“بيكاس”: عفوية التجربة الأولى وهشاشتها

في أولى العروض الافتتاحية لبرامج الدورة التاسعة من مهرجان دبي السينمائي (9 -16 ديسمبر) عرض الفيلم السويدي “بيكاس” في افتتاح مسابقة المهر العربي للأفلام الروائية الطويلة والتي تضم هذا العام 13 فيلما من لبنان والمغرب ومصر والأردن والجزائر.

ورغم ان الفيلم يحمل الجنسية السويدية في الإنتاج إلا أنه يعامل معاملة الفيلم العربي نظرا لأصول مخرجه الشاب كرزان قادير الكردية العراقية وهو المولود في السليمانية عام 82 ويعتبر بيكاس هو فيلمه الروائي الطويل الاول بعد أن درس السينما في معهد دراماتيكا انستيتيوت بالسويد.

من هو البيكاس؟

العمل الاول هو بطاقة التعارف بين المخرج والمتلقي واحيانا ما يصبح طاقة متفجرة بالابداع والأمل في ولادة سينمائي هام واحيانا ما تصبح التجربة مجرد تمرين على النضج ومحاولة تحديد الرؤية.

مشكلة بيكاس تبدأ من عنوانه حيث بعد ساعة ونصف من المشاهدة لا تستطيع ان تعلم من هو البيكاس ولولا ان المخرج قام بشرح الكلمة في المؤتمر الصحفي للفيلم لما ادرك المتلقي معناها.

بيكاس تعني باللغة الكردية اليتيم او الطفل الذي بدون والد، وهو عنوان معبر عن موضوع الفيلم الذي يدور حول طفلين كرديين يتيمين يحلمان بالسفر إلى امريكا للقاء سوبر مان وذلك عام 1990 عقب عملية الانفال الشهيرة وقبل حرب الخليج الأولى.

ربما ورد ذكر الكلمة عرضا خلال الأحداث ولكن دون أن تتبلور حواريا للمتلقي الدولي وهو عيب خطير جدا ان يتساءل المتلقى عن معنى العنوان بعد ان يفرغ من المشاهدة دون ين يصله ذلك سواء لغويا او دلاليا.

ثم ما هي الحاجة للعودة بالزمن إلى عام 1990 كما يكتب على بداية المشاهد الاولى للفيلم, نستطيع أن نتعامل بحسن نية ونفسر الأمر دراميا على انه قبيل انتشار القنوات الفضائية والاطباق اللاقطة مما يجعل الأطفال يحاولون بشتى الطرق مشاهدة افلام سوبرمان عبر التسلل من فوق سطح السينما تعرضهم للضرب على يد المدير.

لكن المشكلة التي تجعلنا نسئ الظن بالغرض الدرامي لتحديد الزمن هو اصرار المخرج على الانحياز ضد العراقيين انفسهم وليس ضد صدام فقط وهو اكثر شخصية سياسية يتم لعنها في الافلام الكردية التي تدور خلال هذه الفترة وذلك بسبب عملية الانفال الشهيرة التي راح ضحيتها عشرات الالأف من الأكراد وتم ضربهم بالاسلحة الكيميائية.

خلال محاولة الطفلين التسلل من كردستان إلى العراق للذهاب إلى أمريكا للقاء سوبر مان يلتقون بالعديد من العراقيين اولهم ضابط الجيش الذي يمنعهم بقسوة وسخرية عندما يذهبون إلى النقطة الحدودية راكبين فوق حمارهم الصغير الذي يدعونه مايكل جاكسون.

ويعود السيناريو كي ينتقم من الضابط بشكل هزلي فج عندما يجعل احد الطفلين يتبول بينما يختبئ اسفل شاحنة تبغ كي يعبر الحدود، هنا يأتي الضابط ويقوم بتذوق البول ظنا منه انه مجرد تسريب من ثلاجة السيارة في لقطة مقززة يتلذذ فيها الضابط العراقي ببول الطفل.

