“الملكة وأنا”: صورة من صور التماهي بين الأنا والآخر
يعتبر عنوان العمل الفني أحد الأركان التي تحمل للمتلقي عنصرا دلاليا يتعين فيه ما يسمي بـ”الخلاصة المضمونية” لما سيشاهده، فهو بمثابة الخطوة الأولي التي يخطيها المتلقي لفتح تلك النافذة الفنية لرؤيتها علي المستويين البصري والإدراكي.
مثلما نجد في دلالية عنوان الفيلم التسجيلي “الملكة وأنا” حيث تتحدد من خلاله الشخصيات الأساسية التي سيدور حولها الحدث فـ“الملكة” هي فرح بهلوي زوجة شاه إيران الراحل محمد رضا بهلوي، و“أنا” هي ناهد مخرجة العمل، التي تروي لنا قصتها، فهي الذات/ الفاعلة في تلك العمل، حيث يتحرك من خلالها الحدث والحركة داخل الفيلم، إلي أن نصل للملكة.
و”أنا” هنا تصدير علي رؤية ذاتية، لذلك جاء العنوان بمثابة دائرة مغلقة حول هاتين الشخصيتين، مما جعل ذهنية المتلقي تنحصر حول دائرة الإستفهام: ماذا سيدور بين الملكة وأنا؟ وإلي آخر تلك الأسئلة الإستفتاحية المفاجئة التي تسطع في ذهن المتلقي في برهة إدراكه للعنوان.
“الملكة وأنا” هي علاقة انسانية بين طرفي ذوات (ذات/ الملكة – ذات/ أنا) ، كل منهما تنتمي إلي طبقة اجتماعية مختلفة حيث الطبقة العليا للملكة والطبقة الدنيا للأنا، وبإختلاف الطبقات تختلف الإنتماءات الفكرية والإيديولوجيات والإتجاهات السياسية.
لذلك نجد أن العلاقات التي تجمع بين تلك الذوات علاقات ضدية تقابلية، ومن هنا يقتضي لنا السياق المضموني أن نجعل تلك العلاقة مواجهة لعلاقة الأنا والآخر.
تعريف الأنا Ego”“:هي الإنسان العادي الذي يعاني من النقص والفقد والغياب.
هذا التعريف يتوافق مع ناهد تلك التي كانت تحلم بأسطورة الملكة منذ صغرها، ولكنها تشوهت نتيجة ما واجهته عائلتها من فقر مدقع، وقسوة معيشية وفكرية خلال حكم الشاه محمد رضا بهلوي.
وقد حلمت بالثورة والتخلص من ذلك الحكم الاستبدادي، فإعتلت منابر المعارضين لإسقاطه وتنصيب آيه الله الخميني، حالمة بعدالة اجتماعية وحرية سياسية، ولكن تحولت تلك الثورة والأحلام إلي ظلام دامس نتيجة دخول إيران في موجة هذا الحكم المتطرف الذي يقمع الحريات، ويفتح المعتقلات ويقوم بتعليق المشانق، فقد تم إعدام أخواتها، واعتقالها بتهمة إنتاج أفلام ضد الإسلام واعتبارها مؤيدة للحكم الملكي، وتم الإفراج عنها بعدما وقغت على تعهد بعدم انتاج أفلام تخص إيران وتم نفيها خارج البلاد.
هنا يعتبر بداية الحدث، حيث خروجها إلي السويد وتعهدها بعدم انتاج فيلم عن إيران يعتبر قطع للمتصل، هذا القطع ترتب عليه قرار الرجوع إلي حكم الشاه أي الرجوع للماضي، والبحث فيه عن المخرج.
البحث عن مخرج
هذا المخرج تمثل في البحث عن الملكة فرح ديبا الزوجة الأخيرة لشاه ايران، آخر من تبقي من رموز تلك العائلة الملكية، وبالفعل توصلت إليها، وهنا تبدأ رحلة الأنا للآخر. وهذه الرحلة تكون محفوفة بكثير من الصراعات الداخلية حيث: الشعور بالكراهية تجاه تلك العائلة التي شهدت معها الأنا الذل والمهانة في عهدها، نظرة الإتهام لها ، ماذا سيقول عنها أصدقاؤها من المعارضة؟ هل تكون بذلك مناقضة لتوجهها السياسي؟ كيف ستتحاور معها، وكيف ستتخلص من شحنة الغضب التي في داخلها حتي لا تظهر ما في خارجها، ولكن التساؤلات التي كانت تريد الأنا معرفة إجاباتها كانت دافع أكبر من تلك الصراعات: لماذا أودي حكم الشاه بالبلاد لهذه الصورة؟ كيف تعيش تلك الملكة/ وأين ذهبت مع الشاه بعدما رحلت الاسرة عن إيران؟ وماذا فعل الشاه؟
تعريف الآخر: وهو كل مخالف للأنا في الدين والنوع والعرق والطبقة والإيديولوجيات.
