المشاركة المصرية بالدورة التاسعة لمهرجان الجزيرة للأفلام التسجيلية
يمكن أن نطلق على هذا الحصاد تعبير أحد أصدقائنا العاملين بحقل “النقد” وهو الهزات الإرتدادية، أي توابع حضور الدورات المهرجانية وتراكم خبراتها ورصد ظواهرها بشكل هادئ بعيدا عن ايقاع المهرجان اللاهث وجداول المتابعة والمشاهدة المكثفة والمزدحمة خاصة في مهرجان لا تتجاوز عدد أيام دورته أربعة أيام ويعرض أكثر من 205 فيلم لا يُمنح أيا منهم سوى فرصة واحدة فقط للعرض، أي اذا فاتتك مشاهدة أي فيلم خلال اليوم فلن تتمكن من إعادة مشاهدته ثانية إلا في تظاهرة أخرى.
أقيمت الدورة التاسعة لمهرجان الجزيرة في الفترة من 18 إلى 22 ابريل وفاز بالجائزة الذهبية للمهرجان الفيلم الألماني “السلحفاة تفقد درعها”- وهو العنوان المكتوب على الفيلم بالعربية وليس “غضب السلحفاة” وهو العنوان المهرجاني للفيلم- للمخرجة الألمانية من أصل فلسطيني باري قلقيلي.
وضمت الدورة 24 فيلما طويلا و81 فيلما متوسطا و54 فيلما قصيرا ورغم أنها اقيمت تحت عنوان واسع الأفق والتأويل إلا وهو “نوافذ” إلا أننا نستطيع بقليل من المتابعة أن ندرك أن ثمة عنصرا أساسيا في بناء وموضوعات أغلب الأفلام التي شاهدناها أو التي حصلت على جوائز المهرجان إلا وهو “شهادات”، فالكثير من افلام المهرجان التي تمكنا من متابعتها اتخذت شكل الشهادات سواء على مستوى الاسترجاع احداث ماضية لشخصيات الفيلم او على مستوى الشهادات الحية عن وقائع آنية لا تزال في طور الفرز أو لم يمض عليها سوى القليل من الوقت والتاريخ.
نستطيع أن نحصي المشاركة المصرية خلال الدورة الأخيرة عبر عدة محاور لم تتوقف عند حدود الانتاج الصريح وإنما تجاوزته للمشاركة في أحد عناصر الفيلم الأساسية خارج منظومة الإنتاج المادي ولكن عبر مساهمات معنوية وفنية ربما تتجاوز في اهميتها التمويل والمادة.
شهادات
في فئة الأفلام الطويلة شاركت المخرجة الأمريكية المصرية الأصل مي اسكندر بالفيلم الطويل الوحيد الذي حمل اسم مصر في المسابقة وهو “شهادات” والذي فاز بجائزة قناة الجزيرة الوثائقية كأحسن فيلم طويل والفيلم نفسه يحمل العنوان الدال الذي اشرنا إليه ويتتبع الفيلم مقطع طولي في حياة الصحفية المصرية الشابة هبة عفيفي والتي تعمل في النسخة الانجليزية من جريدة المصري اليوم وذلك عبر ثلاث سياقات أساسية ومتاداخله هي وضعها كأنثى في مجتمع متحرش على المستوى الاجتماعي والسياسي والانساني والنفسي ووضعها الأسرى ايضا كأنثى تعمل مهنة المتاعب ومهنتها التي تؤمن بها وترى أنها تحقق لها ذاتها وتمنحها اعتبارات ايجابية وشعور بدور حقيقي في المجتمع والحياة.
