الموت كما تعيشه السينما: قراءة في أفلام مهرجان أبو ظبي السينمائي


هل يوجد موت في السينما؟

يفتح هذا السؤال بابا لا نهائيا للتنظير، البعض يتخذ موقفا فلسفيا على أساس أن الشخصيات لا تموت في الفيلم حتى لو أنها تعرضت ماديا داخل الواقع السينمائي لفعل الموت على اعتبار أن الفيلم في حد ذاته حياة طويلة وممتدة في ذاكرة المتلقي فالشخصية قد تموت في الفيلم ولكنها تظل حية في وجدان المتفرج.

في كل الاحوال نحن امام بديهية ان فعل الموت في السينما هو احد أهم الافعال المادية والمعنوية التي يقوم عليها الصراع الدرامي تماما مثل الحب والجنس والخيانة والسرقة، والموت هو أول ذروة درامية عرفها تراث الانسانية الضخم حينما قتل قابيل هابيل ووقف عاجزا امام جثة اخيه الميت حائرا حتى ارسل له الرب الغراب الاشهر في تاريخ البشرية ليكون اول لحاد”تربي”في العالم، ويتحول الموت بعد ذلك إلى مصير واداة ورمز واسقاط وتأويل، وكلنا يعلم أن القصة لم تنتهي بقتل هابيل بل بمشاعر قابيل بعد اول لقاء مع الموت الذي احضره إلى الارض وانهى به وجود أخيه.

ما نريد أن نخلص إليه هو أنه لا يوجد موت في السينما بالمفهوم المادي لغياب الشخص جسمانيا عن قيد الحياة، ليس لأن السينما واقع مواز متخيل وذهني ولكن لان السينما تعيش فعل الموت على مستويات عديدة بتعدد مستويات الصراع الدرامي وقرارات الشخصيات وانفعالها وطبيعة الذرى والتعقيدات النفسية والواجدنية داخل التجربة الفيلمية مهما كان نوعها(فانتازي ميلودرامي،تراجيدي او حتى كوميدي).

ومن بين أكثر من مئة فيلم عرضت خلال فعاليات الدورة السابعة من مهرجان ابو ظبي السينمائي (24 أكتوبر- 2 نوفمبر) يمكننا ان نتعرف على طبيعة توظيف الموت وتأويله وصياغته حتى ليكاد الموت يصبح أحد التيمات الهامة و/ أو الادوات الدرامية التي تتجلى بوضوح داخل الكثير من التجارب التي قدمت عبر دورة المهرجان الأخيرة والتي تعكس كيف ينظر صناع السينما للموت ويتعاملون معه داخل أفلامهم.

الموت- ذاكرة

 ثمة أفلام لا تنتهي فيها حياة الشخصيات الدرامية بالموت بل تبدأ، يتجلى فيها الموت كغرفة واسعة من الذكريات الصلبة التي ترفض ان تزول بزوال صاحبها او مغادرته، في الفيلم العراقي” تحت رمال بابل” للمخرج محمد الدراجي والحائز على جائزة احسن فيلم عربي ضمن مسابقة الأفلام الطويلة يحاول المخرج استكمال رحلته التي بدأها في فيلمه السابق “ابن بابل” بالاجابة عن سؤال محدد: هل مات ابراهيم الجندي الكردي الذي ظلت أمه تبحث عنه خلال الفيلم السابق؟ وكيف مات، وأين؟

هنا يمزج المخرج ما بين الروائي والتسجيلي مستغلا حقبة منسية من تاريخ الصراع الداخلي العراقي عقب حرب الخليج وهي انتفاضة 1991 التي شهدتها مدن الجنوب العراقي ضد حكم صدام حسين عقب انسحاب القوات العراقية من الكويت وهزيمتها أمام قوات التحالف الدولي وبداية انهيار الدولة الذي اكتمل عام 2003 بالاحتلال الامريكي للعراق.

يتم القبض على ابراهيم عندما يسلم نفسه لاحد الجنرالات العراقيين ويتهم بأنه احد المشاركين في الانتفاضة وينتقل من سجن إلى سجن ويتعرض لشتى انواع التعذيب حتى يتم قتله في النهاية ودفنه في المقابر الجماعية التي حفرها الثوار بانفسهم قبل اعدامهم من قبل عناصر النظام.

