“بعِلم الوصول”.. سينما الواقع المَأزوم
“لا أعرف كيف يُحيينا الأمل ويُميتنا في اللحظة نفسها؟ ألانَّ الأمل والانتظار متلازمان؟! نعيش بالأمل ونموت بالانتظار.. لكنْ أذكِّر نفسي دومًا أنَّ الخوف من الظلام لا يدوم؛ لأنَّ الظلام نفسه لا يدوم”.. بهذه الكلمات يودِّعنا فيلم “بعِلم الوصول” الذي يستحق المتابعة والاهتمام. هذه التجربة التي ألَّفها وأخرجها وأنتجها “هشام صقر” واحدة من التجارب التي تدين مجتمع المُشاهدة إنْ لمْ يدخلها في حيِّز اهتمامه، فعدم الاهتمام بتجربة جادَّة كهذه يطرح سؤالاً جديًّا عن قيمة ما نفعل.
هالة (بسمة) امرأة متزوِّجة من خالد (محمد سرحان). منذ سنوات تُعاني اضطرابات عقليَّة ونفسيَّة عديدة بدأتْ مع فُقدانها لأبيها. الآن الوضع قد تغيَّر بعدما رزقتْ بطفلة من زواجها. هالة فاقدة تمامًا لإحساسها بابنتها؛ لإحساس الأمومة ابتداءً لدرجة أنَّها تنظر إلى ابنتها بغرابة وغُربة في الوقت نفسه، وفي بعض الأحيان تنظر لسريرها وكأنَّه جزء من الحائط. تدفعها حالتها النفسيَّة إلى الانتحار بابتلاع أقراص دوائيَّة لكنَّ زوجها يكتشف الأمر مِمَّا يدلّنا على أنَّها ليست المرة الأولى.
في الطريق نُقابل صديقة عُمرها وجارتها مُنى (بسنت شوقي) التي تعاني هي الأخرى من واقعها؛ حيث أبوها العجوز يلازم سريره ويقع عبؤه عليها، ومن جانب آخر تريد الزواج من شخص سرًّا لمعرفتها أنَّ أباها لنْ يوافق عليه. وفي الطريق أيضًا نقابل أمَّ هالة (لبنى ونس)، وأختها الفتاة ومعاناة الأمّ من متاعب مرحلة المُراهقة في بيت العائلة وحدهما. وكذلك نرى الزوج العامل في أحد البنوك ومشكلات عمله التي ستؤدي إلى تغيُّر الأحداث. ثمَّ سنجد تلك الخطابات التي توضع في أصِّيص زرع على باب شقة هالة، وما في هذه الخطابات، وأثره على حياتها.
الفيلم مقسَّم لثلاثة فصول واضحة؛ الفصل الأول وهو فصل التعريف بالشخصيات وبمشكلة هالة الذي احتلَّ أول نصف ساعة من الفيلم الممتد لساعة ونصف الساعة. والفصل الثاني فصل تحرُّك الأحداث يبدأ بمشكلة خالد في البنك الذي يعمل فيه ونرى فيه ما سيحدث. أمَّا الفصل الثالث والأخير يبدأ عندما تكتشف هالة أوَّل خطاب أمام باب شقتها وما ستحدثه هذه الخطابات من تغير في حياة هالة.
ولعلَّ التأخُّر في تحريك الأحداث قد أحدث مشكلة بعض الشيء؛ فتمضي نصف ساعة من المشاهدة ولمْ يحدث شيء فيشعر المشاهد بتباطئ المشاهدة وبعض الثقل. إلا أنَّ هذا من وجهة نظر أخرى لا يحدث مشكلة؛ فقد استغلَّ الفيلم هذا الجزء في شيئَيْن الأول هو عرض مشكلة هالة نفسها وهي تحتاج للكثير من الإيضاح لفهمها. والثاني غمسنا غمسًا في الواقع منذ أوَّل لقطة في الفيلم حتى تحرُّك الأحداث. ولعلَّ أيضًا ما ساهم في تحويل تباطئ الأحداث إلى حيز الجمال هو الأداءان الإخراجيّ والتمثيليّ المتميزان.
