“باب الوداع”.. رد اعتبار للجماليات البصرية في السينما المصرية

بعيدا عن أي تقييم فني أو أي رأي إيجابي أو سلبي، يمثل خروج الفيلم المصري “باب الوداع” للنور فرصة لإعادة النظر في ذائقتنا وثوابتنا السينمائية التي لا تتغير أبدا على مر العصور رغم ظهور الكثير من الموجات المجددة والمتمردة، بداية بجماعة السينما الجديدة في أواخر ستينيات القرن الماضي، مرورا بما سُمي الواقعية الجديدة في الثمانينيات، وانتهاء بالسينما المصرية الجديدة التي قاد مسيرتها في السنوات الأخيرة عدد من المخرجين الشبان في مقدمتهم أحمد عبد الله السيد وهالة لطفي وإبراهيم البطوط.


والمعروف أن الفيلم كان الممثل الوحيد لمصر في المسابقة الدولية للدورة 36 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي التي تُختتم اليوم الثلاثاء، وقد أثار عاصفة من الجدل بين مئات المشاهدين بعد عرضه مساء الثلاثاء الماضي بالمسرح الكبير في دار الأوبرا، ووصل الأمر إلى مطالبة بعض الصحفيين بمحاكمة من وافق على دعمه ماليا في وزارة الثقافة!


ويعود سبب الجدل إلى انتماء الفيلم، وهو العمل الروائي الطويل الأول للمخرج الشاب كريم حنفي، إلى السينما التجريبية الخالصة، وابتعاده عن أي شكل أو نمط معروف للسينما الروائية، وكونه فيلما صامتا تقريبا، حيث لا يحتوي على أي جمل حوارية، ويقتصر شريط صوته على بعض الآيات القرآنية الكريمة والأغنيات وجمل محدودة على لسان الراوي.. كما يبلغ طوله 65 دقيقة فقط، وهو بدوره زمن غير مألوف في عالم السينما الروائية الطويلة، ويقترب به من معايير الأفلام القصيرة، ويهدد أيضا فرص تسويقه تجاريا في دور العرض، التي تشترط عادة ألا يقل طول الفيلم عن 90 دقيقة لضبط مواعيد الحفلات اليومية.

عن الموت والحرية
يكاد العمل أن يكون مجموعة صور متلاحقة تشكل بناء بصريا جميلا ومختلفا عن الموت وفلسفته والحزن على الأحباب الذين نفقدهم، وكذلك عن الحرية المفقودة، لكن الشكل غير التقليدي دفع الكثيرين للاعتراض بعد نهاية العرض، وقال عدد كبير من النقاد والصحفيين والمشاهدين إنه لم يكن يصلح لتمثيل مصر في المسابقة الدولية لمهرجان بحجم “القاهرة”.


أنا الآخر أرى أن قرار إشراكه في المسابقة الدولية لم يكن موفقا، ليس لأنه أقل من المستوى الفني المطلوب، ولكن لأن طبيعته التجريبية كانت تناسب أكثر أسبوع النقاد الدولي الذي استحدثته إدارة المهرجان هذا العام.. غير أن ذلك ليس ما يهمني هنا، ولا حتى يشغلني السؤال التقليدي الذي لا نمل تكراره أبدا حول ما إذا كان الفيلم “حلوا” أم لا.. الأمر فيما يتعلق بهذا العمل مختلف، وله صلة بأسئلة أكبر وأهم، ومنها: هل نحن مستعدون لتدريب أنفسنا على طريقة تلقي أخرى غير تلك التي اعتدناها على مدى قرن من الزمان؟ هل نقبل بوجود ذوق سينمائي آخر غير السائد في أسواقنا ونفسح له مكانا يستحقه تحت الشمس، أم نظل نرفض كل ما هو جديد ومختلف لمجرد كسلنا الذهني وعدم رغبتنا كمتلقين في بذل أي مجهود يوازي مجهود المبدعين؟