وبشكل مواز يحاول الدراجي أن يستخدم شهادات حية لثلاثة ممن نجوا من عمليات الأعدام الجماعية كخلفية تسجيلية للخط الروائي لأبراهيم ودليل دامغ على وحشية النظام البعثي في قمعه لتلك الانتفاضة التي لو كانت قد اكتملت ربما لتغير تاريخ العراق والمنطقة بأكلمه.

لقطة من الفيلم العراقي “تحت رمال بابل”

ثلاثة اشخاص التقوا بالموت وجها لوجه هما مصور البلدة واحد الفلاحين ورجل عادي كانت تهمتهم انهم كانوا جزء من الإنتفاضة، يسير الفيلم نحو موت ابراهيم المحتوم لكنه يمر عبر ذكرياتهم عن التعذيب والقمع والقتل الجماعي والأمل في الثورة انذاك والذي يبدو واضحا من خلال الفيديوهات الحقيقية التي يعرضها المخرج وسط القالب المزجي للأنواع داخل فيلمه.

في النهاية يموت ابراهيم قتلا قبل أن يذهب بابنه (ابن بابل) لزيارة حدائقها المعلقة ليجيب المخرج عن السؤال الذي طرحه في فيلمه الأول ويغلق دائرة التأويل الخاصة بسؤال هل مات أبراهيم ام لأ وكيف؟ والتي كانت بلا شك اكثر اتساعا في ذورة ابن بابل وضاقت بشدة في “تحت رمال بابل”.

وبتنويعة على نفس تيمة الموت/ الذاكرة ولكن بأسلوب انضج واكثر عمقا قدمت المخرجة البوسنية ياسمين جبانيتش فيلمها “لهؤلاء الذين لا يبوحون بالحكايات” حول مذبحة بلدة فيتشجراد البوسنية التي راح ضحيتها اكثر من ثلاث مئة امراة اغتصبت من خلال رحلة الأسترالية كيري فيركو وهي شخصية فنانة حقيقة من استراليا ولكن في قالب روائي حيث تذهب للسياحة في البوسنة وهناك تقضي ليلة في فندق هادي انيق ولكنها لا تستطيع النوم وفي اليوم التالي تكتشف عبر البحث أن هذا الفندق كان المقر الاساسي لعمليات القتل والاغتصاب وقت الحرب وتتعجب كيف يكتب عنه في الدليل السياحي انه مكان لطيف لقضاء ليلة عاطفية.

ان كيري هي نفسها كاتبة السيناريو وهي صاحبة التجربة الحقيقية في البحث عن تاريخ هذا الفندق والتوقف أمام التطبيع الحياتي مع ذكريات الموت التي تستشعرها في كل مكان بتلك البلدة الصغيرة

تبدأ كيري في السعي للبحث عن اسباب هذا النسيان المتعمد وهل هو تواطؤ أم خوف من فتح جراح الماضي تأخذها حكايات التعذيب والموت إلى التوقف امام حقيقة أن الازمة هناك ومثل كل مناطق النزاع البشري التي تحتوي على كميات من الدماء كتلك التي (غطت جسر درينا الشهير) وهو الجسر الذي يمر بالبلدة والذي بناه تاريخيا العثمانيين ولكن عبر عرق وسواعد آلاف العمال الصرب ، الازمة هي ازمة تاريخية بالاساس وليست مجرد ازمة سياسية تفاقمت واضحت حربا عرقية.

تتحول كيري اثناء الفيلم إلى حالة من الهوس بذكرى مذبحة البلدة الصغيرة حتى أن المخابرات البوسنية تستشعر منها الخطر وتقبض عليها لاستجوابها.

 تبحث كيري عن نصب تذكاري لضحايا المذبحة من النساء البوسنيات فلا تجد وكأن موتهن اصبح جزء من النسيان المتعمد فتقرر رغبة منها في تجاوز الأمر وفي تخليده في نفس الوقت أن تصنع لهم نصب تذاكاري صغير من الورد بعدد النساء اللائي اغتصبن وقتلن في تلك المآساة التي يغض الجميع طرف ذاكرتهم عنها، ليصبح هذا النصب الرمزي اهداء لهؤلاء الذين لا يبوحون بالحكايات لانهم ماتوا او الاخرين الذين يرفضون البوح بها لأنهم يريدون أن تستمر الحياة كما نهر درينا تمر فيه المياه  فتأخذ معها ذكرى الموت والدم.

وتختم المخرجة ياسمين جبانيتش فيلمها بلقطة واسعة لجسر درينا رمز الأزمة التاريخية التي دفعت الصرب إلى التجرد من ضمائرهم الإنسانية في حرب تطهير عرقية ضد المسلمين من احفاد الأتراك الذين احتلوهم لقرون طويلة وافسدوا فطرتهم بتاريخ دموي عنيف.

