“بنيديتا”.. الاعتداء الفاتن على المقدس
أمير العمري
فكرت كثيرا قبل أن أبدأ الكتابة عن فيلم “بنيديتا” Benedetta للمخرج الهولندي الشهير بول فيرهوفن (صاحب: غريزة أساسية، وفتيات الاستعراض، وإيل)، المعروف بميله إلى المواضيع الصادمة، والاهتمام بتصوير علاقة الإنسان بجسده، فهو يرى أن الجنس- موضوع أساسي في حياة الإنسان، وبالتالي، من الضروري تناوله بكل جرأة وصراحة، أي أن فيرهوفن لا يجد الجنس “غريزة” من النوع الأدنى، يجب إنكارها أو تجاهلها في الأعمال الفنية.
يستحق فيلم فيرهوفن الجديد التعامل معه بجدية كما ينبغي، ومناقشة أفكاره ومغزاها كما تُناقش أعمال الفن الرفيع. وكان مما أثار الانزعاج كثيرا، ما تعرض له الفيلم من هجوم واستنكار وسخرية من جانب نقاد السينما في الغرب عند عرضه في مهرجان كان السينمائي الماضي. وفي ظني أن السبب ليس كما يزعمون، أي أنه عمل “استغلالي”، يتاجر بالجنس المثلي بين راهبتين شابتين في مشاهد إيروتيكية مثيرة داخل دير من أديرة القرن السابع عشر في إيطاليا إبان عصر النهضة، بل لأنه- أساسا- يستخدم موضوع الجنس (المثلي)، لكي يوجه سهامه إلى قلب المعتقد المقدس مباشرة، كما أنه يسخر بطريقته الخاصة التي تتضمن الكثير من الرمزية، من الأساطير التي تحيط بالمسيحية عموما، والكاثوليكية خصوصا.
ولعل ما يلفت النظر بقوة في هذا السياق، أن الذين رفضوا فيلم فيرهوفن ووجهوا إليه شتى الاتهامات ونعتوه بالاستغلالية، وركزوا على ما زعموه إفراطا في تصويره المشاهد الجنسية، هم أنفسهم الذين احتفوا واحتفلوا ورحبوا وامتدحوا قبل سنوات، فيلم “حياة أديل” لعبد اللطيف كشيش، واحتفلوا بفوزه بـ”السعفة الذهبية” في مهرجان كان.. في حين أنه لم يكن فقط عبارة عن سلسلة لا نهائية من المشاهد الجنسية بين فتاتين، تدور في الفراش، بمناسبة ودون مناسبة، بل كان في تقنيته وأسلوب تصويره، أقرب إلى ما يعرف بأفلام “البورنو” أو الأفلام الجنسية التي لا تهدف سوى إلى الإثارة فقط. وقد تأكد لهؤلاء النقاد فيما بعد، أن كشيش مخرج مولع بالجسد الأنثوي دون أن يكون تحت قشرة راسه أي شيء سوى الخيال الجنسي المجرد من أي موضوع أو فكرة أو تيمة أو فلسفة أو رؤية، وعندما قدم فيلمه الثاني قل الاهتمام به، أما بعد أن قدم فيلمه الثالث “مكتوب ياحبي” في تلك الثلاثية، ووجدوه يستغرق ثلاث ساعات ونصف، في تصوير المؤخرات والنهود داخل “كباريه”، فقد انصرفوا عنه يبحثون عن “صرعة” جديدة يدشنونها في فرنسا”!
إن فيرهوفن في “بنيديتا” يقدم أفضل أفلامه، سواء على المستوى التقني أو السينمائي- الخيالي، أو الفكري. وقد كتب السيناريو بالاشتراك مع الأمريكي ديفيد بيرك الذي سبق أن شاركه كتابة سيناريو “فيلمه السابق “إيل” (2016)، ويعتمد السيناريو على كتاب “أفعال لا أخلاقية: حياة راهبة مثلية في إيطاليا إبان عصر النهضة” الذي صدر عام 1986، وهو من تأليف المؤرخة الأمريكية جوديث براون، وفيه تكشف عن القصة الحقيقية للراهبة “بنيديتا كارليني” التي جاءت مع والدها إلى دير في بلدة “بيشا” من ريف إقليم توسكاني الإيطالي وهي طفلة في التاسعة من عمرها.