وسوف نعود في سياق حصادنا إلى الحديث- في مقال آخر- باستفاضة عن هذه التجربة، أما في فئة الأفلام المتوسطة فنجد أن المشاركة المصرية تصل إلى ستة افلام – والأفلام المتوسطة هي التي أطول من 30 دقيقة و اقل من 60- أهمها بالطبع “عيون الحرية شارع الموت” للأخوين سوني، والاهمية نابعة من فوزه بجائزة قناة الجزيرة الوثائقية كأحسن فيلم متوسط الطول وهو ايضا عبارة عن شهادات من واقع احداث شارع محمد محمود بالقاهرة في نوفمبر 2011 والتي راح ضحيتها 45 شهيدا وكانت أحد مفاصل التحول السياسي في موقف المجلس العسكري من حكم مصر. وهو أيضا أحد الافلام التي سوف نعود إليها بالتحليل، يليه فيلم “أنا سعيد لدرجة أني سألعب الجولف” للمخرج سامح اسطفانوس من إنتاج المركز القومي للسينما في مصر، ويتناول الفقر المائي الذي يدق أعتاب مصر في الوقت الذي تستهلك فيه ملايين الأمتار المكعبة في ري ملاعب الجولف التي انتشرت في طول الجمهورية وعرضها.
ويعيب الفيلم عنصران أساسيان: الأول أنه قائم على عملية خداع واضحة للمسؤولين والعاملين في حقل رياضة الجولف حيث يبدو أنهم يتحدثون بحماس شديد عن الرياضة ومدى اتساعها وانتشار رقعة ملاعبها في مصر دون أن يكونوا على دراية بأن المخرج سوف يستغل تصريحاتهم والمعلومات التي ادلوا بها ضد رياضة الجولف والقائمين عليها.. ولولا هذا لمن المؤكد انهم كانوا سيدافعون بمعلومات ربما اوجدت توازنا بين ما ادلوا به عن الرياضة والملاعب وبين الهجوم الشديد عليهم سواء من قبل خبراء الري والمياه أو المخرج نفسه عبر مونتاج متوازي يصور الملاعب التي تروى بالماء العذب بينما تعاني مناطق سكينة كثيرة من الجفاف وندرة المياه.
ونسي المخرج أن عدم وصول مياه الشرب لكثير من المناطق السكنية ليست ملاعب الجولف هي السبب الرئيسي ورائه ولكنها منظومة العشوائيات من ناحية والفساد الادراي والكسل البيروقراطي العام من ناحية أخرى، والمناطق التي استشهد بها الفيلم هي مناطق تعاني منذ عشرين عاما من تلك الازمة اي قبل ظهور رياضة الجولف في مصر.
وقد ختم المخرج فيلمه بقصيدة ساخرة بصوت محمود حميدة جاءت اشبه بقافية في غير محلها بل بدت اقرب لنكتة سمجة في نهاية سياق طويل من الأرقام والاحصائيات الجافة والحديث المآساوي عن أزمة المياة القادمة والانقسام الطبقي، فبدا الفيلم كله عبارة عن حالة مشوشة سواء على مستوى الأسلوب أو طريقة التحقيق وسرد المعلومات القائمة على خداع الضيوف أو النهاية الهزلية التي لم تصل إلى حد تفجير الكوميديا السوداء من أزمة خطيرة.
ثمة ايضا افلام متوسطة مصرية مثل “داير” للمخرج وليد سامي- إنتاج مستقل- وهو محاولة متواضعة جدا لدمج ما هو خاص بما هو عام وما هو ذاتي بما هو جمعي عبر اعادة تمثيل بعض المشاهد من قبل المخرج اثناء وبعد الثورة ثم دمجها بمادة أرشيفية واعادة تقديم نفس الطرح الرومانتيكي السطحي عن ما قبل وما بعد والذي ذكرنا بفيلم “مولود في الخامس والعشرين من يناير” لأحمد رشوان.
وهناك مشاركة المخرج الشاب تامر عشري بفيلم “صور من غزة” وهو من إنتاج احد الشركات الخاصة وفيه حاول المخرج أن يكسر الصورة النمطية التي قدمت عبر عشرات الأفلام عن غزة والحرب والانفاق والحصار. إنها محاولة أنسنة مدينة تعيش في ظروف مغايرة وفي ظرف تاريخي وسياسي استثنائي وخطير ولكن بشرها لا يزالون على قيد الحياة وقادرين على الصمود والمقاومة.