اما في فيلم “ايدا” للمخرج البولندي باول بوليكوفسكي فإن بحث البطلة ايدا عن رفات اهلها اليهود الذين ماتوا اثناء الحرب العالمية الثانية لا يأتي من منطلق التخليد والذكرى مثل بحث كيري عن نصب يفي بذكري من ماتوا في البوسنة. إن إيدا تبحث عن اسباب الموت كي تبدأ حياة جديدة، تكتشف ايدا في زيارتها لقريبتها الوحيدة القاضية “وندا الحمراء” انها ليست مسيحية وانها يهودية، بينما كانت ذاهبة لكي تودعها قبل ان تنذر نذور الرهبنة، تصطحبها خالتها في رحلة إلى بلدتهما القديمة كي تكتشف ان منزل والديها احتل من قبل سكان اخرين من غير اليهود وأنهم هم انفسهم الذين قتلوا اسرتها اليهودية كي يستولوا على البيت في عز مد تيار التطهير العرقي لليهود في بولندا ابان النازية، وعندما تحصل ايدا على الرفات وتذهب وخالتها الى مقابر العائلة تعتبر أنها هناك دفنت الماضي كله وتعود كي تنذر عفتها وجسدها لخدمة الكنيسة ولكنها  لا تستطيع. تستشعر أن ثمة اشياء اخرى غير الماضي يجب أن تواجهها، ومرة أخرى يعود الموت يطرح عليها سؤال الحياة فحين تعود تجد خالتها قد انتحرت فتأخذ بيتها وترتدي ثيابها وتدخن سيجارتها وتنام مع الشاب الذي عشقها ثم تقرر العودة إلى طريق الأيمان مرة أخرى ولكنه هذه المرة الأيمان بالحياة وليس فقط بمراسم الدين وطقوسه، نراها ترتدي ثياب الراهبة في المشهد الأخير وتسير بحماس في طريق جديد ولكننا لا نعلم ان كانت عائدة إلى الدير أم ذاهبة كي تبدأ حياة جديدة بعد أن واجهت الموت في اكثر من موضع وتخلصت منه.

الموت ليس واحدا

تقول الحكمة الشعبية “تعددت الأسباب والموت واحد” وهو ما ينطبق على تصور البشر عن الموت في الحياة الواقعية أو المادية أما في السينما فأن الأسباب تتعدد ولكن الموت ليس واحدا كما في الحياة.

تتعدد اشكال الموت في السينما بتعدد اسبابها لان الموت في السينما يتحول من مجرد فعل مادي إلى امثولة او رمز أو اشارة او اتجاه معنوي او افق للتأويل، ففي الفيلم الانجليزي الحائز على جائزة اللؤلؤة السوداء في مسابقة افاق جديدة “حياة ساكنة” للمخرج أوبيرتو بازوليني، يتحول يتخذ موت البطل في النهاية دلالات عديدة على ضوء الرحلة القصيرة التي قام بها معنا عبر تفاصيل الأسبوع الأخير الذي قضاه في عمله الكئيب والرتيب.

إدي يعمل في وظيفة غريبة وهي البحث عن اقارب الأشخاص الذين ماتوا دون أن يشعر بهم أحد، يحاول أن يعطيهم فرصة أخيرة للحياة في ذاكرة من عرفوهم أو كانوا على صلة قرابة بهم ولكنه يفشل عادة في ذلك، فلا يجد وسيلة لإبقائهم احياء قدر الامكان سوى أن يقوم بتجيمع صورهم في البوم خاص يحتفظ به في منزله، وتنعكس تلك القتامة المهنية على طبيعة حياته المملة الرتيبة ذات الأيقاع الواحد او الساكنة بتعبير الفيلم.

وعندما يتلقى أشعارا من مديره تفيد بأنهم سوف يستغنون عنه يبدأ في رحلة غريبة هدفها البحث عن اقارب آخر شخص تولى مهمة البحث عن اسرته بعد أن عثر عليه متعفنا في شقته.

هنا يكسر ادي ايقاع حياته الساكنة ويبدأ في البحث عن كل من عرفوا هذا الرجل سواء عبر العمل أو الجيش أو القرابة الأسرية إلى أن يصل إلى ابنته.

