الكرْكند.. أو “سرطان البحر” القدرة اللانهائية على تضليل الذات
يورغوس لانثيموس (من مواليد 1973 في أثينا) درس في معهد السينما بأثينا. بدأ مسيرته الفنية مخرجاً لاستعراضات راقصة بالفيديو، وإعلانات تلفزيونية، وفيديوهات موسيقية، وأفلام قصيرة، ومسرحيات تجريبية.
في حديثه عن نفسه يقول لانثيموس: “نشأت ضمن عائلة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة الأدنى، وعشت حياة عادية جداً، تخلو من أي مغامرة. في ذلك الحين، لم يكن ممكناً حتى مجرد التفكير في أن تصبح صانع فيلم في اليونان. الأفلام المنتجة كانت قليلة. ولا توجد لدينا صناعة سينما.. حتى في يومنا هذا. لذلك حاولت أن أتخذ مساراً آخر، فبدأت أكسب رزقي في مجال تصوير الإعلانات التجارية، وكنت شاباً يافعاً. من خلال هذا الوسط تعلمت الجانب التقني، إذ لم يكن جيداً مستوى معهد السينما باليونان”.
أول أفلامه الدرامية كان عملاً تجريبياً بعنوان Kinetta (2005) وقد لقي ترحيباً في عدد من المهرجانات.
يقول لانثيموس: “قبل تصوير فيلمي الأول قلنا، لم لا نحصل على كاميرا ونصور طالما أن لدينا خبرة جيدة تقنياً. هكذا حققت الفيلم مع أصدقائي الذين عملوا معي بلا أجر.. كذلك في الفيلمين التاليين”.
فيلمه الثاني “سن الكلب” Dogtooth (2009) حاز على جائزة أفضل فيلم في مهرجان ستوكهولم كما حصل على جائزة في مهرجان كان، وفرض اسم لانثيموس في المشهد السينمائي العالمي. فيلمه التالي Alps (2011) نال جائزة أفضل سيناريو في مهرجان فينيسيا.
في هذين الفيلمين تحرّى لانثيموس ثيمات الحميمية والإرتباط ضمن نماذج اجتماعية تؤسس علاقات إنسانية. في Dogtooth قدّم هجاءً حافلاً بالدعابة السوداء عن الحماية المفرطة التي يحيط بها الآباء والأمهات أبناءهم، ويشيّدون حولهم حصناً من الروايات الهادفة إلى منع الأطفال والمراهقين من مغادرة الحضن الآمن الذي يوفّره البيت. وفي Alpsنرى شركة صغيرة تؤجّر موظفيها ليحلّوا محل الأحباب المفقودين لسبب ما، فيجد فيهم المستأجر تعويضاً مادياً ومعنوياً.
بعد ذلك انتقل لانثيموس إلى انجلترا ليستقر فيها.. “بعد الفيلم الثالث أدركت أن عليّ أن أبدأ في تحقيق أفلام ناطقة باللغة الإنجليزية. تلك كانت الطريقة الوحيدة أمامي لكي أتقدّم وأتطور وتكون لديّ خيارات أكثر. كان الإنتقال والإقامة في لندن قراراً حاسماً”.
في لندن أخرج فيلمه الرابع سركان البحر أو “الكرْكند” the lobster(2015)، أول أفلامه الناطقة باللغة الإنجليزية.. “كنت سعيداً لتوفر حرية الخلق التي نحتاجها لتنفيذ هذا الفيلم. لقد حرصت على الإحتفاظ بالمستوى الإبداعي الذي كنا نعتمده في تحقيق أفلامنا السابقة. لقد عملت مع أفراد أتاحوا لي ذلك المناخ الخلاق”.
الفيلم يمزج دراما اللامعقول والحالة السوريالية والدعابة السوداء والفنتازيا والغرابة والنقد أو الهجاء الإجتماعي بشأن العلاقات المعاصرة. الفيلم حاز على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان.
بهذه الأفلام اكتسب لانثيموس سمعة طيبة كواحد من الأصوات المهمة في السينما اليونانية والأوروبية المعاصرة.
لقد اعتاد يورغوس أن يكتب أعماله مع صديقه كاتب السيناريو اليوناني إفثيميس فيليبو.. “الأفكار تأتي من خلال المناقشات التي تدور بيننا. كل منا يروي للآخر ما يرصده في واقعه وما يثير اهتمامه. إن أحدنا يلتقط فكرةً ومنها يخلق قصة بسيطة تبدأ في التنامي. أحياناً نشرع في كتابة مشاهد، وإذا وجدناها مشوقة ومثيرة للإهتمام ننطلق منها لخلق قصة كاملة”.