الغريب ان شاحنات نقل التبغ لا تحتوي على ثلاجات بالاضافة إلى ان رائحة البول وطعمه مميزين للدرجة التي لن يخطئها ضابط مهمته كشف المتسللين ولكنها الرغبة في السخرية من كل ما هو عراقي.

وعندما يجتاز الطفلين الحدود بالفعل ويدوس احدهم على ما يتصور انه لغم ارضي ويذهب الأخر إلى اقرب بلدة لاستدعاء المساعدة وهي بلدة عراقية يتم معاملته بقسوة شديدة وغير مبررة بل إن المخرج يعمد بصريا إلى اسلوب ميلودرامي حيث يقوم بتقديم المشهد في لقطات واسعة من مستوى قامة الطفل الصغير وبإيقاع السلوموشن حتى يبدو العراقيين وكأنهم لا ينهرون الطفل فقط بل يضربونه ويعذبونه رغم ان كل ما يطلبه فقط هو المساعدة، ولم يتجرد المخرج من مشاعر الانحياز ضد العراقيين حتى ولو على سبيل الموضوعية الواقعية ليجعل أحدهم يستجيب للطفل بشكل أو بأخر ولا يفهم لغته الكردية على سبيل المثال ولكنه الأصرار على ابراز صورة قاسية للعراقيين.

نفس هذه الصورة غير الفنية هي ما تجعلنا نشك في ان اختيار عام 90 سببه البحث عن فترة زمنية يمكن من خلالها لعن صدام بدلا من عام 2000 على سبيل المثال, فالسينما الكردية لا تزال تعاني من تأثير هولوكوست الأنفال الشهير وهي احدى مشاكلها التي لا تتخلص منها سوى اعمال قليلة تحاول الحديث عن الحاضر الكردي والعراقي وليس الماضي الذي انتهت حقبته.

العودة والمستقبل

من المعروف أنه لا يوجد ما يمنع ان يعود السينمائي للماضي كي يلقي ضوءا على الحاضر او يؤرخ هذا الماضي للأجيال القادمة ولكن في بيكاس ليس ثمة من ضوء على الحاضر ولا تأريخ للماضي إنما فقط مجرد حالة الكوميديا السوداء التي تنبع من رحلة طفلين نحو هدف بعيد لكن بيقين وثقة وأمل في الوصول.

لو ان المخرج قام بالتركيز على تلك الحالة من الأمل والإصرار متجردا من مشاعر الضغينة التي تبدو شخصية اكثر منها فنية لأصبح عمله محكما لكنه اصر على ادراج عناصر الميلودرما والكوميديا الحركية التي تعتمد على الصفعات والضربات وهي ما يمكن أن نعتبره احد اسباب هشاشة تجربته الأولى دراميا وشكليا على حد سواء.

 ولنتصور أن المخرج وهو نفسه الكاتب لجأ لتلك القصة القديمة جدا حول الجد الذي يأمر الطفل الصغير بجمع مجموعة من الأخشاب ويعطيه واحدة ليكسرها ثم المجموعة فلا يتمكن من ذلك! هل يصدق أحد انه لا يزال هناك من يقدم على تقديم تلك القصة في مشهد سينمائي وكأنها اكتشاف جديد. حتى لو كان المقصود تعليم الطفل!

 التبسيط الدرامي داخل العمل لا يصل إلى حد المراهقة الفكرية او التعامل مع المتلقي على انه مجرد طفل في السابعة من العمر، ناهينا عن ان الجد يريد تلقين الطفل أن الأتحاد قوة وان العائلة هي أهم شئ في الحياة ولكن اين هي العائلة؟ فهؤلاء اطفال ايتام وهذا الرجل ليس جدهم ولكنه مجرد عجوز يعطف عليهم كما ان مثل هذه القصة من الممكن ان تسبب للطفل عقدة نفسية في الواقع لانه مفتقد للعائلة وليس لديه سوى اخيه فقط وهو مرتبط به بالفعل ولا يحتاج إلى من يلقنه ضرورة تأصيل هذا الأرتباط بقصة ساذجة.