ولا يكتفي بذلك بل أنه يمنحه تكريما خاصا باختيار بقعة دفن مميزة وتابوتا انيقا وفي المقابل يمنحه البحث عن اقارب الرجل الميت مشروعا عاطفيا ينبئ بأن الحياة سوف تتغير ملامحها حيث تقع ابنة الرجل في دائرة من المشاعر المخفية معه.

يتواعدان على اللقاء يوم جنازة الأب لكن ايدي لا يحضر لسبب بسيط وهو أنه مات اثر حادث سيارة اثناء شرائه هدية لصديقته الجديدة والوحيدة.

هنا يتخذ موت ايدي كما ذكرنا دلالات عديدة عقب هذه الرحلة، أولها أن الحياة يجب أن تعاش بكل تفاصيلها وان تظل على غير وتيرة واحدة وإلا تحولت إلى موت غير مباشر، لقد عاش ايدي حياة الأموات اكثر مما عاش حياة الأحياء وعندما اتته الفرصة اخيرا كان رصيد العمر قد نفذ فالحياة رغم طولها النسبي قصيرة لأنها محددة المدة وكل منتهي قصير مهما طال وقته.

أن موت ادي وجنازته التي لم تضم سوى قسيس وتابوت يصنع حالة من التطهير التراجيدي لدى المتلقي وجيعهل يتلفت حوله بحثا عن اصدقائه واقاربه وفرص الحب والحياة المتاحة له  لاننا نرى الرجل الأخر الذي اجتهد ادي كي يوفر له صحبة أخيرة نحو مثواه الترابي، وقف الجميع يودعونه وقد أيقنوا أنه سوف يظل حيا في ذاكرتهم بينما لا يجد قبر ادي سوى اشباح من شيعهم بمفرده طوال فترة خدمته الطويلة في البلدية، لقد عاش حياته ميتا ولم يجد في النهاية سوى الأموات كي يشيعوا جنازته.

وفي الفيلم المصري “فرش وغطا” لا يأتي الموت هنا كمجرد نهاية تراجيدية لحياة الشاب الهارب من السجن اثناء فوضى جمعة الغضب ابان صورة 25 يناير، يهرب الشاب من الموت طوال الوقت ولكنه يلتقي به في صور متعددة كأنما يراوغ كل منهم الاخر، منذ بداية الفيلم حين يفر مع زميله المسيحي من فوضى اقتحام السجون ويصاب زميله بينما ينجو هو ثم مرة أخرى عندما يقنص أحد عناصر الشرطة مجموعة المساجين التي انضم إليها فوق احد الشاحنات في الطريق الصحراوي، يبدو هنا وكأن الموت كان قادما إليه لكنه بالصدفة يخطئ طريقه إلى قلب رجل أخر كان بجانبه، هذا المشهد تحديدا هو أحد اهم مشاهد الفيلم لانه يرتبط ارتباطا وثيقا بمشهد النهاية الذي يقتل فيه البطل.

اثناء رحلة الهروب والتخفي يذهب البطل كي يعيش في المقابر مع مجموعة من سكانها الذين لم يجدوا مكانا بين الاحياء في بلدهم فذهبوا ليجاورا الاموات، في هذا الفصل من القصة يشعرنا الفيلم أن البطل بكل ما يحمله من ثقل الفقر وتدني المستوى الاجتماعي والتاريخ الإجرامي- لانه هارب من السجن- وكأنه ميت يعيش وسط أموات، والأموات هنا ليسوا من في القبور ولكن من يعيشون فوقها في حال اقرب للموت لأن الدولة بتاريخها الطويل مع الفساد والظلم الأجتماعي تركتهم يموتون معنويا وسياسيا.

وعندما يذهب الشاب لكي يوصل خطاب صديقه المسيحي الهارب معه إلى اهله في عزبة الزبالين يكتشف موته أو استشهاده ويتأمل صورته بينما تبدو في عينيه نظرة أنه هو الاخر كان على وشك أن يموت مثل صاحبه، هذا الموت المجاني الذي يبدو عبثيا وبلا سبب.

وفي النهاية يصاب الشاب اثناء تواجده وسط الاشتباكات الطائفية برصاصة طائشة وكأنها نفس الرصاصة التي اخطأته وقت ان كان جالسا فوق ظهر الشاحنة هاربا من جحيم الفوضى التي اجتاحت كل شئ وقت الثورة.