إن مصدر فيلم “الكركند” نشأ من خلال الرصد والنقاش بين الإثنين بشأن الحياة والناس، العلاقات والسلوك.
يقول لانثيموس: “جاءت فكرة الفيلم من مناقشةٍ بشأن العلاقات الإنسانية ولماذا يشعر الناس أنهم بحاجة ماسة إلى إقامة علاقة في ما بينهم، وما هو منظورهم إلى الذين لا يستطيعون إقامة مثل هذه العلاقات، ولماذا يُعتبر من لا يستطيع ذلك شخصاً فاشلاً، وإلى أي مدى يمكن للمرء أن يمضي في سبيل أن يكون مع الآخر. أيضاً الخوف، وكل تلك الأشياء التي تحدث لنا ونحن نسعى إلى التزاوج”.
الفيلم يريد أن يقول أن البشر في طريقهم لفقدان القدرة على إقامة صلات حقيقية وذات معنى بين بعضهم البعض. إنه يتناول القلق الإنساني بشأن الحب، العلاقات، الإنسجام، والعزلة.
يقول لانثيموس: “إنه عن الأفراد حين يكونون متزوجين، أو عزّاباً، أو واقعين في الحب، أو غير واقعين في الحب. إنه عن العلاقات الإنسانية. لقد حاولنا أن نقدّم تصويراً صادقاً. الطريقة التي بها نرى ونستكشف هي ليست إيجابية ولا سلبية”.
أعماله الهجائية تنسجم تماماً مع قدرة البشر اللانهائية على تضليل الذات. وفي “الكركند” يقدّم هجاءً للهاجس العام بضرورة إقامة علاقات بين الأفراد، والإيمان الراسخ بأن الزواج هو التعبير الأسمى للسعادة الإنسانية، وأن الزواج مؤسسة متحضرة تميّز البشر عن الحيوانات.
يقول لانثيموس: “إننا نصوّر ما نرصده في الحياة اليومية على نحو مبالغ فيه. نأخذ كل هذه التصرفات، الشفرات، الضغوطات، المعايير والقواعد التي لدينا ونرصدها بطريقة مبالغ فيها ثم ننظر إلى أين سيفضي بنا ذلك”.
أحداث فيلم “الكركند” تدور في المستقبل القريب، في مجتمع غريب، غير مألوف، تحكمه قوانين وأعراف شاذة، غير منطقية، واستبدادية. هذا المجتمع يصرّ على اعتبار الفرد ناقصاً وبلا قيمة ما لم يرتبط بعلاقة متوافقة ومنسجمة وقائمة على التماثل مع الجنس الآخر.
الفيلم مروي، خارج الكادر، بصوت الممثلة راشيل فايس، وعالمه مرئي من وجهة نظر ديفيد(كولن فاريل). وهو مهندس معماري. زوجته التي عاش معها أكثر من عشر سنوات، تقرر فجأة هجره والإنفصال عنه. وهو يتقبل الأمر بشيء من الإستغراب والحيرة. لكن وضعه الراهن كمطلّق، لا يمكن قبوله في المجتمع الذي يعيش فيه، فهذا المجتمع يقدّس العلاقة الزوجية ويحظر العزوبية. لذلك يتعيّن عليه أن يقيم في فندق خارج البلدة تديره امرأة صارمة، يرافقه كلب (يتضح أنه شقيقه الذي حولوه إلى كلب بعد إخفاقه في تكوين علاقة زوجية).
في الفندق يُمنح الأفراد العزّاب مهلة مدّتها 45 يوماً كي يعثر كل شخص منهم على الزوجة أو الزوج الذي ينسجم معه ويتقاسم معه ذات السمات والصفات المميزة والأمزجة والميول. وإذا لم يجد، في غضون هذه الفترة، فسوف يتم تحويله إلى حيوان، حسب اختياره، ثم يُنفى ليعيش بقية حياته بعيداً عن المجتمعات الإنسانية.
الفندق غامض، لا نعرف من أنشأه ومن يشرف عليه. يقع على مشارف الغابة. هو بمثابة سجن. فيه يُفرض على الرجال والنساء ارتداء ملابس خاصة متماثلة، كما يُفرض عليهم المشاركة في كل فعاليات الفندق من تناول الطعام إلى الرقص إلى مشاهدة عروض تعليمية (في إطار هزلي) لشرح أهمية الزواج وضرورة الإنسجام بين الزوجين: أن تكون في علاقة مع الآخر يعني أن تنجو من الأزمات والمشكلات، لكن عندما تكون وحيداً فذلك أشبه بالعيش بيد واحدة بينما الأخرى مقيدة ومشدودة إلى الظهر.
