بدايات نوادي السينما في العالم
أمير العمري
ظهرت فكرة “نادي السينما” للمرة الأولى في أبريل 1907 عندما أسس إدموند بينوا- ليفي “نادي الفيلم” Film club في البناية رقم 5، طريق مونمارتر في باريس. وكان الهدف من إنشاء هذا النادي كما تذكر المعلومات القليلة المتوفرةعنه، هو حفظ كل ما يتعلق بالنشاط السينمائي من وثائق ومعلومات وصور.. إلخ، وبالإضافة إلى ذلك كانت هناك قاعة لعرض الأفلام.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى (1918) أسس المخرج والناقد السينمائي الفرنسي لويس ديلوك أول جمعية سينمائية، كما أصدر مجلة “سينيا” Cinea التي تعتبر أولى المجلات السينمائية المتخصصة في العالم، كما رأس تحرير جريدة نوادي السينما Le Journal du Ciné-club. ومنذ ذلك الحين أعتبر ديلوك رائد حركة نوادي السينما في العالم.
وفي عام 1920 أسس ريتشيوتو كانودو، الإيطالي الذي كان يقيم في باريس، جمعية سينمائية ضمن الجمعيات الأولى الفرنسية أطلق عليها “نادي سينما الفن السابع”، فقد كان كانودو هو أول من أطلق على السينما “الفن السابع”، واعتبرها فناً مثل باقي الفنون الستة الأخرى (العمارة، الموسيقى، الرسم، النحت، الشعر، الرقص). وفي 1930 أسس جان فيغو، رائد حركة “الواقعية الشعرية” في السينما الفرنسية، أول نادٍ للسينما في مدينة نيس الفرنسية، باسم “محبي السينما”. وفي 1935 أسس هنري لانجلوا وجورج فرانجو، جمعية سينمائية باسم “حلقة السينما” Cercle du cinema أصبحت الأساس الذي قامت عليه “السينماتيك الفرنسية” التي تأسست رسميا في عام 1936 كمكتبة لجمع وحفظ وعرض الأفلام ثم أصبحت داراً للمحفوظات السينمائية عموماً.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية اتسع نطاق حركة نوادي السينما في فرنسا والعالم، فتأسس نادي السينما في أنيسي الفرنسية، وفي عام 1948، أسس الناقد الفرنسي المعروف أندريه بازان، بالاشتراك مع جان شارل- تاشيلا وجاك دونيول- فالكروز (المؤسس فيما بعد لمجلة “كراسات السينما”)، والناقد والمنظر والمخرج الكسندر أستروك (صاحب نظرية “الكاميرا- قلم”)، وناقد صحيفة “الفيجارو” كلود موريس، والمخرج رينيه كليمو، وكاتب السيناريو بيير كاست، نادياً للسينما باسم “أوبجكتيف 49” Objectif 49، اتخذ لنفسه مقراً في البناية رقم 5، شارع سباستيان- بوتان.
وقد جاءت فكرة تأسيس هذا النادي ذي الدور البارز، خلال دورة مهرجان فينيسيا السينمائي عام 1948، وكان هدف المؤسسين الذين اجتمعوا معاً على هامش المهرجان، تجديد السينما الفرنسية التي لم تكن تعجبهم حالتها، أي أن النادي وجه اهتمامه، ليس فقط لمشاهدة الأفلام والاستمتاع بجمع ما تيسر من الأفلام الفنية، بل كان هدفه الأساسي القيام بدور في التأسيس لسينما جديدة في فرنسا. وتم انتخاب جان كوكتو وروجر لينهاردت وروبير بريسون كرؤساء للنادي.
وقد ضم هذا النادي السينمائي الطليعي، عدداً من الأسماء القديمة والجديدة الشابة، التي ستلعب فيما بعد دوراً بارزاً في تأسيس حركة “الموجة الجديدة” التي انطلقت في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات. وكان أعضاء النادي يرغبون في وضع الأسس لثقافة سينمائية تعتبر السينما فناً رفيعاً مثل باقي الفنون، وانضم إليهم جان كوكتو وفرانسوا تروفو وإريك رومير وكلود شابرول وآخرون. إلا أن من الملاحظ أن هذا النادي الرائد الذي لعب دورا مرموقاً في الثقافة السينمائية الفرنسية، لم يكن منحازاً لنظرية محددة من النظريات السينمائية العديدة التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، بل كان منفتحاً على جميع الأفكار والتيارات. وقد نجح النادي في تأسيس مهرجان سينمائي في منتجع بياريتز على الساحل الغربي الفرنسي، لعرض الأفلام المختلفة عن الأفلام التجارية السائدة، أطلقوا عليها “الأفلام الملعونة” في استعارة لتعبير “الشعراء الملعونون” الذي أطلقه الشاعر ستيفان مالارميه (1842- 1898).