آن الأوان لكي يدرك المصريون أن هناك – حول العالم – أنواعا وأذواقا سينمائية أخرى مختلفة عما “فُطموا” عليه على يد هوليوود الغرب وهوليوود الشرق أيضا، وان تلك الأنواع تحتاج إلى تدريب لكي نستسغيها ونتقبلها، بمعنى أنها في حاجة إلى فرص في العرض السينمائي والتليفزيوني المنتظم حتى يألفها المشاهدون ويصير تلقيها معتادا مثل غيرها.. هناك أفلام في شرق آسيا يظل الكادر ثابتا فيها بدون حركة أو حوار لمدة تصل إلى خمس دقائق، وتظل في نفس الوقت جيدة ومتميزة أيضا.


الحس الفني
قد يقول البعض: وما الذي يجبرنا على ذلك؟ ولماذا لا نستمر فيما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا وما لا يرهقنا أو يجهدنا؟ وردي أن كثيرا من النوعيات التي أدمنها المشاهد المصري، سواء في السينما الأمريكية التقليدية أو المصرية، من شأنه تدمير الحس الفني وليس بناؤه، وتشويه الذوق الشخصي وليس تحسينه وتطويره، بالإضافة إلى أن بعضها يحث على العنف والقبح وتبلد المشاعر، في حين أن هناك فلسفة أخرى في الفن ونوعيات أخرى من السينما من شأنها دفع المشاهد إلى التأمل في العالم المحيط به والتساؤل عن أحواله والسعي لتحسينها.. نريد أن نفسح المجال أمام سينما جديدة من شأنها الارتقاء بالإنسان والسمو بمشاعره وحسه الفني، مع بقاء النوعيات التقليدية وترك حرية الاختيار للمشاهدين.


ليس في استطاعتي، ولا في استطاعة غيري، أن يقول لك ما إذا كان “باب الوداع” حلوا أم لا، وليس في الفيلم قصة تقليدية ذات بداية وذروة ونهاية يمكن أن أرويها لك، فهو عمل بصري يكاد أن يكون تشكيليا، وعليك أنت أن تشاهده مثل اللوحة وتتلقاه كما تريد.. لكن ما أستطيع أن أؤكده لك أنه سيدفعك للتفكير والتأمل، وسيفتح الباب واسعا أمام خيالك لتنطلق به كما تشاء، وأمام ذكرياتك ومعاناتك الشخصية لكي تجترها كما تريد، وهذا هو دور الفن، حتى لو لم تكن هناك قصة تنتهي بزواج البطلين.


وبغض النظر عن أي رأي سلبي في التجربة الفريدة، فإن عرض “باب الوداع” في حد ذاته يُعد رد اعتبار للجماليات البصرية في السينما المصرية، بعد إهمالها طويلا لصالح القصص المستهلكة والأفلام الحوارية المملة والابتذال المقيت والتمصير البائس لأفلام هوليوود.. انضم فيلم كريم حنفي الأول إلى أفلام “بصرية” قليلة في تاريخ السينما المصرية لا يمكن أن تحكيها لأحد لأنه لابد أن يشاهدها، وعلى رأسها “زوجتي والكلب” للمخرج الكبير سعيد مرزوق.


ساعد حنفي في تحقيق ذلك مجموعة من الفنانين الموهوبين أهمهم مدير التصوير زكي عارف، الذي قدم صورة شديدة الرقة والعمق في آن واحد، وكذلك مصمم شريط الصوت علاء الكاشف، الذي جعلنا نسمع صوت الصمت في كل مشهد، وكلاهما أعتبره بطلا رئيسيا في الفيلم، فيما كان المونتاج نقطة ضعفه الواضحة باللجوء دائما إلى القطع بالإظلام الذي يفسد التدفق الشعوري، علما بأنه اختيار المخرج أول وأخيرا.

(جريدة القاهرة الثلاثاء 18 نوفمبر 2014)

Visited 22 times, 1 visit(s) today