ومن لا يحضر، أو يرفض حضور، هذه الفعاليات يتعرّض للعقاب. كذلك يُفرض عليهم المشاركة في حملات صيد، ببنادق مزوّدة بأبر مخدّرة، متوجهة إلى الغابة المجاورة لاصطياد المتمردين المختبئين هناك وتحويلهم إلى حيوانات. ومن يصطاد متمرداً أو أكثر يحصل على يوم إضافي على إقامته في الفندق، ومن يعود صفر اليدين لا يحصل على هذا الإمتياز.
عندما تسأل مديرة الفندق ديفيد عن الحيوان الذي يرغب في أن يكونه، في حال إخفاقه، يجيب: الكركند. ويبرّر هذا الإختيار بأنه يحب البحر وأن الكركند يعيش طويلاً “بإمكانه أن يعيش مئة سنة”، وهو من ذوي الدم الأزرق “مثل الأرستقراطيين”، وهو المخلوق القادر أن يعيش سنوات طويلة في المحيط المتجمد.
أما من ينجح في إيجاد الزوجة فيكافأ الزوجان بالإقامة في غرفة خاصة، وإذا واجها بعض المشاكل، فسوف يتكفّل الفندق بتزويدهما بطفلة من أجل إنقاذ العلاقة. بعدها ينتقلان إلى يخت في الخليج لمدة أسبوعين حتى يتم التأكد من توافقهما وانسجامهما.
ديفيد يصاحب في الفندق رجلين: أحدهما يتكلّم بتلعثم (جون س. ريلي) والآخر يعرج بسبب إصابة في ساقه (بن ويشو). كل منهم يحاول العثور على زوجة، وديفيد لا يبذل جهداُ كبيراً وجاداً في التعرف على من تناسبه. يبدو مستسلماً لقدره. صديقه الأعرج يتعمد إيذاء نفسه ليوهم المرأة المصابة بنزيف في الأنف بأنه هو أيضاً مصاب بالعلة نفسها وبأن أنفه ينزف بين الحين والآخر.
لكي يتجنب ديفيد تحويله إلى حيوان يضطر إلى أن يجرب حظه بالزواج من المرأة القاسية، عديمة الشفقة، البارعة في اصطياد المتمردين، متظاهراً بأنه مثلها عديم الرحمة ومبغض للبشر. هي تقتل شقيقه الكلب لتمتحن قسوته ولامبالاته، لكنه يخفق في ذلك عندما تلمحه يبكي خفيةً، فتقرر أخذه إلى إدارة الفندق وفضحه، غير إنه يُفقدها وعيها ويأخذها إلى حيث يتم تحويلها إلى حيوان ثم يهرب إلى الغابة.
في الغابة ينضم إلى الثوار المختبئين هناك، وهم مجموعة راديكالية متمردة على المجتمع، ثائرة على قوانينه، تقودهم امرأة مخيفة، صارمة، حازمة. لكن ديفيد يكتشف أن هؤلاء أيضاً تحكمهم قوانين مستبدة وجائرة وغير عقلانية، وأنهم ليسوا أقل جنوناً من إدارة الفندق. فالحب هنا ممنوع والعلاقات العاطفية والجنسية محظورة، ذلك لأنها علامة على ضعف عاطفي، ومن يخالف القانون يخضع لعقاب شديد. العزوبية، في نظرهم، فعل تحدٍ يستدعي الفخر. كما إنهم يحفرون قبورهم بأنفسهم في الموضع الذي يختاره كل منهم، إذ أن أحداً سوف لن يساعده في ذلك أثناء هروبهم. لكن المشكلة أنه يقع في غرام امرأة متمردة، جميلة ووحيدة، تعاني من ضعف في البصر (راشيل فايس).
الفيلم في هذا الجزء المصوّر في الغابة لا يوضّح ما يمثّله هؤلاء المتمردين بقوانينهم الإستبدادية.
الموقع الرئيسي الثالث: المدينة. مكان بارد، مصنوع من اسمنت وزجاج، ومجمعات تجارية. ديفيد وحبيبته، أثناء انتقالهما إلى المدينة مع قائدة المتمردين وامرأة أخرى، يتظاهران بأنهما زوجان.