ينتهي الفيلم والكاميرا هي عين الشاب تنظر إلى الحياة من حوله والتي تتمثلها عزبة الزبالين بكل النفايات التي تحيط بها وكأنها النفايات الاجتماعية والسياسية في مجتمع انهارت اسباب الحضارة فيه فتحول إلى مقلب زبالة ضخم واطراف متصارعة على من هو أحق بعبودية الله بينما يبدو بطلنا في نظرته الحائرة مذهولا من الموت الذي جاءه مجانيا وعبثيا وبلا قضية أو سبب في حين أن كل ما كان يرجوه من هذه الحياة هو مجرد”فرش وغطا”.

سقوط الثلج

ويحيلنا الموت المجاني أو العبثي لهذا الشاب إلى موت أخر لشاب صغير سقطت جثته في الثلج عند المشهد الأخير من الفيلم العراقي “قبل سقوط الثلج” للمخرج هشام زمان الفائز بجائزة أفضل فيلم عربي ضمن مسابقة افاق جديدة.

في المشهد الأول من الفيلم نرى المراهق الشاب سيار وهو يتم لفه بمشمع رقيق شفاف لكي يختبئ داخل خزان أحد عربات البترول كي يتم تهريبه إلى تركيا، يبدو المشهد في ايقاعه وكأن سيار يتم تكفينه في ارهاصة للمصير الذي سوف يلاقيه في النهاية هذا التكفين يقوم به رجال الأغا الواسع النفوذ الذي يرسل سيار خلف اخته خارج حدود كردستان كي يقتلها لمجرد أن ابن الأغا تقدم لخطبتها ورفضته وهربت مع حبيبها كي تعيش حياتها بكرامة وحب وحرية خارج حدود البلدة التي لا تزال تسيطر عليها الأفكار الرجعية المتخلفة.

لقطة من الفيلم البريطاني “فيلومينا”

ومثلما التقى ادي بطل حياة ساكنة بالحب بينما كان الموت يحيط به من كل جانب يلتقي سيار بالحب على طريق الموت الذي يسير فيه نحو قتل اخته بحجة الشرف والعادات البالية, يلتقي سيار بفتاة كردية تتنكر في زي ولد لكي تحافظ على جسدها خوفا من طمع ذئاب الشارع في تريكيا التي تعيش فيها ويصبح طريقهم واحد هو لقتل اخته وهي للقاء ابيها المهاجر إلى المانيا ثم تتبعه إلى النرويج ظنا منها انه يبحث عن اخته ليجتمع شملهم لا ليقتلها.

هذه الرحلة كان من الممكن ان تنتهي بشكل لا يلتقي فيه سيار بالموت لو أنه ترك ورائه عاداته المتخلفة وحقد الأغا الدفين على الأخت التي مارست حقها في الرفض، لكن سيار مثل الكثيرين من شباب بلدته التي تلخص جزء من جوهر المجتمعات الشرقية التي لا تزال لا تقبل حرية الرأي او الأختيار يظل منوما مغناطيسيا إلى أن يواجه اخته بالمسدس وفي تلك اللحظة تنتصر الحياة وينتصر الحب الذي ينتظره على محطة القطار حيث جلست حبيبته الصغيرة في انتظار عودته لكن سيار لا يعود حيث يقتل على يد أحد اتباع المهرب الذي وشى به انقاذا لحبيبته واصبح ذهابه إلى اخته فخا لكي يعثر عليه اتباع المهرب هناك ويقتلونه انتقاما للوشاية بهم.

يأخذ موت سيار دلالات العدمية وفقدان الحرية والانتصار لقيم التخلف والرجعية على الحب والحياة والأمل في المستقبل، يطرح المخرج في هذا الأوديسة الصغيرة مشكلات مجتمعة المزمنة وكأنه يتساءل كيف يمكن أن نتقدم وبيننا من لايزالون يفكرون ويبذلون الجهد والمال من أجل انتقام رخيص بحجة الشرف والعادات.

لقد مات سيار موتا مجانيا عبثيا وفقد عمره الشاب حياة كان من الممكن أن تكون مختلفة ومديدة لو انه توقف فقط للحظات وتساءل عن جدوي مطاردة أخته وقتلها بعد أن عثر على حبه وراى الحياة خارج اسوار الجبال التي تحيط ببلدته القبلية التي لا تزال ترصف في الجهل والتخلف.

الموت سؤال في الحياة

الموت ليس نهاية الحياة أنما اليأس وفقدان الأمل والسكون، هكذا يمكن أن نقرأ عددا من افلام الدورة السابعة للمهرجان، كانت حياة ادي بطل حياة ساكنة موتا على قيد الحياة وكذلك حياة حسين بطل الفيلم المصري “فيلا 69” للمخرجة الشابة آيتين أمين.

