انطوائيون”: ليالي الوحدة والجمود الرأسمالي”

الشخصية الانطوائية ليس بالضرورة أن يكون هناك سبب مباشر أو حدث كبير لانطوائها، قد يكون هذا الحدث بالنسبة للآخرين أمرا عاديا يسهل تجاوزه لكن لدى الشخص نفسه يحمل قيمة مهمة وكبيرة، وليس شرطا أن يكون الانطواء ناتج عن حدث، قد يكون اختياريا فهناك أشخاص يختارون العزلة ويميلوا إلى الوحدة، فالوحدة تحديدا لا تعكس مدى القرب أو البعد عن الأشخاص فهناك من يشعرون بالوحدة مع أن دائرة معارفهم كبيرة، تلك هي الحالات المرتبكة التي كانت عليها بطلة الفيلم الكوري الجنوبي “Aloners” أو “انطوائيون” ويشاركها بقية الأبطال لكن بنسب متفاوتة، وهذا الفيلم ينافس في المسابقة الدولية لمهرجان القاهرة السينمائي ومن تأليف وإخراج هونج سونج يون في تجربتها الروائية الطويلة الأولى في واحد من أجمل أفلام مسابقة الدورة 43.

قد تكون الأسباب التي جعلت البطلة “جينا” انطوائية غير واضحة وقد يراها البعض غير مقنعة لكن النفس البشرية شديدة التعقيد وردود أفعال البشر مختلفة من شخص لآخر ومن موقف للآخر، وهنا يتم طرح السؤال الذي أطلقه الكثيرون عن الأسباب التي حولت البطلة لشخصية انطوائية، ومن خلال الأحداث نجد انهما سببين صحيح لم تفصح عنهما المخرجة بشكل مباشر لكن يمكن تحديهما خلال الفيلم.

الأول وهو سبب خاص بجينا فقط ومرتبط بحياتها بعد وفاة والدتها التي تبدو من المشهد الأول مدى ارتباط جينا بها لدرجة أنها مازلت محتفظة بالرقم الخاص بها وباسمها رغم أن والدها هو الذي أصبح يستخدم هذا الرقم بعد وفاة الأم.

عاشت جينا مع والدتها بعد انفصال أبويها لما يقرب من 17 عاما قبل أن يقرر الزوجان العودة من جديد في أخر ثلاثة أعوام في حياة الأم، ومن هنا جاء سبب فقدان جينا الثقة في أقرب إنسان لها وهي والدتها بعد قرار العودة لوالدها الذي هجرهما منذ أعوام طويلة، لهذا قررت جينا ترك منزل والديها وقامت باستئجار شقة صغيرة، ويبدو أن قرار والدتها بالعودة لوالدها لم يجعل جينا تهجر المنزل فقط بل كان سببا رئيسيا في فقدان الثقة في الآخرين واتخاذ قرار الوحدة والعزلة الاختيارية.

السبب الثاني وهو بشكل عام يخص دولة كوريا الجنوبية في ظل النظام الرأسمالي البشر تحولوا إلى انطوائيين رغما عنهم نتاج الإيقاع السريع لعجلة الحياة الذي لم يعد يعطي فرصة للروابط الاجتماعي للظهور على السطح مثل السابق وهو ما ظهر في الفيلم أيضا وعبرت عنه المخرجة ببراعة من خلال شخصية “المختل” الذي يريد السفر عبر آلة الزمن والعودة لعام 2002 تحديدا وعندما سألته “سوجين” عن السبب كان رده ساخرا بأنه يريد العودة لأجواء كأس العالم في هذا العام الذي نظمته كوريا الجنوبية مع جارتها اليابان.

لكن الحقيقة أن عام 2002 يعد علامة فارقة في تاريخ كوريا الجنوبية وعلى مستوى السينما فقد اختلفت السينما الكورية فيما قدمته سواء قبل أو بعد عام 2002، فهذا العام يعد الفاصل في التاريخ الاقتصادي الكوري الذي يعتبر ضمنيا الإعلان الرسمي لسيطرة الرأسمالية، التي بدورها كان لها التأثير المباشر على المجتمع.