لذلك وضعنا شخصية الملكة الآخر في مقابل الأنا، بدخول الملكة فرح للأحداث تتقلص تلك العلاقة الضدية تدريجياً من خلال معايشة المخرجة للفترات القاسية التي مرة بها تلك العائلة بعد خروجها من إيران من خلال الإستذكار من الماضي عبر تقنية الفلاش باك، ومرض الشاه ووفاة أحد الأبناء وتفرق الأسرة، فأدركت تلك الذات المحملة بالعذاب والفقدان، منظورا آخر للملكة فرح من خلال معايشتها ليومياتها ومشاهدة بساطة تلك المرأة االتي تحمل الكثير من صفات وأخلاق الملكات الحميمية، والتعرف علي أصدقائها وعلي المؤيدين للشاه.
التماهي مع الآخر
كل هذه المعايشات مع الملكة تعتبر لحظات استكشافية للأنا، التي أدركت أن كلا منهما يجتمع علي الشعور بالظلم من جهه الآخر، وهنا بدأت العلاقة تتحول إلي علاقات متشابهه، فتلك الذوات تعيش حالة من الفقدان والعذاب، لذلك تحولت العلاقة الضدية إلي تشابة، وهذا التشابة بالتأكيد أدي إلي التماهي بين الأنا والآخر.
هذا التماهي الذي حدث ولد شعورا بالإرتياح من الأنا تجاه الآخر، لذلك قررت أن تدلي ما بداخلها وتسرد ما حدث مع أسرتها، لنفاجئ برد فعل الملكة الذي تلخص في ” كان عليك الكتابة لي وإخباري…”.
ويختتم الفيلم بقيمة هذا التماهي، وبضمور كل ما في داخل ناهد من غضب وعذاب نتيجة ذلك الماضي المظلم، وهذا ما جعل ناهد بعد التأمل في حياه تلك الشخصية أنها لم تعد عنصرا من عناصر النظام القمعي، ولم تعد تلك الأسطورة الملكية بل أصبحت صديقة تجتمع معها علي حب إيران والشوق إلي ترابها.
الفيلم في مجمله يخاطب زاوية المشاعر والروح عند الشخصيات، ويحلل ويعرض لأحداث في التاريخ الإيراني عايشها هذا الشعب من خلال ثورته وما لاقاه في عهد الخميني، لذلك نجد أن الفيلم يتوجه إلي ذهن المتلقي عن طريق الحوار المباشر بين الملكة وناهد وطرح الأسئلة والرد عليها، والحديث الداخلي/ المونولوج الداخي داخل وعي البطلة، أكثر من توجيه للشاهد البصري من خلال الفضاء المكاني الذي جاء نتيجة لذلك محصورا في القصر التي تعيش فيه فرح وبقية الأماكن التي اعتادت زيارتها مثل قبر ابنتها والمقهي والمتحف، وتعتبر تلك الأماكن توثيقا لحياة فرح بهلوي في فرنسا.
كذلك نجد بساطة الملابس التي ترتديها كل من فرح وناهد، فالجانب الأساسي في هذا الفيلم هو البحث عن الحقيقة من خلال فرح بهلوي، وهو جانب إدراكي أولا وأخيرا، لذلك لم تهتم المخرجة بحشو الفضاءات البصرية كي لا تشغل ذهن المتلقي .
المشاهد بين الملكة وناهد في بداية علاقة الصراع جاءت علي هيئة المحادثات الرسمية ثم بدأت تتحول مع تحول العلاقة بين الذوات، إلي أن تلاشت في آواخر الفيلم، فأصبح هناك اقتراب روحي دلت عليه اللغة الجسدية من خلال الإقتراب بالجسد، والحركات التي تدل على الفروق والقلق ورهبة كل طرف من الأخر، ثم تلاشي الفروق وهذا دليل علي حدوث التماهي بينهما وتخلل علاقة الصداقة والشعور بالتعاطف والحميمية.
وما لكن اهتم به الشاهد البصري وظهر للمتلقي بصورة حية هو الصراع الداخلي للبطلة/ ناهد فملامحها ولغة جسدها كانت مقياساً لما يدور داخلها حسياً وفكرياً، وعلي الصعيد الآخر للملكة فرح في حركات جسدها تجسد الثبات الداخلي لها، ودرجة الثقة بالنفس وتقبل ما حدث لعائلتها، لذلك استمرت حياتها بشكل هادئ بعيد عن أي صراعات داخلية لتلك الشخصية.