تطرح آيتين سؤال الحياة عبر انتظار البطل حسين الخمسيني المريض للموت داخل فيلته الكلاسيكية ظنا منه أنه يوقف الزمن عندما يختبئ داخل الفيلا مع اشباح اصدقاء الشباب وغبار الوقت وسكون الحياة من حوله.

يستيقظ حسين على صوت الموت كل صباح القادم من المستشفى التي تجاور فيلته، يبدو منزعجا من هذا الفأل، لقد اقترب الموت كثيرا ولم يتبق له سوى القليل ويغادر، يتعكر مزاجه ويبدو معتل البال طوال الوقت رافض لأي اتصال انساني من اي نوع ينتظر عودة خادمه وزيارة الممرضة التي تعطيه حقن المسكن.

في المشهد الأول نسمع صوت حسين وهو يتحدث عن لحظاته الذهبية في الحياة، كأنه يستعيد زمنا كان الموت فيه بعيدا وغير وارد، نراه يجلس مع اشباح اصدقائه في زمن الشباب يعبثون ويغنون وقت لم يكن في الخاطر سوى الحياة وتفاصيلها الحلوة.

لكن الموت ليس قويا كما يتصور البعض، صحيح أنه قاهر وحتمي لكن البقاء على قيد الحياة لا يعني فقط بقاء الجسد نابضا بالحركة، ثمة امتداد معنوى وروحي يعطي للأنسان فرصة للحياة في ذاكرة الأخرين ونفوسهم.

نلاحظ هنا ارتباط الموت في أغلب التجارب التي تحدثنا عنها بالذاكرة، لهذا يمكن أن نقول أن السينما تعيش الموت ولا يطال شخوصها، عندما يحتك حسين بالحياة متمثلة في حفيد اخته”سيف” وصديقته الشابة”آيه”يتحول موقفه تدريجيا من انتظار الموت وتأجيله بالمسكنات وذلك الحسد الذي يمارسه تجاه جاره الرياضي الفحل”خيري بشارة” يتحول موقف حسين إلى ايمان بفكرة الحياة في ذاكرة الأخرين بعد المغادرة بل ويشعر أن موته القريب يجعله اقرب للاجابة على سؤال الحياة الأزلى: هل وقوع الموت في اي لحظة يمنعنا من أن نعيش حياتنا حتى نهايتها؟

لا يختلف حسين عن باقي البشر الذين سوف يموتون لكنه يعلم أن المغادرة قريبة، إلا أنه بعد أن كان كان غير مبال بشئ ينتمي بالتدريج إلى مشاعر انسانية جميلة وراقية مثل أن يشتري قطعة ارض من خطيب ممرضته الشابة كي يضمن لهم المال الازم للزواج ثم يهديهم طاقم الشاي الكلاسيكي الخاص بأمه كي يتذكرونه كلما شربوا فيه الشاي ثم يبيع نصيبه في المكتب الهندسي إلى مساعده الشاب كي يبدأ حياته المهنية على خلفية جيدة، وبعد ان يمسه شعاع الحياة القادم من خلف بوابة الفيلا الزجاجية يخرج في نزهة هادئة بسيارة والده رمز الزمن الجميل الذي عاشه يوما لكي يستمتع بالنور والهواء والحياة حتى أخر لحظة دون أن يشغل باله خواطر النوستالجيا التي كانت تداهمه طيلة ما كان مختبئا في الفيلا ظنا منه أنه هكذا يطيل ما تبقى له من العمر.

نفس هذا السؤال الوجودي عن الموت والحياة يطرحه الفيلم الإنجليزي “فيلومينا” للمخرج ستيفن فريرز الحائز على جائزة أحسن ممثلة ضمن جوائز اللؤلؤة السوداء في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة للقديرة جودي دانش عن دورها في الفيلم الذي يحمل اسم الشخصية الرئيسية التي قدمتها.

فيلومينا هي امرأة ايرلندية تقرر في عيد ميلاد ابنها الخمسين أن تبحث عنه بعد أن اخذ منها عنوة على يد مجموعة من الراهبات في الدير الذي كانت تعيش فيه وهي ابنة السابعة عشر عاما، وفي رحلتها للعثور عليه تلتقي بصحفي انجليزي يهتم بقصتها ويقرر أن يبحث معها عن الأبن الذي تبنه عائلة اميركية وسافر معها إلى هناك، عندما تصل فيلومينا إلى الخيط الذي يوصلها لأبنها تكتشف أن الموت سبقها له وانه توفي على اثر اصابته بالأيدز لأنه كان شاذ جنسيا.