وهو الأمر التي عبرت عنه السينما الكورية الجنوبية بعد عام 2002 حيث أصبحت غالبية الأفلام تدور حول أمرين يسيرا في نفس الاتجاه بشكل متوازي، الأول توحش الرأسمالية والثاني الأزمة الطبقية الشديدة، ويعد فيلم “طفيلي” أحد أهم الأفلام في تاريخ السينما الكورية وأكثرها تعبيرا عن هذين المسارين وهناك أفلام أخرى مثل “المجتمع الراقي” و”احتراق”.

هذه الوحدة التي فرضتها قسوة الرأسمالية التي جعلت الإنسان وحيدا حتى وسط الزحام لكن زخم الحياة اليومية أصبح لا يعطي أي فرصة للتنفس، ولم تكن جينا الانطوائية الوحيدة خلال أحداث الفيلم بل والدها أيضا الذي عاش وحيدا بعد وفاة الأم وغياب الابنة لكن والد جينا اختار مواجهة الانطوائية والوحدة عن طريق اللجوء إلى الكنيسة وحضور المراسم الدينية والمواظبة على القداس ودعوة القساوسة والشماسين إلى منزله.

وقعت جينا أسيرة بين المسارين المتوازيين كأنها قطار سريع يسير عليهما، المسار الخاص بأزمتها العائلية والمسار العام المتعلق بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية في كوريا الجنوبية، ومن هنا كان اختيار المخرجة لطبيعة عمل جينا بمنتهى الدقة.

تعمل جينا في مركز اتصالات خاص بخدمة عملاء بطاقات الإئتمان، فهي تتعمد رفض التعامل مع الآخرين إلا من خلال العملاء الذين يتحدثون لها عبر الهاتف ولهذا تعد جينا طبقا لما عبرت عنه رئيستها المباشرة في بداية الأحداث فهي الموظفة المثالية.

وفي نفس الوقت هذا العمل هو مثال حي لوقوع المواطن الكوري داخل براثن الرأسمالية المتوحشة القاسية التي لا ترحم ولا تقبل الخطأ ولا تجعل الشخص يستطيع الدفاع عن نفسه أو أن يصون كرامته حتى وإن لم يكن مخطئا.

كلها أمور جعلت جينا شخصية وحيدة منعزلة تعيش بمفردها وتنام ليلا وهي تاركة التليفزيون يعمل حتى لا تشعر بالوحدة بمفردها، تعيش في غرفة قاتمة تكتسي بالظلام ولا تدخلها أشعة الشمس، تأكل بمفردها، تتحرك وحيدة في الشوارع وخلال الموصلات العامة حيث تضع سماعة هاتفها المحمول حيث تعيش مع الفيديوهات التي تعرض على الانترنت.

في بداية الفيلم نتعرف على جينا من خلال مكالمات تليفونية سريعة مع العملاء والتي تظهر خلالها اتقانها للعمل الذي تظهر قدرتها فيه ليس لموهبتها فقط بل لأنها تنفذ كل الشروط القاسية لهذا العمل بدقة، لكنها على النقيض لا تتعامل مع أحد سوى مديرتها تسير وحيدة وتأكل بمفردها، حتى ظهور أربع شخصيات جعلوا جينا تنظر للأمور بشكل مختلف.

الشخصية الأولى والدها الذي يظهر عبر الهاتف برقم الوالدة ورغم العلاقة الفاترة بينه وبين جينا إلا انها ظلت تراقبه من خلال الكاميرا التي وضعتها في غرفة المعيشة لتطمئن على والدتها بعد الانفصال.