في المشهد الأول من الفيلم، وهو مشهد محير، يهاجم مجموعة من اللصوص أسرة بنيديتا في طريقها إلى الدير (بنيديتا هنا في الخامسة من عمرها)، لكنها تتوعدهم بغضب “السيدة العذراء” التي تقول إنها “تستجب لكل ما تطلبه منها”. يسخر منها اللصوص، ولكن طائرا يتبرز فوق وجه أحدهم فيعيدون القلادة التي انتزعوها من أمها، ويفرون هاربين!
والد بنيديتا، وهو من كبار التجار الموسرين، يقدمها لرئيسة الدير، الراهبة- الأم “فيليسيتا” (شارلوت رامبلنج) كعروس للمسيح، لكنها تطالبه بـ”دوطة العروس”، ثم تساومه على المبلغ، قائلة إنها لا تقبل أكثر من ثلاث فتيات في السنة، ليصبحن زوجات المسيح، أي يهبن أنفسهن لخدمة الرب، وأن هناك إقبالا كبيرا على الالتحاق بالدير من جانب بنات الموسرين. وهكذا فمن أول مشهد بعد العناوين، يكشف فيرهوفن كيف أن الدين تجارة ومساومة وصفقات لا صلة لها بالإيمان والنقاء الروحي.
تطلب الأم فيليستا من بنيديتا تغيير ملبسها، ثم التخلص من تمثال العذراء الذي تحمله معها، لكن الفتاة تخفيه. تستمع الى الأم فيليستا في خشوع، وتستجب لما يقال لها، فهي شديدة الإيمان بالمسيح، تؤمن بأن الجسد لعنة، وأن الخلاص يأتي فقط عن طريق الألم الجسدي. تؤكد فيليستا فكرة رفض الجسد عندما تقول للراهبات الشابات إن “أكثر أعدائك هو جسدك”.
تذهب بنيديتا الصغيرة لتصلي أمام تمثال العذراء. تتضرع إليها أن تخلص روحها. يتحرك التمثال ويسقط فوقها مباشرة، يهرون إليها لكنها لم تصب بأذى. إنها المعجزة الثانية. ويمر 18 عاما، وتصبح بنيديتا في الثالثة والعشرين من عمرها، ثم تكتشف أولا رؤاها للمسيح في أحلامها ويقظتها، ثم قدراتها الخارقة. وتتوالى المعجزات والخوارق والرؤى المسيح يخاطبها، يغازلها، يغويها يقول لها إنها زوجته، وتقتنع هي أنها أصبحت زوجة المسيح.
تلجأ إلى الدير، الفتاة الفقيرة “برتلوميا” فرارا من والدها راعي الغنم، وشقيقيها، الذين يعتدون جنسيا عليها يوميا. هذه الفتاة تتصرف بتلقائية وبراءة، على سجيتها تماما كفتاة لم تحصل على أي قدر من التهذيب والتربية السليمة، وسرعان ما تصبح الصديقة الوحيدة لبنيديتا في الدير، تختلي بنيديتا بها في غرفتها التي خصصوها لها بعد أن آمنوا بكراماتها، وتبدأ معها علاقة حسية كاملة، تكتشف خلالها بنيديتا متعة الجنس المثلي الذي يعقبه دائما، رؤية للمسيح، أي أن المتعة الجسدية تصبح مفتاحا للتسامي. وذات مرة تصل في تماهيها مع المسيح إلى درجة عالية، وهو على الصليب ينزف دما من يديه المقيدتين وقدميه ورأسه، يطلب منها أن تقترب وتحتضنه، لتكتشف أن عضوه الجنسي ليس عضوا ذكريا بل أنثويا. وتستيقظ من النوم لتجد أنها تنزف بالفعل من اليدين والقدمين.
بفضل هذه المعجزة التي يسمونها (استيجماتا)، تصبح بنيديتا قديسة يؤمن الجميع بأنها على صلة بالمسيح، وينصبونها رئيسة للدير لتحل محل الأم فيليسيتا، مما يولد الغيرة والحقد في قلب ابنة فيليستا التي تشك في أن بنيديتا قد افتعلت مثل هذه الجروح لاقناع الجميع بقداستها. ولكنها لا تملك دليلا.
ومع تطور العلاقة الجنسية بين بنيديتا وبرتلوميا، واكتشاف الأم فيليستا تلك العلاقة، تذهب الى فلورنسا لمخاطبة الممثل السياسي للبابا الذي نراه وهو يلهو مع النساء ولا يهتم سوى بجمع المال ولذة الجنس والطعام، تطالبه بالحضور إلى الدير للتحقيق مع بنيديتا ومعاقبتها.