هنا لا يبدو الموت نهاية رحلة البحث عن الابن بل بدايتها، تعيد فيلومينا اكتشاف ذاتها وابنها بعد نصف قرن من فراقهما، تصهرها التجربة الروحية الخطيرة التي تتعرض لها على يد الراهبات جردوها من ابنها وانكروا اي معرفة بمصيره، لا تفقد فيلومينا ايمانها بالله لأن بعض من يدعون العلم به دون غيرهم أضروا بسمعته حينما اتخذوا من اسمه سلطة مطلقة للتحكم بالبشر ومصائرهم، تكتشف ان ابنها كان يبحث عنها هو الأخر عندما شعر باقتراب موعد المغادرة، وذهب بالفعل إلى الدير وسأل عن امه الطبيعية لكن الراهبات انكروها وحين مات اوصى ان يدفن في مقابر الدير، لقد كان دوما هناك قريبا منها على بعد اميال قليلة لكنها كانت تحتاج إلى تلك الرحلة كي تتأكد من ان صفحها عن الراهبات لم يكن من قبيل الرجاء على أمل ان يدلوها على طريق ابنها بل عن ايمان حقيقي بأن الحياة لا تحتمل وبداخل الانسان كره لأي شئ وان الموت قد لا يكون فراقا اخيرا كما نتصور بل أن شعورنا بأن من كنا نتوق للقائهم كانوا يبحثون عنا يجعلنا دوما على صلة روحية ووجدانية بهم حتى ولو غادروا قبلنا.

اما في الفيلم الانجليزي “الشبيه” من إخراج ريتشارد ايودا عن قصة ديستوفسكي الشهيرة وبطولة الممثل الشاب جيسي ايزنبرغ الذي حاز جائزة اللؤلؤة السوداء كأحسن ممثل عن دوره في هذا الفيلم فإن الموت يعتبر الطريق الوحيد للحياة. نحن امام معالجة تمزج قصة ديستوفسكي مع رائعة جورج أورويل 1984 ولكنها تنطلق نحو افق فلسفي ووجداني مختلف، فسيموت جيمس الشاب الذي يعمل في شركة نظم ومعلومات-تذكرنا بتلك التي كان يعمل بها بطل 1984- يعيش في زمن لا هو بالمستقبلي ولا هو بالحاضر ولكنه يبدو من خلال الأجهزة والتفاصيل وكأنه تصور عن العالم المادي الغربي بكل آليته وكأبته وجموده، اضاءة كابية وبيوت متشابهة وحياة رتيبة وتنظيم لدرجة الفوضى الخلاقة.

يحاول سيمون جاهدا ان يلفت نظر زميلته في العمل هانا لكن خجله وصمته وعدم ثقته بنفسه وشعوره المستمر بالضآلة والخوف والتلاشي يجعلانه غير قادر على أن يقوم بتلك الخطوة البسيطة رغم انها جارته وزميلته ورفيقة رحلته اليومية بالمترو إلى ان يظهر في حياته شبيهه طبق الأصل صاحب نفس الإسم والشكل، ويبدو على الجميع وكانهم يتعاملون مع الأثنين على انهم شخصين مختلفين رغم أنهم متطابقين حد التمام، ولكن بينما يعاني سايمون من كل العيوب الشخصية الرهيبة التي تلغي شخصيته وتجعله نموذج للأنسان الشفاف الذي يمكن أن تمرر يدك عبره على حد تعريفه لنفسه فان الشبيه يأتي مناقضا له في كل شئ فهو قوي الشخصية واثق من نفسه ماكر وخبيث ومستغل وقادر على الوصول لاهدافه يقع الجميع تحت سيطرته وسحره وقوته بينما سايمون الأصلي رغم كل مواهبه وذكائه وامكانيته يصبح شبه عبد لديه يستغله اسواء أستغلال ويستولى على افكاره ومشاريعه وحبيبته.

