بطل ماتريكس الجديد يتذكر ماضيه
عام 1999 ظهر “ماتريكس” للأختين لانا وليلّي واتشوفسكي ليعلن عن نهاية قرن وبداية قرن جديد حافل بما يشبه عروض الألعاب النارية، سرعان ما احتوته السينما، وحوّلت خرافة السايبربانك تلك إلى مكسب جديد لآلة الفرجة الجماهيرية الواسعة. وفي غضون بضع سنوات، تحللت “الحاضنة” لتلتحق بالإنتاج السائد.
بعد عقدين من الزمن، استمر العالم في التغيّر، وواصلت هوليوود إنتاج المزيد من الأفلام الرائجة، ولكن نادرا ما كانت أفضل من سابقاتها، على غرار “حرب النجوم” و”جوراسيك بارك” و”ترميناتور” و”ستار تراك” و”هالوين” و”صائدو الأشباح” و”باتمان” وغيرها.
وفي هذا الظرف، يأتي فيلم “ماتريكس 4” أو “ماتريكس الانبعاث” إلى هذا العالم في مظهر الجثة التي أعيد طلاؤها. ولكن بخلاف الأفلام الأخرى، فإن “ماتريكس 4” ينظر إلى تلك الحقيقة وجها لوجه، ويدمجها، ليخلق مرآة جديدة. فهو ليس مجرد حلقة أخرى، أو “إعادة” ساذجة، ذلك أن لانا واتشوفسكي تخيّلت أكثر من ذلك مع كاتبي السيناريو ديفيد ميتشل وألكسندر هيمون. كما أن الفيلم شهد عودة نيو وترينيتي، ولكن قيامهما كان أشبه بمن يصحو بعد ثمالة، أمام قطاع في حاجة إلى النهوض مثل الآدميين في “الحاضنة”.
وتدور أحداث الفيلم بعد عشرين عاما على أحداث الجزء الثالث، حيث يعيش “نيو” حياة عادية تحت اسم توماس أندرسون، ويتناول الحبوب الزرقاء كي تساعده في السيطرة على الهلاوس التي تصيبه. ولكن حياة “نيو” تتغيّر عندما يلتقي بالصدفة بـ”ترينتي”، ورغم أن كلا منهما لا يتذكّر الآخر، تتطوّر الأحداث عندما يلتقي الثنائي بمورفيوس ويعرض عليهما الحبة الحمراء أو الزرقاء وتبدأ القصة من جديد ليتذكّر نيو ماضيه ويعود إلى عالم المصفوفة “ماتريكس” من جديد.
والعمل الجديد يشارك في بطولته مجموعة كبيرة من النجوم العالميين منهم كيانو ريفز وجيسيكا هنويك ويحيى عبدالمتين وكريستينا ريتشي وكاري آن موس وإلين هولمان، كما تحتفظ الشركة المنتجة في الجزء الجديد منه ببطلي السلسلة الرئيسيين كيانو ريفز وكاري آن موس بعد أكثر من عشرين عاما من السلسلة التي حقّقت طفرة هائلة في المؤثرات البصرية والصوتية ونقلة نوعية في عالم أفلام الخيال العلمي والأكشن وانتشارا غير مسبوق وقت عرضها خلال الأجزاء الماضية.
وظلت شركة “وارنر بروس” عاما بعد عام تطلب من الأختين واتشوفسكي أن تنتجا جزءا رابعا من “ماتريكس”، وقد ألمح الفيلم إلى ذلك في مشهد مذهل ألقيت خلاله قذيفة هاون على المصنع، وما يمثله، وتساءل أيضا “هل ملأت تجارة الأفلام خزائن الجميع؟”، حيث تنتشر صور ومنحوتات وقطع أخرى في الديكور، وتندمج داخل الحكاية لتشكّل متحفا صغيرا قاتما.
هذا السرد استُعمل كتقييم ذاتي كي تظهر المخرجة كيف تمّ اعتصار ماتريكس حتى العظام، بعد مروره بغسالة ثقافة البوب، حيث يعود الممثل كيانو ريفز للقيام بدوره الشهير “نيو”، وتعود زميلته كاري آن موس للقيام بدور “ترينتي”، رغم أن كلتا الشخصيتين ماتتا في نهاية الجزء الثالث من الفيلم. لكن فيلم “ماتريكس 4” ليس تذمّرا من جرائر النجاح، ولا نقدا سطحيا للأستوديوهات اللئيمة، بل هو انعكاس رائع لدورة حياة عمل سينمائي تنتهي بإفلاته من مبدعيه، وانتشاره في العالم، كي يصبح ملكا للآخرين.
ونيو الذي يعاني من اكتئاب هو الأنا البديل للانا (وربما ليلّي أيضا) واتشوفسكي التي تواجه صعوبة عالم ما بعد ماتريكس، وكونه انغلق على نفسه حاملا معه جزءا منها (أو منهما معا). الاكتئاب الجديد هو الأنا البديل للانا واتشوفسكي التي تواجه صعوبة عالم ما بعد “الحاضنة”، كما أن شرارة الانبعاث لا تأتي من “البيزنس” البارد بل من دفء شخصيات جديدة نقية وبريئة تجسّد حرفيا محبّي أبطال الثلاثية الأولى؛ لتصبح بدورها أدوات بديلة، ولكن عن الجمهور هذه المرة.
وليس من الصدفة أن يدور مشهد محوري في قاعة سينما، حيث نيو “ماتريكس 4” يراقب نيو “ماتريكس الأول”، فأفلام الأختين واتشوفسكي تشكّل الذاكرة الجماعية على جانبي الشاشة، وذكريات الأبطال تختلط بذاكرة المتفرّجين في دوار عجيب يتشابك فيه العالمان سعيا للمصالحة، تماما مثل بيتر بان العجوز الذي يرتاب من ذكرياته كما يرتاب من نفسه، حتى صار عاجزا عن الطيران.
أما الجمهور فقد فقَد الأمل في عودة ماتريكس بعد ثلاثية مكتملة. ولم يبق على إيمانه سوى أعضاء الفريق الجديد الذين تقودهم شخصية جسيكا هينويك، فقد وجدوا علة وجود وفتحوا عيونهم بفضل نيو. ولعل ذلك هو أفضل اعتراف بالحب من لانا واتشوفسكي إلى محبّي ماتريكس.
بيد أن “ماتريكس 4” لا يمكن أن يفلت من برنامجه الخاص كعرض سوبر، لأن الثورة البصرية للفيلم الأول انغلقت كالفخّ على الثلاثية. فمن جهة، لم تسع الأختان واتشوفسكي للبحث عن حيل جديدة، بل فضلتا استغلال القواعد المعمول بها لإعادة توجيه الاهتمام إلى القصة. ومن ناحية أخرى، لم تُقنع مشاهد الأعمال الجبارة في الفيلمين الثاني والثالث الجمهور تماما، ما جعله يُعرض عن العمل الثالث.
في “ماتريكس 4” يعاد عرض المشاهد الكلاسيكية، ولكن دون رغبة في تثوير الأداء، ولو أن المهارة لا تزال قائمة. غير أن الفيلم نادرا ما يجد وجهته من حيث الحركة، إما لأن التسلسل يبدو متسرعا (ممر البداية، القطار)، أو لأنه يعوزه الرهان على جميع شخصيات الفيلم بالقوة ذاتها.