ومن أفلام الإنتاج الخاص أيضا في فئة المتوسط “غناء الحرية..اسكندريلا” للمخرج احمد الهواري الذي حاول أن يمزج ما بين سيرة احد فرق “الأندر جروند” المصري أو الموسيقى البديلة “اسكندريلا” وبين التغيرات الاجتماعية والسياسية التي تفرزها الساحة المصرية في السنوات الأخيرة.
ويبقى فيلم وحيد في فئة المتوسط ليس إنتاجا او إخراجا مصريا ولكنه يتحدث عن “اموال مصر المنهوبة” وهو نفسه عنوان الفيلم من إخراج دنيال تيتلو وإنتاج بي بي سي ويبدو اقرب لحلقة تحقيق تليفزيونية منه لفيلم تسجيلي وإن كان تأثيره الأساسي سياسي وليس فني حيث يقال أن الحكومة البريطانية اخذت موقفا جديا بعد بث بي بي سي لهذا الشريط بعد ان كانت تتعامل باستهانة مع ثورات آل مبارك المهربة والموجودة في البنوك البريطانية او الاملاك العقارية للعائلة.
الأفلام القصيرة
وفي مسابقة الفيلم القصير-أقل من 30 دقيقة- شاركت مصر بفيلم “محمد محمود.. نداهة الثورة” وهو من إنتاج مؤسسة المصري اليوم وإخراج المخرجة التونسية الشابة إيناس مرزوق.
ويشترك هذا الفيلم مع الفيلم المتوسط “عيون الحرية” في أن كلاهما يتحدث عن شارع محمد محمود وكلاهما يتخذ شكل الشهادات ولكن مع اختلاف الأسلوب وكثافة الزمن والرؤية في الفيلم القصير بالإضافة إلى كونه يشترك مع الفيلم الطويل “شهادات” في أن مخرجته اعتمدت في مادته الأساسية على الأرشيف الذي صورته بنفسها خلال الاحداث أثناء عملها كومنتيرة ومخرجه في قسم “المالتي ميديا” بجريدة “المصري اليوم” مما يجعلها زميلة للصحفية الشابة هبة عفيفي بطلة “شهادات”.
وربما كان الإختلاف الجوهري بين عيون الحرية ونداهة الثوار هو حجم الشعرية والجرعة الدرامية في الفيلمين فالأول ييميل للتوثيق المباشر متخذا موقفا مضادا على طول الخط من الجيش والشرطة والوضع السياسي في مصر اثناء الاحداث مع بعض محاولات رسم بورتريهات للشخصيات التي شاركت في الاحداث من “الثوار” أو الشهداء الراحلين أما “نداهة الثورة” فهو محاولة الإبقاء على اللحظة حية عبر الصورة والكلمة اعتمادا على أن احداث محمد محمود هي أحداث سياسية لا تزال أسبابها سارية رغم اختلاف المسميات والادارة ومن هم في الحكم، تسع دقائق شجنية وهادئة بصوت المخرجة ووجودها امام الكاميرا في الشارع بعد عام كامل من الاحداث محاولة أن تستعيد اللحظة لا من أجل أن تستدر دموعنا على من استشهدوا أو فقدوا عيونهم او جرحوا ولكن لكي تجعلنا نقارن بين ما حدث وما لا يزال يحدث لكي ندرك أن التغيير لا يزال في طور التشكل ولم يتحقق بعد.
وعلى عكس ما فعله الأخوان سوني في فيلمهما حين استخدما مادتهما الخاصة وارشيفهما المصور أثناء الأحداث لإحداث معادل بصري اثناء رواية الشهادات من قبل من عاشوا الأحداث، قامت إيناس بتوظيف ارشيفها-المصور للجريدة- لا كمعادل بصري ولكن كمتن رئيسي لعملية تفعيل اللحظة في الواقع والأصرار على أنها لا تزال سارية تاريخيا وسياسيا ولم تنتهه بانتهاء المواجهات أو رحيل المجلس العسكري عن الحكم فالمنظومة التي تحكم علاقة الشرطة والجيش بالمواطن لم تتغير كثيرا عن وقت الاحداث إلى يومنا هذا.