في النهاية يكتشف سايمون الأساسي الحل في لحظة تنوير تأتيه بعد أن تموت امه التي كانت تعاني من مرحلة زهايمر متأخرة، يكتشف سايمون أن الموت هو الحل ولكن ليس موته هو بل موت الشبيه، يكتشف سايمون أن عليه أن يقتل شبيهه الناجح القوي ليأخذ هو مكانه ويعيش الحياة التي لطالما اراد ان يعيشها ولكن بشرف ودون شر أو خيانة أو استعباد لاحد كما كان يفعل الشبيه الناجح الشرير، يدرك سايمون عندما يقوم بضرب شبيهه أن ما يحدث للشبيه يحدث له وان ما يحدث له يحدث للشبيه فيقرر الأنتحار ولكن بشكل يجعله يتلقى فقط ضربه قوية على رأسه ولكنها تصبح في المكان الذي يوجد فيه الشبيه قاتله وبالتالي يتخلص منه إلى الأبد وكأنه يولد من رحم الموت الذي يبدو هنا وكأنه ميلاد جديد، لقد اكتشف سايمون أن عليه أن يقتل كل العيوب التي بداخله والتي تمنعه من ممارسة حياته بشكل رائع لكي يتمكن من الأستمرار في هذه الحياة والحصول على ما يريد ويستحق وهنا يصبح سايمون نموذجا لكل البشر الذين يحملون في داخلهم حالة الأذدواجية المدمرة التي تحتاج إلى ان يقتل الانسان نفسه او جزء منها كي يسترد ذاته.

الموت احيانا أسهل

يتبقى لنا الحديث عن حضور السهل للموت كوسيلة درامية أو ذروة يلجأ لها صناع الأفلام لكي ينهوا فيلهم بأسلوب سلس وبلا مشكلات مع المتفرج خاصة اذا ما اصاب الموت الطرف الشرير في الصراع الدرامي وهو ما يتجلى في فيلم”بلادي الحلوة..بلادي الحارة” للمخرج العراقي هينر سليم والحائز على جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مسابقة الأفلام الطويلة.

بعد ان يؤسس المخرج جيدا لشخصياته وعالمه الذي يدور في قرية كردية صغيرة على حدود

تركيا في قالب اقرب للكوميديا السياسية التي اشتهر بها البوسني الكبير أمير كوستوريتسا نجده يقرر فجأة انهاء الفيلم بموت عصابة الأغا التي تسيطر على البلدة وتقاوم محاولة الشريف/ مأمور القسم أن يطبق القانون كما ينبغي وذلك على يد بعض فتيات خلية المقاومة الكردية المسلحة ضد الأتراك.

يصل الشريف إلى تلك القرية بناء على رغبته في خدمة مجتمعه وتطبيق القانون بعد أن حضر عملية تنفيذ الحكم بالاعدام لاول مرة في كردستان عقب انفصالها القومي عن العراق في نفس الوقت الذي تعود فيه المدرسة الشابة (الأيرانية المبهرة غولشفتى فرحاني) من بلدتها لكي تستكمل عملها في القرية، ويصطدم كلاهما بسلطة الأغا ذلك الرجل المسيطر بعصابته او قبيلته على مقدرات الأمور في تلك المنطقة النائية (تذكرنا تركيبة الفيلم بنكهة افلام الميلودراما العاطفية المصرية في الخمسينيات) وتدريجيا يحدث بينهم هذا التعلق العاطفي المشبوب بشهوة مكبوتة ولكن في ظل مقاومة وتحرش واضح من الأغا وعصابته، فبالنسبة لهم الشريف يريد أن يسلبهم سيطرتهم على المنطقة اما المدرسة فتقاوم كعادة كل الاناث الجميلات في تلك الأفلام أن تصبح محظية الاغا, إلى أن تقتل عصابة الاغا احد فتيات الخلية الكردية المقاومة مما يعرضهم في النهاية لانتقامهم المباشر والقتل.

من الصعب أن نفرض وجهة نظرنا على الفيلم لنقول كيف كان ينبغى ان ينتهي ولكنه يعتبر احد التجارب التي تعتبر الموت اداة سهلة لإنهاء الصراع وتخليص الأبطال من سطوة الشر او مقاومة اجتماعهم العاطفي، ورغم أن عصابة الأغا تتهم الشريف انه على علاقة بالمدرسة وتستدعي اخواتها لكي يؤدبوا ابنتهم إلا اننا نجد انهم لم يخطئوا كثيرا فالشريف بالفعل يدخل في علاقة عاطفية جنسية مع المدرسة تماما كما ادعت العصابة عليهم وقررت قتلهم بسبب تلك الشائعة التي اصبحت واقعا ولكن خلية المقاومة تعاجلهم بالموت.

Visited 19 times, 1 visit(s) today