وثاني ما في البناء هو التأخر الشديد في مسألة الخطابات التي تصل إلى هالة، والتي هي مرتبطة بعنوان العمل، وصاحبة التأثير الأكبر على رسالته التي يقدِّمها. وكأنَّ العمل أراد أنْ يعطي لكل جزء من بنائه فرصة للعرض المنفرد؛ في الوقت الذي كان من الممكن تسريع إيقاع الأحداث -كتابةً- من خلال دمج الفصول الثلاثة سويًّا، والتماشي بينها جميعًا. وهذا الخيار الأخير لنْ يضرَّ البناء في شيء بالقطع بل سيساعد إيجابيًّا في تجربة المشاهدة.
على العموم بدا البناء مقبولاً خاصةً في ظلّ تركيز الفيلم الشديد على إبراز المعنى العام وهو هذا الواقع المأزوم الذي نعيشه في مجتمعاتنا. من خلال استعراض التأزُّم التربويّ بين أم هالة وابنتها الصغرى، والتأزُّم في الأفق في أحلام تلك الأخت ولوحاتها وما تعبِّر عنه، والتأزُّم الاجتماعيّ في حالة صاحبتها منى بين أبيها وزوجها، وتأزُّم العلاقات بين شخصيات الفيلم. وأخيرًا الأزمة الرُّوحيَّة والنفسيَّة التي تعيشها البطلة.
هالة هي مثال لنتاج مُجتمع الأزمة، هي نتاج لكلِّ صنوف الأزمات السابقة وغير التي لمْ تذكر. هالة ليست مجنونة كما قيل بين جنبات حوارات الفيلم، بل هي نتاج الأزمة. هالة هي المجتمع الذي يعاني عديد المشكلات في حريته وفي عدالته. ويعيش الفرد فيه مُصابًا بفقدان إحساسه بذاته وبمَنْ حوله تبعًا للأولى. هالة ليست مريضة بل هي نتاج أعراض المجتمع المريض. نموذج هالة تعبير عن عشرات الملايين في مجتمعنا من الذين يعيشون موتى وهم على قيد الحياة؛ بعدما فقدوا كلَّ مُعطيات حياتهم والمطلوب منهم هو إكمال الطريق وكأنَّ شيئًا لا يحدث. ولننظر لمشية خالد وهو ذاهب إلى عمله فنرى مثالاً للعائش المائت في الوقت نفسه.
هالة وشخوص الفيلم تعبير عن واقع مأزوم حقًّا يبحث عن نجاته عند الطبيب وهو ليس مريضًا، بل مُفتقد لغاية وهدف وجوده، يعيش كالتائه تمامًا أو كمسلوب العقل. والأسباب قالها الفيلم صراحة على لسان البطلة وبالترتيب الفقد، العجز، والظلم. هذه العوامل هي التي أنتجتْ هالة وواقعها المأزوم، هي التي جعلتْ لوحة الأمل المشرق واقعًا لا نريده؛ لأنَّنا نخاف أنْ نصدق في وجوده ثمَّ يسلب منا كما العادة. ولنسأل عن المجرم الحقيقيّ الذي رسم ملامح حياة هالة وجعلها إنسانًا من الأزمة، بدلاً من إنسان يواجه الأزمة.
لكنَّ الفيلم يقدم الاستمساك بفكرة النور والأمل طريقًا وحيدًا لعبور الأزمة. هذا الطريق الذي يتسرَّب نوره إلى هالة عن طريق الخطابات التي تصلها والتي تعرِّفها أنْ ليست وحدها المأزومة، بل هناك مَن في عُمق الأزمة لكنْ لم تمنعه أزمته من أنْ يسلِّم عليها. ولا نعرف ولا تعرف هالة مَن المرسل للخطابات؛ أهي التي قابلتها منذ سنوات في مرض والدها؟ أمْ زميلة خالد في العمل؟ أم شخص آخر؟ لكنَّها تعلم أنَّ خطابها الأخير الذي ردَّتْ به مُرسل بعلم الوصول لأنَّها خطاب إلى الذات ومن الذات.