إنتاج خاص
ومن أفلام الإنتاج الخاص المصرية القصيرة فيلم “مسرح جنتي” للمخرجة اللبنانية رانيا الرافعي التي تقيم في مصر منذ 3 سنوات والتي جاء فيلمها عن المخرج المسرحي العراقي الكبير جواد الاسدي في شكل بورتريه قصير ومكثف لفنان عربي نحتاج غلى امثاله ممكن تمكنوا من هضم اتجاهات الفن العالمي في مجال المسرح دون أن يفقد روحه التراثية والمحلية الأصلية.
وقدم المخرج المصري محسن عبد الغني فيلم “ضد التيار” وهو إنتاج إحدى الشركات الخاصة ولكنه شارك بأسم الجزيرة الوثائقية لأنه مباع لها وذلك عن قصة السباح المصري المعاق مصطفى خليل وانجازاته الرياضية والأنسانية على حد سواء.
وقدم المخرج الأمريكي المصري الأصل جابرئييل ميخائيل فيلم “اساطير الطيران” والذي ينتمي لنوعية أفلام التوعية البيئية وهي التخصص الأساسي للمخرج الحاصل على ماجستير في الهندسة البيئية من أمريكا ويصور الفيلم متابعة شيقة لرحلات اسراب الطيور المهاجرة في البحر الاحمر والصعوبات التي تواجهها بسبب تدخل الانسان في الاخلال بمنظومة البيئة عاما بعد عام.
قبل أن نفرغ لتحليل الفيلمين الفائزين تجدر الاشارة إلى ان المشاركة المصرية لم تتوقف عند حدود الأفلام وصناعها ولكنها تجاوزت ذلك إلى وجود عضو بلجنة التحكيم الدولية فئة الفيلم المتوسط وهي الدكتورة أمل الجمل حيث تحرص ادارة المهرجان منذ انطلاقة قبل عقد كامل على ان يكون ثمة تواجد مصري في لجنة التحكيم الدولية على اعتبار أن مصر احدى اهم الدول العربية المنتجة للفيلم الوثائقي بل إن قناة الجزيرة الوثائقية نفسها تعتمد في كثير من انتاجاتها بالشرق الاوسط على الشركات الخاصة المصرية. وكانت لجان تحكيم المهرجان خلال الدورات السابقة قد ضمت أسماء مثل الناقد سمير فريد والمخرج محمد كامل القليوبي والكاتب الكبير محفوظ عبد الرحمن وكاتب هذه السطور.
وفي مجال الندوات والتكريمات كرمت ادارة المهرجان المخرج المصري الكبير علي بدرخان بجائزة خاصة منحت له اثناء ندوة كتاب الجزيرة السنوي والذي جاء هذا العام تحت عنوان” ربيع الوثائقي.. دراسة في وثائقيات الثورة” والذي شارك فيه عدد كبير من الباحثين المصريين والعرب وقدمه الناقد سمير فريد واحتلت فيه الثورة المصرية جانبا كبيرا من الأستشهادات والقراءات والتحليلات فيما يخص الوثائقيات المنتجة عنها بشكل خاص او عن الثورات العربية بشكل عام منذ اكثر من عامين.
كذلك استضافت الدورة الكاتب الكبير محفوظ عبد الرحمن والسيناريست الشاب عبد الرحيم كمال في ندوة خاصة تحت عنوان “الكتابة والسينما” حيث تحدثا عن مصطلح الكتابة السينمائية والاقتباس من اعمال ادبية ومدى وصول السيناريست إلى درجة من الادب السينمائي عندما يستوعب خصائص الشكل الذي يقدم افكاره من خلاله وعن مستقبل الكتابة للسينما في مصر والوطن العربي خاصة بعد تراجع حركة الانتاج نتيجة سخونة الاحداث السياسية والتقلبات المزاجية والوجدانية للمتلقي العربي الحالي.