إنه وقت انتشار الطاعون في إيطاليا وفي أوروبا كلها. لكن بنيديتا بواسطة علاقتها الروحية المباشرة مع المسيح تتمكن من تجنيب البلدة الوباء.
ما سيحدث بعد ذلك يمكن إدراكه. ستحاكم بنيديتا ويحكم عليها بالموت لكنها ستنجو بفضل معجزة أخرى. أما محاكمتها فستكون أساسا- بسبب مثليتها الجنسية، فقد آمنوا بها وبمعجزاتها، وجعلوها قديسة ونصبوها رئيسة الدير بعد ان قدمت لهم كل ما يؤكد قناعاتهم المسبقة عن الدين، أي الأساطير المرتبطة بالمسيح والسيدة العذراء والاستيجماتا.. إلخ.
فيرهوفن، ببساطة، يسخر من آليات “الإيمان” ويقلب الطاولة على رؤوس المؤمنين بالأساطير الدينية. لكنه يبقيهم طوال الوقت، بين الشك واليقين، فلا أحد يمكنه أن يعرف ما إذا كانت بنيديتا صادقة أم تفتعل تلك “المعجزات”، وهو يجعل برتلوميا تعثر قرب النهاية، أي بعد أن يتم الحكم على بنيديتا بالموت حرقا، على قطعة من الزجاج تسقط منها عفوا، إشارة إلى انها ربما تكون قد استخدمتها في جرح يديها وقدميها، لإقناع الجميع بحقيقة الاستجماتا!
فيرهوفن هنا يسخر ويتمادى في سخريته، فهو يمنح المشاهدين ما يعتقدونه وما يروج في القصص الديني، ثم يتمادى عندما يعتبر “الإيمان” وتصديق الرؤى (الخيالية) نتاجا للمتعة الجسدية لا للتسامي ومعاقبة الجسد وقهره واعتباره العدو الأول للإنسان. إن علاقة بنيديتا بالفتاة الريفية سليلة رعاة الغنم، أي برتلوميا، هي التي تفجر الرؤى والمعجزات والكرامات التي لا يمكن لأحد أن يصدقها لكنهم يصدقونها. بل يتطلعون إليها في ذهول عندما تتقمصها روح المسيح فتتحدث بصوت رجل هو صوت المسيح نفسه.. إنه نوع من المزاح المقصود الساخر من جانب فيرهوفن، الذي يعطينا كل ما نرغب، لكنه يصفعنا بالاحتمال الأكبر: أن تكون بنيديتا كاذبة ومحتالة، مثلها مثل كثير من رجال الدين الذين يروجون لمعجزات لا وجود لها. أما الجنس والجسد والتحرر من فطرة الذنب والإثم، فهو هنا، السبب الرئيسي في العقاب.
فيرهوفن يغالي في السخرية أيضا، فيجعل تمثال السيدة العذراء الذي أتت به معها بنيديتا عندما التحقت بالدير، يصبح بعد أن تقوم برتلوميا بتعديله، أداة المتعة الجنسية عند بنيديتا، تدخله برتلوميا في فرجها وتدفعه إلى أن تحقق النشوة. وتظل العلاقة بينهما علاقة اشتهاء جنسي من جانب بنيديتا، لا علاقة حب، فالحب عند بنيديتا يظل خالصا للمسيح فقط، فهي مخلصة في تدينها، لكنها عثرت على الوسيلة التي تزيد من إيمانها. أما برتلوميا فهي عاشقة محبة لها، ورغم اضطرارها للاعتراف عليها في النهاية تحت وطأة التعذيب والكشف عن مخبأ “أداة المتعة” الصغيرة، إلا أنها تظل محبة مخلصة لها، تهرع إليها قبل حرقها تريد أن تنقذها، تجذع لما يحدث لها وتصرخ وتحتضنها في النهاية بعد نجاتها ولكنها أيضا تريد أن تعرف ما إذا كانت تكذب على الجميع أم أنها صادقة في رؤاها. أما علاقة بنيديتا بفيليستا فتصبح بعد أن توقن الراهبة المتجبرة، أنها مشرفة على الموت بعد إصابتها بالطاعون، علاقة أكثر ودا وتفاهما. و فيليستا هي التي تطعن الكاهن البابوي القبيح في النهاية.
إنه التضامن النسوي بينهن جميعا في مواجهة سلطة الرجل التي يمثلها مندوب البابا الذي لا يتورع عن ممارسة أبشع أنواع التعذيب. ورغم أننا في القرن السابع عشر، أي في قمة عصر النهضة. إلا أن سلطة الكنيسة كانت هي مهيمنة تماما.
