النظرية الواقعية : ثورة على السينما!
ترجمة: ممدوح شلبى
عندما سُئل مخرج الواقعية الايطالية الجديدة روبرتو روسللينى عن الواقعية، قال فى احدى المرات “انا مخرج سينمائي ولست منظرا فنيا، ولا اعتقد ان بمقدورى ان اعطى توصيفا دقيقا للواقعية”، وربما لا يستطيع اى احد آخر أن يفعل، لكن روسللينى اضاف فى حوار منشور فى كتاب “الواقعية والسينما” ان الواقعية “استجابة للحاجة الحقيقية لرؤية الناس على طبيعتهم بنوع من الشفافية وبدون الحاجة الى اصطناع استثناءات: وهذا يعنى التسليم بان الاستثناء ياتى خلال استقصاء الواقع”.
ويوافق على ذلك اندريه بازان، ذلك الناقد الذى جعل الواقعية معروفة للجميع، ففى مقال تنظيرى بعنوان “الثورة فى لغة الفيلم” يرى بازان بان الواقعية من الناحية الرسمية بلغت سن الرشد، (عمق الميدان- ليس مجرد مكسب فى حرفة المصور السينمائى كما هو الحال مع المرشحات او اسلوب الاضاءة)، فالوضوح فى عمق الميدان – طبقا لرأى بازان- يسمح للمخرج ان يحافظ على خلفية ومقدمة اللقطة فى حالة من الوضوح المتساوى فالوضوح فى عمق الصورة مكسبا محوريا فى تاريخ لغة الفيلم).
وثمة رؤى نقدية مرجعية ظهرت فى مرحلة ما بعد الحرب العالمية كانت تدعو الى الواقعية، فقد قال سيجفريد كروكور انه اذا نحن وافقنا على ان فيلم – نانوك الشمالى- وفيلم المدرعة بوتمكن وفيلم بيزة، هى اعمال فنية، فيجب علينا ان نُسلم ايضا بان هذه الافلام غارقة بعمق فى حياة الكاميرا)…. ( فهذه افلام يمكن تعريفها بانها أفلام فنية)، هكذا قال سيجفريد كروكور فى كتاب (نظرية الفيلم).
(من الضرورى ان نضع فى الاعتبار انه حتى المخرج الاكثر ابداعا ليست لديه القدرة على الانفصال عن الطبيعة المُجردة بمثل ما يفعل الرسام او الشاعر: فابداعه يتجلى من خلال اظهار هذه الطبيعة نفسها ثم تجاوزها) فالابداع لا يلتقط العالم ببلادة: ولكن الابداع يأتى من خلال الملاحظة الدقيقة، ويصر اندريه بازان بان ( الواقعية فى الفن يمكن تحقيقها بطريقة واحدة فقط وهى الاجتهاد الفنى) فالقضية هى ان الفن يكشف العالم ولا يخفيه.
هذا هوالاجتهاد الفنى الذى لاعلاقة له بالافلام الهوليودية البراقة، ولا علاقة له بالالتزام الايديولوجى لصناع الافلام السوفييت فى العشرينات، ولا يهم ان بازان استحضر ويليام واير وارسون ويلز كما استحضر كروكر ايزنشتين، فهما يريدان ان يستخرجا من الافلام ما يحتاجان اليه لتعزيز انحيازهما للواقعية: فبالنسبة لبازان فهو يرى ان واير وويلز مهتمان بعمق الميدان فى افلام مثل – أجمل سنوات حياتنا، والمواطن كين، وبالنسبة لكروكر فان الواقعية موجودة فى فيلم المدرعة بوتمكين.
وثمة مُدافع آخر عن الواقعية فى سنوات ما بعد الحرب، انه سيزار زافاتينى، وهو اهم كاتب سيناريو فى حركة الواقعية الجديدة الايطالية، لقد رأى فى الواقعية اظهارا لانعدام العدالة الاجتماعية (اذا كان هذا الحب للواقع) هكذا كتب فى مقال عنوانه – بعض الافكار حول السينما – (فهذا من اجل ملاحظة الطبيعة البشرية مباشرة، ولابد ان تطوع الواقعية نفسها لضرورات السينما على النحو الذى تبدو عليه من تنظيم الآن، ويجب ان تتنازل وان تعانى وان تنتظر، وهذا يعنى ان النظام الرأسمالى للسينما مازال له تأثير متعاظم يتجاوز الوظيفة الفعلية للسينما).