كان جوهر فكرة نوادي السينما منذ بدايتها، أن تفتح المجال أمام عرض الأفلام التجريبية والطليعية والكلاسيكيات القديمة، وأفلام غير تجارية بشكل عام، بهدف خلق جماعات من محبي السينما وهواة الأفلام الفنية. ومن باريس انتقلت الفكرة إلى لندن التي تأسس فيها أول ناد للسينما عام 1925 باسم “جمعية الفيلم”. ومن الأسماء التي أسست هذه الجمعية السينمائية الأولى في لندن، سيدني برنستاين (كان في السادسة والعشرين من عمره) وكان يمتلك عدداً من قاعات الموسيقى ورثها عن أبيه، وقد أسس فيما بعد شبكة لدور السينما العملاقة في الثلاثينيات، ثم أسس مع هيتشكوك بعد الحرب العالمية الثانية، شركة للإنتاج السينمائي، وهي التي أنتجت أفلاماً لهيتشكوك مثل “الحبل” و”إني أعترف” و”تحت برج السرطان”. وفي أوائل الخمسينيات أسس برنستاين قناة جرانادا التليفزيونية. وبالإضافة الى برنستاين، كان هناك أيضا إيفور مونتاجيو، وكان في العشرين من عمره، وقد بدأ كناقد في مجلة الجامعة ثم أصبح الناقد السينمائي لصحيفة “الأوبزرفر” عام 1926. وسيصبح فيما بعد المنتج المشارك في عدد من أفلام هيتشكوك.
كانت “جمعية الفيلم” اللندنية تضم نخبة من الشباب المثقف ذوي طابع ارستقراطي. وينقل الناقد والمؤرخ البريطاني المخضرم ديفيد روبنسون في كتابه الذي لم ينشر حول تاريخ جمعيات الأفلام في بريطانيا، عن السيدة إيوان مونتاجو قولها: “لم يكن هناك الكثير الذي يمكن القيام به بعد ظهر الأحد. ربما الذهاب إلى حفل موسيقي في قاعة ألبرت، أو قاعة الملكة إليزابيث. ولكن بشكل عام، إما أن تلعب الجولف أو لا تفعل شيئًا على الإطلاق. لذلك كانت “جمعية الفيلم” حدثًا اجتماعيًا ملائماً تماماً. فقد كان رائعاً أن يتناول المرء طعام الغداء يوم الأحد في صحبة صديق ما، ثم نذهب معاً إلى “جمعية الفيلم”.
يجب أن أذكر هنا أن “جمعية الفيلم” اللندنية المشار إليها هي التي وضعت الأساس الحقيقي الذي قام عليه فيما بعد “معهد الفيلم البريطاني” حسب الصيغة المعروف بها في الكتابات العربية بينما الحقيقة أنه ليس معهداً تعليمياً، بل مؤسسة مستقلة تحصل على دعم مالي من الحكومة، تشرف على النشاط السينمائي الثقافي في بريطانيا وتختص تحديداً بشؤون الأرشيف السينمائي إقامة مهرجان لندن السينمائي، والمجمع السينمائي القائم في الضفة الجنوبية لنهر التايمز والذي يعرض الأفلام بصفة يومية على مدار العام فيما يشبه عمل “السينماتيك”. لذلك من الأفضل تسمية هذا الكيان باسم “مؤسسة السينما البريطانية”، فكلمة film في هذا السياق تشير إلى السينما أو النشاط السينمائي ككل وليس إلى “فيلم” ما.
انتشرت جمعيات ونوادي السينما في العالم كله بعد ذلك، وامتدت إلى بلدان أوروبا الشرقية وأستراليا وكندا والولايات المتحدة. ففي نيويورك بدأت حركة نوادي السينما تتشكل في الثلاثينيات تأثراً بمثيلاتها الأوروبية، ويقال إن أول جمعية سينمائية أمريكية تأسست في وودستوك بولاية ميريلاند عام 1919 إلا أنها لم تستمر طويلاً.
وعلى هامش دورة مهرجان كان السينمائي عام 1947 تأسس “الاتحاد الدولي لنوادي السينما” و(الجمعيات السينمائية) ضم ممثلين للاتحادات المحلية في بلدان العالم المختلفة. وفي 2013 بلغ عدد الدول المشاركة فيه 39 دولة. وهو يعقد اجتماعاً عاماً للجمعية العمومية مرة كل سنتين. ويمنح الاتحاد جائزة باسمه في 13 مهرجاناً سينمائياً دولياً.