تمثيل الحالات النفسيَّة يكاد يكون من أصعب وأعقد ما في مهنة التمثيل. خاصةً إذا كانت هذه الحالات ليست مصاحبة للانفعالات البالغة الصارخة الحادة، بل هي حالات جوَّانيَّة داخليَّة خامدة لا تظهر إلا في العيون وعلى قسمات الملامح. وهذا الصنف هو ما كان في فيلمنا، ولقد برعتْ “بسمة” براعة يلمسها كلّ مُشاهد في هذا التحدي الكبير الذي ألقي عليها. واستطاعت أن تنقل إلينا تلك الحالة النفسيَّة المأزومة التي يُراد لنا أنْ نحسَّها. وبأداء تمثيليّ هادئ ومتمكِّن، تشعر فيه بفهمها الدقيق لمَّا تعبِّر عنه، وبتشرُّبها وتعايشها مع الشخصيَّة التي تقدمها. وكذلك كان الأداء متميِّزًا من بسنت شوقي، وبقيَّة أفراد العمل.
ومن أبرز ما ساهم في بناء صورة الأزمة التزيين “المكياج” الذي نجح في خلاله المخرج أنْ يظهر الجميع وكأنَّهم باهتون، مُظلَّلون -أيْ على وجوههم ظلال صارت جُزءًا من تشكيلهم-، أقرب لمظهر الموتى بُعيد موتهم. ليعبِّر به على حالة الاختناق التي تتجلى في أظهر صورها عند هالة. كما استطاع أنْ يصنع من خلال لقطات مشاهده جمالاً من هذه الحال الاختناقيَّة؛ مرةً من خلال إيصاله الإطار الكُليّ بجودة، ومرةً من خلال لقطات منفردة مثل لقطات هالة وحدها، أو عند جلوسها إلى النافذة في بيتها.
كما استغلَّ بعض مكونات المكان البسيطة في التعبير عن الحالة؛ فهالة تكتشف ثقبًا في خياطة الأريكة قد عرَّى الحشو تحته، ثمَّ تكتشف أنَّ هذا الثقب قد فعلتْه هي نفسها في حالات الغياب التي يذهب فيها عقلها سابحًا بعيدًا. ثم في مشهد آخر عندما تريد إصلاح الواقع المُتمثِّل برتقها لثقب الأريكة فإذا بها تنسى لفافة السيجارة لتقع على السجادة لتفسد أمرًا أعظم عندما أرادتْ إصلاح شيء أقل. وهذا من أصدق التعابير عن سلوك الإنسان والمجتمع عند دخوله في حالات الاختناق هذه.
واستطاع “هشام صقر” أنْ يقدِّم نموذجًا بارعًا من الواقعيَّة المحضة، اختار الواقعيَّة في كلِّ شيء؛ في أماكن التصوير، في مكوِّنات اللقطة المُصوَّرة، في الإضاءات المستخدَمة طوال الفيلم، في الحوارات على لسان شخصيَّاته، وفي التصوير في الشوارع على صعوبته. ثمَّ أضاف لكلِّ هذا ملمحًا من واقعيَّة الصوت المُصاحب للمشاهد صوت الإذاعة، وصوت الجيران، وصوت الشارع من الشرفة. وجميع ما فعله من جهود في تجربته الفيلميَّة الأولى مُخرجًا تشير إلى مستقبل واعد.
تجربة “بعِلم الوصول” تقدم نموذجًا آخر من السينما الجادة؛ نموذج يختلف عن نماذج السينما الجادة المُتعارف عليها والتي يحصرونها دومًا في سلوك المُصادمة المجتمعيَّة. وهو نمط مطلوب لكنَّ الحصر فيه ليس مطلوبًا بل هو مكروه لأيّ فنّ. فليس معنى أنْ تنتج فيلمًا جادًّا أنْ تلعن وتسبّ بلغة سينمائيَّة، بل معناه إنتاج أصيل يناقش مشكلة حقيقيَّة. ولعلَّ هذه الدلالة مِمَّا يُحسب لهذا الفيلم.