ليست هناك مشاهد جنسية ساخنة أكثر مما في أفلام أخرى مثل “كارول” Carol أو “الخادمة” Handmaiden الكوري، أو “وراء التلال” Beyong the Hills الروماني، أو بالطبع “حياة أديل”. لكن الضجة تثور دائما مع أي فيلم جديد يقدمه بول فيرهوفن، لأنه يعرف كيف يكون مقنعا، ومؤثرا، وكيف يتلاعب بالوسيط السينمائي كما يشاء، ويوظف امكانياته كمخرج في التلاعب بالمتفرج أيضا.
يحتوي الفيلم على مشاهد للتعذيب باستخدام آلة يضعونها داخل فرج (برتلوميا) تقبض عليه من الداخل وتسبب ألما شديدا لا يطاق، لدفعها إلى الاعتراف بعلاقتها “الآثمة” مع “بنيديتا”. وبعد أن كانوا يعتبرون بنيديتا “قديسة” صاحبة كرامات، أصبحوا يدمغونها الآن بأنها مشعوذة تلبسها الشيطان.
في الثانية والثمانين من عمره، لايزال فيرهوفن يتحكم بدرجة مدهشة، في البناء، في الإيقاع، في أداء الممثلين، في دفع الحركة داخل الفيلم، وفي استخدام الضوء والتكوين. والمشهد الأخير في الفيلم (الحرق الذي تنجو منه بنيديتا ثم مهاجمة الفلاحين لرجال الكنيسة واكتشاف إصابة مبعوث البابا بالطاعون.. الخ) يرقى بتكوينه وجماله وبراعة تنفيذه، إلى أفضل مستويات الإخراج، سواء من ناحية الحركة، أو استخدام مجاميع الممثلين الثانويين، وتنويع الزوايا والحفاظ على الانسيابية والايقاع.
ويعود جمال الفيلم وسحره وقدرته على إبقاء المتفرج منوما تحت تأثيره، إلى الأداء البديع الواثق المحكم من جانب الممثلة البلجيكية الشابة “فيرجيني إيفيرا” التي قامت بدور “بنيديتا” حاملة الفيلم بأسره على عاتقها، تؤدي أداء واثقا، جريئا، دون تردد أو وجل، تكشف عن ازدواجيتها بين التدين المغرق في المقدس، والرغبة الحسية المتفجرة التي لا تشبع قط، ثم تقف شامخة أمام الجميع، تتحدى وتنذر وتتوعدهم بالطاعون (بفضل المسيح) إن أنزلوا بها عقابا. كما تبدو البلجيكية جافني بتاكيا في دور برتلوميا، على النقيض من بنيديتا، ساذجة، بريئة، دنيوية أكثر، لا تهتم كثيرا بالمقدس، بل تتصرف على سجيتها، وتهب جسدها لحبيبتها.. لقد جاءت مثل كثيرات غيرها، هربا من واقع بائس، فنحن نرى اليهودية التي اعتنقت المسيحية وجاءت إلى الدير هربا من الاضطهاد، والعاهرة التي فرت من سوء المعاملة في الماخور.. وهكذا.
ومن الطبيعي أن يثير عدم حسم فيرهوفن لسلوك بطلته: هل هي قديسة أو محتالة، والإبقاء على الجانبين وعلى ذلك الخيط الرفيع الذي يفصل بينهما دون أن يقطعه في أي وقت، غضب الكثير من نقاد فيرهوفن، الذين استفزهم عبثه ولهوه بالوسيط وبالجمهور. ولكن هذا هو الفن. ألا تقدم دائما ما هو متوقع ومنتظر منك!
ومن الطبيعي أن يستفز اعتداؤه الفاتن، على المقدس في فيلمه، عداء الكثيرين أيضا ولكن دون اتهامه بـ”ازدراء الأديان” فقد تجاوزت مجتمعات الغرب الهوس بالدين المنتشر بشدة في مجتمعات الشرق وخصوصا العالم الإسلامي. إن فيرهوفن يقدم هنا مثلا، صورة مناقضة للمقدس الكاثوليكي- المسيحي: المسيح ليس رجلا بل رجل في جسد امرأة، والمسيح كما نراه في أحلام ورؤى بنيديتا، غير متسامح بل عنيف، يقتل الأشرار ويقطع الرؤوس ويسفك الدماء، كما أنه كائن حسي، يؤمن بالحب والجنس ويكشف عن الرغبة.. فماذا بقي بعد ذلك سوى إعادة مشاهدة الفيلم؟!