يختلف هذا الاتحاد عن “الاتحاد الفرنسي لدور الفن والتجربة”. فهذه الدور عرفتها فرنسا منذ العشرينيات. وهي دور العرض الصغيرة التي تخصصت في عرض أفلام السينما المستقلة الفنية، وشجعت واحتفت بالكثير من التجارب الطليعية في السينما الفرنسية، ومنها أيضاً ظهرت حركة النقد السينمائي الفرنسي. وكانت تعرض أفلاماً لأيزنشتاين وبابست وهوارد هوكس وأبيل جانس ورينيه كلير وجان ابشتاين ولوي ديلوك. وتوسعت شبكة دور الفن والتجربة، فتكوَّن عام 1955 الاتحاد الدولي لدور الفن والتجربة بمبادرة تكاتف فيها نقاد السينما مع أصحاب القاعات الصغيرة. وفي 1959 بعد تأسيس وزارة الثقافة الفرنسية اعترف وزير الثقافة الأديب الكبير أندريه مالرو بالاتحاد وأصبحت الوزارة تقدم دعماً مالياً لهذه الشبكة التي تروج للسينما الفنية.
كان الاتحاد في وقت ما، يضم 2400 قاعة عرض مقسمة على 1300 دار سينمائية في عموم فرنسا، وقد حدثت تطورات كبيرة في العلاقة بين “دور الفن والتجربة” وشبكات دور العرض التقليدية، ومنتجي الأفلام بعد الثورة التكنولوجية الرقمية التي أصبحت حقيقة واقعة في 2010 وتغير معها شكل العروض إلى الأبد.
في عام 1967 أصبح جان ليسكير، أحد رواد الثقافة السينمائية الفرنسية، رئيساً للاتحاد. وفي مايو 1974 قام ليسكير بزيارة القاهرة، لاختيار الأفلام التي يمكن أن تشارك في أسبوع للسينما المصرية في فرنسا ينظمه الاتحاد ضمن سياسته في التعرف على السينمات “الأخرى” في العالم. وكان قد أقام في العام السابق مباشرة أسبوعاً للأفلام البلغارية ثم الإيرانية والهندية.
ومن الوثائق التي لدينا الآن المقابلة الشاملة التي أجراها يوسف شريف رزق الله والدكتور رفيق الصبان مع جان ليسكير ونشرت في نشرة نادي السينما (العدد 19، النصف الثاني، 1974، صفحة 534). وفيها يذكر الرجل أن دور الفن والتجربة تمثل 12 في المائة من شبكة دور العرض الفرنسية، ليس من حيث العدد، بل من حيث حجم الجمهور. وقال إن أفلام أسبوع الفيلم الهندي عُرضتْ في قاعة صغيرة في الحي اللاتيني وشاهدها ثلاثة آلاف متفرج. وأن 120 ألف شخص يترددون أسبوعياً على تلك الدور في عموم فرنسا، وأوضح أن وزير الثقافة أندريه مالرو، كلفه وقت أن تولى رئاسة الاتحاد، بتصنيف دور العرض بدلاً من تصنيف الأفلام، وكان أن أخذ في الاعتبار خلال عملية التصنيف، موقع دار السينما، في أي حي، وهل توجد جامعة في هذا الحي، “فما يصلح للمثقفين لا يصلح لسكان الريف جنوب فرنسا الذين لا يجيدون القراءة ولا يمكنهم متابعة فيلم سويدي مثلاً، يكون مصحوباً بترجمة فرنسية على نفس الشريط”.
ومن المعلومات التي ذكرها ليسكير في المقابلة المشار إليها، أن الأفلام المصرية السبعة التي اختارها للأسبوع هي: الأرض والمومياء والبوسطجي وزوجتي والكلب وفجر الإسلام والقاهرة 30 ويوميات نائب في الأرياف. وقد تعاون مع ليسكير في اختيار الأفلام وتسهيل مهمة إرسالها إلى فرنسا، نادي سينما القاهرة برئاسة أحمد الحضري. وسنرى فيما بعد خلال هذا الكتاب، كيف أن النادي حصل مقابل ذلك على عدد من الأفلام الفرنسية لعرضها خصيصاً في عروضه الأسبوعية، وأرسلت فرنسا معها الناقد السينمائي ميشيل كلوني لتقديمها ومناقشتها مع جمهور النادي.
الفصل الأول من كتاب “عصر نادي السينما”