في ضوء فضائل الأخلاق المنشودة في المجتمع، وإذا جاوزها لم يخرج عن تقييم أداء الممثلين في سياق هدفه الأساسي المتمثل في مواكبة النجوم.

تطور هذا النوع من النقد لاحقا، عندما التحق النقاد المحترفون بالصحافة، ولم يعد النقد الصحفي من مهام محرري الصفحات الفنية بالجرائد والمجلات، وإنما أصبح ينهض به نقاد يمتلكون أدوات التحليل النقدي، ولقد استفاد النقد السينمائي الممارس عبر الصحافة من انتشار الوسائط التي يكتب فيها ليتربع على عرش ضروب النقد السينمائي كأكثرها تأثيرا وتلقيا من جمهور القراء.

3-   النقاد العصاميون، ونقصد بالوصف جميع النقاد الذين كونوا أنفسهم وطوروا أدواتهم خارج الخلفية الأكاديمية والصحافة والوسط السينمائي بمفهومه المهني الضيق، ولن نبالغ إذا اعتبرنا أن ألمع النقاد العرب ينتمون إلى هذا الصنف، وهم بحق من نهض النقد السينمائي العربي على أكتافهم.

على أن العصامية في النقد السينمائي ليست عيبا أو رديفا للتطفل أو الترامي كما يحلوا لنقاد النقاد أن يرموا كل من يغتاظون من نجاحاتهم أو غزارة إنتاجهم، فلا توجد كلية أو معهد لإعداد نقاد السينما، وإنما الناقد السينمائي مجموعة مهارات مكتسبة متداخلة تؤطرها ثلاثة عناصر لا غنى عنها هي؛ خلفية سينيفيلية وعشق متيم بالسينما؛ وثقافة عامة واسعة؛ ثم ثقافة فنية متكاملة تحيط بكل الفنون التي تحويها السينما باعتبارها أكثر الفنون جمعا للفنون.

4-   نقد تقنيي السينما؛ من مخرجين وكتاب سيناريو وأصحاب المهن التقنية، نشأ هذا الصنف متأثرا بتقاليد المدرسة الفرنسية في الإخراج التي كانت تزاوج بين التنظير والممارسة ملهمة في ذلك بتجربة نقاد مجلة “دفاتر السينما ” كفرنسوا تروفو وجون لوك غودار وكلود شابرول، وفي كثير من التجارب العربية ثمة علاقة تلاقح بين النقد والمهن السينمائية، فنجد نقاد عبروا للسينما من بوابة النقد، كما أن هنالك سينمائيين مارسوا النقد بجانب نشاطهم السينمائي.

ما يميز هذا الصنف من النقد اهتمامه بالجوانب التقنية في الأفلام على حساب المضامين وباقي العناصر الفنية الأخرى، فتجدهم يسهبون في الحديث عن زوايا التصوير وحركة الكاميرا والإضاءة وغيرها مما يتطلب الإلمام التقني، وتلك إضافة هذه العينة وقصور عطائها في ذات الآن.

5-   نقد مواقع التواصل الاجتماعي، في زمن مضى لم يكن الكتبة عن السينما يجدون منابر لطرح أفكارهم، يتذكر كاتب هذه الكلمات أن المنابر المتاحة في بلاده كانت صحيفتين معارضتين تخصصان حيزا أسبوعيا كان في أغلبه محجوزا لنفس الأسماء، عندما انتشرت الانترنت ساهمت في دمقرطة الكتابة عن السينما، فظهرت المدونات الخاصة والصفحات المتخصصة في السينما والقنوات الموجهة للسينما على مواقع البث المتدفق للفيديو ثم الصفحات الشخصية لنقاد ومهنيي السينما التي فتح الكثير منها المجال للنقاش التفاعلي عن الأفلام والظواهر السينمائية.

يختلط الغث والسمين في الوافد الجديد متأثرا في ذلك بفوضى النشر التي تعرفها الانترنت، لكن يتوقع لهذا الصنف من النقد أن يسود مستقبلا كأكثر ضروب النقد تأثيرا في تلقي السينما، عندما تنحسر الفوضى الحالية ويفرز الجيد والجاد الذي ستحظى وحده بالمتابعة.

النقد المكتوب باللغة العربية ورهانات التلقي

يُشكل المتلقي رهانا مركزيا في السينما؛ فلأجله تنتج الأفلام، وهو دوما في صلب اهتمام صناع السينما وإرضاؤه غايتهم بدليل مقولتهم الشهيرة “الجمهور دائما على حق” في بدايات السينما كان التجاوب بين المبدع والمتلقي يتم مباشرة دون تدخل أية وسائط، وعندما تشكل النقد السينمائي كضرورة لمواكبة الفن الجديد، ثار الجدل حول وظيفة النقد في مجال السينما وموقعه في علاقة التلقي؛ بمعنى هل سيتبع لصناع الفرجة السينمائية أم سينحاز إلى الجمهور أم سيبلور استقلاليته عن طرفي علاقة التلقي؟

عادة ما يوصف الناقد السينمائي بأنه وسيط بين الفيلم والمتفرج، لكن الكلمة لا ينبغي أن تؤخذ في مفهومها القدحي الذي يمكن أن ينظر في نطاقه إلى الناقد كأحد المشتغلين على تسليع السينما، من الأكيد أن في منطقتنا العربية قلة من النقاد تقوم بهذا الدور لدى صناع السينما مقابل أقداح وإكراميات، إلا أن النقد السينمائي ليس من كنهه – بوعي أو بدونه- التحول إلى أداة دعاية وإشهار للأفلام، رغم ذلك، ينتظر منه كل العاملين في حلقة الإنتاج السينمائي من منتجين ومخرجين ونجوم وموزعين ومستغلي القاعات أن يقوم بهذا الدور أو يساعد فيه على الأقل.