هذا التثوير ليس فقط فى الشكل والمضمون ولكن ايضا فى المجتمع: وعلينا ان نستدعى فى اذهاننا الانحياز الجمالى الراديكالى للمجتمع الذى انتهجه زافاتينى فى كتابته لسيناريو فيلم سارقو الدراجات.
ان المثير للاهتمام فى الواقعية وبعض الاراء التى تدعو لها، هو كيف انها تحقق اهدافا متعددة: فبالنسبة للكاثوليكى بازان فانها تشبه اللاهوت، وبالنسبة لروسللينى فالواقعية شكل جمالى يبلور الواقع، وبالنسبة لزافاتينى: فالواقعية تكشف عن الظلم الاجتماعى فى العالم.
ان النظرية الواقعية مثلها مثل النظرية الشكلية تُعتبر فضاءا رحبا يتسع لكل الرؤى الانسانية. وكما قال روسللينى (اجد كل ما هو مُذهل وغير طبيعى ومؤثر فى الناس…) وهذا بدون شك ليس الفن من اجل الفن– تلك الاشكالية التى طالما شغلت عقل الشكليين، وعلى ايه حال ففى اللحظات الاولى من فيلم العام صفر فى ألمانيا يوفر روسللينى نوعا من الحقيقة (وهو ما يسميه بازان الصورة – الحقيقة) وهى حقيقة مُتضمنة داخل اهتمامات اوسع من الواقع المادى الذى يصوره روسللينى بدقة.
ألم تنادى النظرية الشكلية بمثل هذه النظرة التى تتجاوز الواقع؟ هذه النظرة موجودة فى الموسيقى الافتتاحية للفيلم، وفى لقطات استعراضية تمسح المدينة وتتماشى مع اللحن الاساسى للفيلم. ولكن ماذا تخدم هذه الافتتاحية المتكلفة، وهل يمكن ان نتخلى عن النظرة الشكلية من اجل الواقعية التى تُدقق فى التفاصيل؟ فروسللينى فى الفيلم يتابع صبىيا ألمانيا يقوم بنبش القبور ويسرق بعض الفحم ويشق طريقه الى منزله عبر الشوارع الممتلئة بالانقاض، التفاصيل هنا مهمة بالنسبة لروسللينى الذى يريد ان يستكشف رعونة الصبى فى مقابل الواقع الفظيع: كيف مزج روسللينى الأمرين ليخلق فعلا فظيعا، فهذا الصبى يتأثر بافكار مدرس نازى لا يؤمن بالضعف، فينتهى الامر بالصبى الى قتل والده، ولكن هل ضميره يتركه بعد هذا الفعل المروع؟ وهل وجد روسللينى (ما هو مذهل وغير طبيعى ومؤثر….) فى فعل الصبى؟
وفى مقال عن الفيلم منشور فى مجلة Espritيرى بازان أن روسللينى اخرج فيلمه بهذه الطريقة لكى يتجنب تقديم ما تحرص معظم الافلام على تقديمه ( انه من السهل ومن الطبيعى ان نلج عبر السيناريو والتمثيل الى التجاويف العميقة لضمير الصبى )، وبدلا من ذلك فان الفيلم يلتقط ببراعة مشاعر الصبى من خلال مشاهد من البيئة، “جماليات روسللينى انتصرت فى الخمسة عشر دقيقة الاخيرة من الفيلم اثناء طلب الصبى لعلامة تدل على التأكيد والموافقة…” وكما يُضيف بازان “يسير الصبى ويسير باحثا هنا وهناك وسط الحطام، لكن الناس واحدا وراء الآخر يتخلون عنه”.
النقطة التى ناقشها بازان هى ان العديد من المخرجين سوف يُصرون على الاقتضاب فى تعبيرهم عن ازمة ضمير الصبى- اما الواقعية فانها تسمح بالتطويل: فالبطء يسمح لعملية الادراك الذاتى ان يتحقق، وهذه هى الطريقة التى انجز بها روسللينى (ما هو مذهل وغير طبيعى ومؤثر…) بصرف النظر عن افتتاحية الفيلم التى بدت مُتكلفة جدا.