فانتازيا الطفولة

لكن لا يمكن انكار ان الفيلم يحتوي على روح مرحة سببها الممثلين الصغيرين اللذان قدما ادوار الاخوة خاصة الأصغر سنا بصوته العالي وفطريته وعفويته, لكنه للأسف يتلقى كم كبير من الصفعات خلال الفيلم وهي صفعات يراد بها الأضحاك لكنها جاءت مبالغة لدرجة التعاطف والأشفاق عليه مما افقدها سببها الدرامي وابرزها كجزء من قلة خبرة المخرج فيما يخص التعامل مع هذا النوع من الأفهيات الحركية.

يحسب للسيناريو كذلك القدرة على الأقتراب من عالم الخيال الطفولي كأن يصنع الطفل دفترا يكتب فيه اسماء كل من يضايقوه كي ينتقم منهم سوبر مان عندما يقابلونه, وكأن يقوم الاخ الاكبر باقناع اخيه الأصغر بضرورة الرحلة من اجل احياء الأب والام لان سوبر مان قادر الذي من الواضح انهم قتلوا في الأنفال لان سوبر مان قادر على ذلك, كذلك رسم الأخ الأصغر لجوازات سفره هو واخيه بشكل ساذج لكنه مؤثر كحل لمشكلة السفر.

اخراجيا تعامل كازان مع الواقع الكردي الفقير عبر عين تدرك ابعاد هذا الواقع سواء على مستوى حركة الكاميرا المحمولة داخل الشوارع الضيقة او اللقطات العامة للقرية من فوق الجبل او اللون الأصفر الذي يطغى على الفيلم وهو لون الرمال الصفراء الصحراوية التي تعبر عن تلك البيئة الجافة القاسية.

الكثير من المشاهد مصورة من وجهة نظر الأطفال وعلى طول قامتهم واحيانا من مستوى بصري منخفض هو مستوى جلسوهم امام صناديق مسح الأحذية وهي مهنتهم التي يمارسونها ليبدو الجميع عمالقة من وجهة نظرهم ويبدون هم في اسفل السلم الأجتماعي مما يزيد من قوة الشعور بتأثير رغبتهم في الوصول إلى حلم مستحيل(أمريكا وسوبر مان) هذا التأثير هو ما يخلق معنى للرحلة بعيدا عن وجهة النظر الشوفينية تجاه العراقيين.

وقد نجح السيناريو في رسم شخصيات الأخوين بالأضافة إلى التعامل مع قصة الحب الطفولية الرقيقة بين الأخ الأكبر واحد فتيات القرية، صحيح انها بدت غير مبررة دراميا على الاطلاق خصوصا مع الفارق الأجتماعي الهائل بين الأثنين فهي نظيفة متعلمة ابنة مدرس بالقرية وهو ماسح احذية متسخ الملابس والهيئة فكيف بها تقدم على تقبيله من اول لقاء بينهم حتى لو كانت قبلة على الخد!

ربما ضمن عالم الطفولة الذي لا يعترف بالمستحيلات يمكن أن تكون العلاقة متقبلة نسبيا لو انها نمت بشكل اكثر منطقية، لكن هذا لا يمنع انها كحبكة فرعية استطاع السيناريو ان يضمها بقوة لتصب في الحبكة الرئيسية خاصة عندما تفقد الفتاة قلادتها وينتشلها الأخ الأكبر من البحيرة بعد أن كاد يغرق ثم يقايض عليها لعبور الحدود بعد رحيل الفتاة ولكنه عندما يلتقيها مرة اخرى يعطيها القلادة مما يفقده فرصة الركوب هو وأخيه مع المهرب الذي طلب القلادة ثمنا لتهريبهم.

ينتهي الفيلم بنجاة الاخ الأكبر من اللغم المزيف واحتضان الاخوين لبعضهم في سعادة وهو الأحتضان الذي تكرر كثيرا خلال احداث الفيلم مما افقده قوته خلال الذروة لو ان هناك ذروة بالمعنى التقليدي فالنهاية مفتوحة وهي ان الحلم باق طالما بقى الأخوين سويا وانه لا يوجد مستحيل لو تمسكنا بروح الطفولة وخيالها المفتوح.

Visited 84 times, 1 visit(s) today