وجدت جينا كيف يحاول والدها الهروب من وحدته والخروج من عزلته حتى لو كان الأمر مرتبط بوازع ديني قد يبدو بالنسبة لجينا غير مقنع لكنه على مستوى الواقع أحدث تغييرا جذريا في شخصية الأب الذي أصبح لديه رغبة أكثر في التواصل مع ابنته التي ظلت طوال الأحداث ترفضه.

الشخصية الثانية والتي استحوذت على النصيب الأكبر من المساحة كانت المتدربة الجديدة “سوجين” التي أجبرت جينا من قبل مديرتها على تدريبها رغم محاولات جينا المتواصلة لرفض الأمر لكنها في النهاية خضعت لقوانين العمل ورضخت.

الحائط الزجاجي الذي قامت جينا ببنائه أمام البشر ترسخ بشكل قوي أثناء علاقتها بسوجين بداية من التعامل في أضيق الحدود والحذر والهروب أحيانا من تناول وجبة الغداء معها، وسويجن أيضا يمكن أن نعتبرها انطوائية رغم ان شخصيتها تقول عكس ذلك لكن سوجين وحدتها تكمن في انها تحب التعامل مع البشر لكنها لا تجيد التعامل وليس لديها الموهبة الفطرية أو الشخصية الكاريزمية التي تجذب بها الآخرين تجاها عكس جينا.

تعد سوجين من أكثر الشخصيات تأثيرا على جينا لأن التأثير لم يكن على مستوى العزلة فقط بل في مراجعة الذات فيما يتعلق بقواعد العمل القاسية الذي يبدو أن جينا انخرقت فيها تماما خاصة في المشهد الأخير لها داخل العمل عندما تلعثمت أمام أحد العملاء وبدأ صوت رنين الهاتف يسيطر على عقلها الباطن.

الشخصية الثالثة كانت الجار الجديد الذي كان باب شقته مفتوحا باستمرار وأصدقائه يتواجدون معه دائما، والذي يظهر في المشاهد وهو يسير على عكازين ويبدو أنه انطوائي سابق سحقته الرأسمالية الكورية أيضا لهذا قرر ألا يصبح وحيدا ويترك العزلة ويفتح الباب على مصرعيه لوجود البشر في حياته وأصبح لديه حبيبة.

الشخصية الرابعة والتي تعد الأولى على مستوى التأثير في جينا كان الجار الأول الذي حاول مداعبتها في البداية لكنها تجاهلته رغم ذلك بدأت العمل بنصيحته بل والأكثر من ذلك انها قالت تلك النصيحة للجار الجديد وهي المرتبطة بأن “إشعال السجائر بالكبريت يعطي لها مذاق أفضل من إشعالها بالقداحة” وهو أمر أيضا رغم بساطته إلا أنه تعبير عن محاولات رفض الرأسمالة المتوحشة.

ذلك الجار الذي توفي داخل شقته وحيدا وهو تقريبا في نفس المرحلة العمرية لجينا، يعيش في وحدته أيضا ويبدو أنه كان يحاول التخلص من تلك العزلة عن طريق التعامل مع جينا، ذلك الشاب الذي كانت وفاته وسط المجلات الإباحية وإحداهما عليها عنوان “ليالي الوحدة”.

ليالي الوحدة التي قضتها جينا طوال أحداث الفيلم التي بدأت خلال النهاية في محاولات الخروج من وحدتها ورفض تلك العزلة تدريجيا بداية من إغلاق التليفزيون ليلا وفتح النوافذ صباحا لدخول أشعة الشمس، ثم مكالمتها الهاتفية مع سوجين وتدخين السجائر مع الجار “المشعلة بالكبريت”، والحصول على إجازة لتقييم مسألة الاستمرار في هذا العمل، والرد على والدها سريعا بل وتغيير الاسم على المحمول، ورغم محاولات جينا لكسر وحدتها في مجتمع الانطوائيون إلا أن يظل الحلم الأكبر بالنسبة لمواطني كوريا الجنوبية هو العودة لفترة ما قبل 2002.

Visited 25 times, 1 visit(s) today