تأثير الواقعية
أثرت الواقعية الجديدة على السينما العالمية فى الخمسينيات، ففيلم (المنسيون) لبونويل عرض اطفال الشوارع فى المكسيك، وثلاثية (آبو) لساتياجيت راى تابعت الحياه الشبابية لبطلها الفقير، كما ركز فيلم “باب الحديد” ليوسف شاهين على هذا المحيط الذى يُعنون به فيلمه، فهذه الافلام مالت الى الواقعية: وكان من الممكن اخراج هذه الافلام بدون فريق سينمائى مُكلف وبدون ديكورات منمقة: فالشارع اكثر اقناعا من الناحية الفنية، وكانت عناصرالنظرية جيدة فى تقديم الواقع الذى تكرست له.
كان العديد من النقاد وعلى مدى سنوات يشيرون الى اراء بازان بوصفها ضحالة فيما يتعلق بلغة الفيلم، لكن الافكار التى اسسها بازان مع آخرين كان لها تأثير هائل، وهذا الامر يبدو صحيحا ايضا بالنسبة للاتجاهات المعاصرة فى الواقعية: فحركة الدوجما تبدو متأثرة جدا بالنظرية الواقعية، وهى الحركة التى اسسها كل من لارس فون تراير وتوماس فينتربرج فى منتصف التسعينات فيما اسماه ( بيان الدوجما 1995 ) ثم انضم اليهما اثنان من مخرجى السينما النرويجية، هما سورين كراجاكوبسون وكريستيان ليفرينج.
هل كانت الدوجما حركة سينمائية هامة ام كانت مجرد مزحة؟ يقول فينتربرج (كتابة قواعد الدوجما استغرقت خمس وعشرين دقيقة، وكانت هذه القواعد مجرد نكتة كبيرة) لكننا ايضا لا ينبغى ان نقلل من خطورة حركة الدوجما وما وراءها، فكل من فون ترير وفينتربرج وضعا عشرة قواعد من اجل العودة الى السينما الواقعية حتى تتحدى السينما الهوليودية التافهة.
واليكم بعض من هذه القواعد (التصوير لابد ان يكون فى الاماكن الطبيعية ) ( الصوت لابد الا ينفصل عن الصورة) (الكاميرا لابد ان تكون محمولة) (الفيلم لابد ان يكون بالالوان) (المخرج لابد الا يكون نقابيا) والفيلم ايضا يجب ان يكون بمقاس 35 مللى، لكنه غالبا كان يُصور بنظام الفيديو ثم يُحول الى نظام السلولويد، وكثير من هذه القواعد تم اهمالها فى الافلام الاولى التى وُزعت من خلال حركة الدوجما فى نهاية التسعينيات مثل افلام – البلهاء – الوليمة – ميفان – وبرغم ذلك لم يتوقف التأثيرالهائل لهذه الحركة.
كل المخرجين كانوا يفكرون فى العودة الى البساطة حتى ان ستيفن سبيلبرج فكر فى اخراج فيلم دوجما، وكانت مجرد مصادفة ان مخرجين عديدين كانوا يبحثون عن البساطة وعن جماليات اكثر ضرورية، ففى فرنسا ظهر فيلم (الحياة المخملية للملائكة) فى عام 1998، وهو نفس العام الذى وُزع فيه فيلمى – البلهاء والوليمة- لحركة الدوجما، وفى العام التالى عُرض فيلم روزيتا فى مهرجان كان، من اخراج الاخوين داردن وهو يحكى عن شابة تبحث عن عمل وتم تصويره بكاميرا محمولة وحصل على السعفة الذهبية، وفى نفس العام حقق فيلم (مشروع ساحرة بلير) نجاحا كبيرا، وهو فيلم رعب منخفض التكاليف تم تصويره بكاميرتين فيديو، وكان جمهور السينما من مختلف الاتجاهات يريد، على ما يبدو، ان يُضحى بالسينما باهظة التكاليف لصالح الاتجاه الى السينما منخفضة التكاليف، كذلك ظهر مخرجون يرحبون باخراج الافلام بنظام الفيديو بديلا عن نظام السيلولويد، وكان هذا حقيقيا ليس فقط بالنسبة لفون تيرير ولكن ايضا بالنسبة لعديد من المخرجين الذين اعتادوا لسنوات على عمل الفيلم السينمائى.