يحدث أن يُساهم الناقد في حلقة الدعاية للفيلم حتى دون وعي منه، لكن تقييم حجم هذه المساهمة ومداها، تظل صعبة في المنطقة العربية للغموض الذي يحيط بمواصفات المتلقي المعياري.

غالبا ما تكون مساهمة الناقد ضعيفة في التعريف بأفلام التسلية وأفلام الجمهور العريض لأن لها مداخلها الخاصة لجذب الجمهور والتي تعتمد توابل تلقي السينما التجارية، بجانب توفرها على ميزانيات معتبرة عن الدعاية والإشهار، بالمقابل يظل دور النقد مؤثرا في التعريف بالأفلام التجريبية وأفلام المهرجانات، بل إن من رسائل النقد المساهمة في الترويج لهذه الأفلام وعبرها للثقافة السينمائية الرفيعة بما يرتقي بأذواق الجمهور.

في استطلاعات للرأي أجريت في أكثر من مكان بالغرب وفي أزمنة متفرقة حول نسب المشاهدين الذين يذهبون لمشاهدة الأفلام في القاعات السينمائية تحث تأثير النقد، أجاب 7 % فقط بأنهم شاهدوا أفلاما بعد قراءة مقالات أو دراسات نقدية، وهذه النسبة تبقى قابلة للتناقص في المنطقة العربية لضعف سلوك القراءة عند المشاهد المفترض، الأمر الذي يؤثر بشكل كبير في ضعف مقروئية المنابر التي تنشر النقد السينمائي.

تتسم إذن دائرة مستهلكي النقد السينمائي في العالم العربي بالضيق، حيث تقتصر على المتخصصين من أهل الميدان من نقاد ومهنيي السينما بجانب ثلة من هواة السينما ممن يسمون أنفسهم بالسنيفيلين، أما الجمهور العادي العريض فهو بعيد عن التعاطي مع النقد السينمائي قراءة ومتابعة وتأسي في المشاهدة إلا ما ندر، لذا يظل كسب هذه العينة وتشكيل ذوقها واتجاهاتها في المشاهدة الرهان الحقيقي للنقد السينمائي العربي.

وكما لا يدخل ضمن وظائف النقد الدعاية للأفلام – كما سبق وأسلفنا- ، يخرج عن مهامه أيضا هدمها، فحين يتعرض الناقد للفيلم بالسالب أو بالموجب، فإن ذلك ينبغي أن ينظر إليه من باب الضرورة النقدية التي تحتم المدح والذم، المهم في المسألة كلها أن يساهم الناقد بشكل أو بآخر في تقريب الفيلم من الجمهور ويُوَلُّدِ لديه الانطباعات المختلفة، سواء أكانت إعجابا أم رفضا أم قبولا، على أن لا يقتصر كل مجهوده على نقد الأفلام فقط، وإنما يجب عليه أن يتصدى لدراسة الظواهر والاتجاهات والقضايا السينمائية، ليساهم في نشر فن السينما وتثقيف جمهوره فيحقق لديه الرغبة  المنشودة في مشاهدة الأفلام.

لا يُخاطب الناقد العربي متلقيا متجانسا، وإنما يخاطب متلقٍ عام يشمل الجمهور العريض، وآخر متخصص يشمل أهل الميدان، ويحتاج الأول إلى مجهود في المواكبة والتوجيه، إذ يثار دوما مدى امتلاك هذا المتفرج العادي معايير الحكم والتقويم، هنا يلعب النقد دورا مؤثرا في مساعدته على تفكيك الفيلم سيما عندما يندرج ضمن أفلام الفن والنخبة التي يجد المتفرج العادي صعوبة في تلقيها، ويتجاوز دور الناقد تبسيط المضامين وتقريبها للمشاهد، ليروج للقيم الفنية والجمالية التي يحملها الفيلم مع الحرص على تجاوز مستوى السرد والارتقاء بالثقافة البصرية والتعريف بالأدوات التعبيرية والتقنية للسينما.

إن الارتقاء بالتلقي لدى الجمهور العريض ليس هينا على مستوى العالم أجمع، وليس المنطقة العربية وحدها، فعادات المشاهدة متجذرة لديه، ويجد النقد صعوبة كبيرة في التأثير على المتلقين من هذه العينة، فلم تفتح إشادات النقد العربي بكثير من الأفلام أبواب شبابيك التذاكر أمامها، كما لم يمنع تجاهله ونقده بالسالب لأفلام أخرى من إصابتها للنجاح التجاري الساحق.

مقابل انصراف الجمهور العريض، يظل أهل الميدان من نقاد ومهنيين من أبرز المتعاملين مع النقد العربي الذي يظل دائرا في حلقة مغلقة يتداوله فيها المتخصصون الذين يقرأ بعضهم بعضا، مما يبرز سؤالا قديما متجددا عن جدوى وجود النقد السينمائي والحاجة إليه.

* كاتب من المغرب

Visited 71 times, 1 visit(s) today