جامعو المحاصيل
اخرجت آنيس فاردا فيلم “جامعو المحاصيل وأنا” وهو فيلم تسجيلى استخدمت فيه فاردا تكنولوجيا الفيديو فى حواراتها مع الناس: وكانت لقاءاتها حميمية وبدون تكلف، وكذلك فيلم ( الفن والشعر وفيزياء الجسيمات ) للمخرج العظيم كن مك مولن، الذى يستكشف فيه موضوعات الفيلم بدون الحاجة – كما يقول المخرج – الى القلق على التمويل والقانونية والعناصر الفنية التى تهتم بها معظم الافلام السينمائية – وقد استعان بالكاتب والناقد جون برجر للتحدث مع عالمين من علماء فيزياء الجسيمات، وكان يعرف ان الامر لن يكون مناسبا بالطرق الاخرى “كان الامر سيكون مستحيلا اذا صورنا جون بيرجر فى بيئة مفتعلة او سابقة النجهيز، فهو كان مُستعدا للحضور بدون استعداد وبدون افكار مسبقة”.
هذه الموضوعات اخذتنا بعيدا جدا عن نظريات الواقعية، لكن ما نتطلع اليه اليوم بشكل اساسى هو الرأى الكلاسيكى عن الواقعية التى وضع نظريتها بازان مع اخرين، وكذلك المستجدات فى لغة الفيلم التى لم يستطع بازان ان يعايشها لانه مات فى عام 1959.
وبالنسبة لبازان – فى مقالاته عن تطور لغة الفيلم – فان الفيلم كان مازال كلمة منطوقة، ومُؤخرا ظهرت كتابات د.ن.رودويك فى كتاب ( العالم الافتراضية للفيلم ) وريتشارد كومبس وريموند دورجنات فى مقالة عن سينما الدوجما فى مجلة ( فيلم كومنت ) وكريس بتيت فى نفس المجلة، والكتاب الرائع عن سينما الديجيتال الجديدة لهولى ويليس، كل هؤلاء الكتاب كانوا مهتمين بنفس القضايا التى طرحها بازان ولكن بطرق جديدة
أنييس فاردا
وعلى سبيل المثال، اذا كان بازان يعتقد ان عمق الميدان كان امرا حيويا، فان الصورة الديجيتال تفتقد عادة الى الدقة فى وضوح الخلفية وبناءا عليه بحثوا عن الواقعية فى امور اخرى، وكما يعتقد كل من كومبس ودورجنات فثمة تناقض فى هذه النظرية الجمالية، فهى تبدو انها تركز على التفاصيل، لكنها تفتقد الى الكيفية التى تسمح لها للقيام بهذا، كما ان ادبياتها اصبحت قديمة.
وطبقا لرأى سينمائى ينتمى للدوجما مثل دود مانتل، فان خشونة التقنية هى غالبا ما نتطلع اليه) ومع رأى كهذا اصبحت الواقعية واعية بوسائل الانتاج كما ان المخرج لا يُخفى محدودية الميزانية، ان استجابتنا الى الصورة وثيق الصلة ليس فقط بما يظهر امام الكاميرا ولكن ايضا بالكيفية التى يتم بها تقديم المعنى.
عندما اصر رودويك على ان تقنية الديجيتال لا تُمكن من الاستمرارية، فجزء من هذا يكمن فى الافتقاد الى عمق الميدان، فاذا ابقيت على لقطة لعدة دقائق وكان لديك عدة خطوط متعددة من المعلومات، فهذا يجعل اللقطة المشهد اكثر قدرة على نقل المعلومات اذا ما كان عمق ميدان غير واضح هم ما لديك.
تقنية الديجيتال ربما وجدت حلا غير مسبوق لهذه المشكلة عبر نظام الهاى ديفنشن، لكن الواقعية الحالية تبدو انها تقدم شيئا مختلفا تماما عما نادى به بازان، تلك هى الفروق التى من المفيد ان نناقشها