إن العالم الذي يصوّره الفيلم (من وجهة نظرنا) عبثي، جنوني، لكنه يمتلك منطقه الخاص.
يقول لانثيموس: “فيلم “الكركند” يحاول أن يستكشف ما يعنيه أن نكون بشراً، ما يعنيه أن يكون الفرد أعزباً، وحيداً، أو يرتبط في علاقة مع شخص آخر، وكل الكوابح والقيود التي يفرضها المجتمع. لقد حاولنا أن نتأمل هذه المظاهر من الوضع البشري بينما نصوّر قصة حب مبتكرة جداً”.
حوار مع يورغوس لانثيموس
أجراه Amir Ganjavie, 19 May 2016
– كيف تصوّرت حبكة سركان البحر أو “الكركند”؟
* الفكرة خطرت لي بعد مناقشة مع كاتب السيناريو إفثيميس فيليبو حول السبب الذي يجعل من الضروري للناس إقامة علاقات في ما بينهم، والنمط السلبي الذي نحمله بشأن من يختار أن يكون أعزباً. نحن كمجتمع نقلّل من شأن أولئك الذين لا يرتبطون بعلاقة مع شخص آخر. كما تحدثنا عن العملية المعقّدة التي يكابدها الناس من أجل أن يكونوا مع شخص ما، وما تتضمنه هذه العملية من أذى وخوف. كنا مهتمين جداً برؤية كيفية استجابة الناس إزاء هذه الحالات، خصوصاً في ما يتعلق بشؤون الحب، إضافة إلى علاقتها بالعزلة والرفقة. الفيلم يحاول أن يلقي نظرة على وجودنا كمجموعة من الناس، وما الذي يعنيه أن تكون أعزباً أو وحيداً أو مرتبطاً بآخر، وكل الكوابح التي يفرضها المجتمع على ذلك. لقد حاولنا أن نُظهر هذه الأوجه من الوضع الإنساني فيما نصوّر قصة حب مبتكرة جداً.
– يبدو أنك، في بناء السيناريو، كنت أقل اهتماماً بشرح خلفية الأحداث..
* لم يكن لديّ الكثير من الإهتمام بالخلفية. أظن أن هذا العالم كامل جداً بذاته، وفي الوقت نفسه، منفصل جداً عن أي شكل متخيّل من البنية الإجتماعية. بالطبع، هناك أشياء معيّنة في هذا العالم بإمكاننا أن نجدها في العالم الحقيقي، لكن من الصعب رسم تماثلات بينها وبين ما لدينا في الفيلم. “الكركند” يصوّر عالماً من اللايقين. من غير المجدي التفكير كثيراً بشأن هذا العالم لأنه غير موجود. كان يتعيّن على الممثلين أن يتبعوا غرائزهم ويتخيّلوا كيف هو هذا العالم.
– في الفيلم مزيج من الممثلين المحترفين والهواة. كيف اخترت الممثلين؟ أي منهج استخدمت في إدارة أدائهم؟
* كان من دواعي سروري أن يشعر ممثلون كبار مثل كولن فاريل، راشيل فايس، ليا سيدو، بارتباط بقصة الفيلم. كنت محظوظاً جداً لتعاوني مع طاقم من الممثلين تفاعلوا مع السيناريو بقوة. لقد حاولت أن أخلق محيطاً من الثقة مع الممثلين في الموقع، وهم استجابوا إلى تلك الثقة. إن لديّ فكرة واضحة عن أعمالهم، لكنني كنت أفضّل أن أشاهد المقابلات التي أجريت معهم قبل الإلتقاء بهم. ذلك يساعدني في فهم ما إذا حساسيتهم تجاه الشخصيات مناسبة. على سبيل المثال، من مشاهدتي لكولن فاريل وهو يتحدث أدركت أنه يمتلك حس دعابة. وثمة جاذبية في حضوره حتى عندما يكون ناعماً وهادئاً وحساساً. هو شخص مركّب جداً، وهذه الخاصية كانت ملائمة للفيلم.
لا أحب أن أفسّر كل شيء أثناء العمل مع الممثلين. عوضاً عن ذلك، أترك المجال لكل فرد أن يقرّر الأداء الأفضل. وفي هذا الفيلم أيضاً كنت أتوق لاستخدام ممثلين محليين هواة. عند هؤلاء كنت أجد شيئاً يتناغم مع الحبكة. وهم لم يجلبوا معهم نظريات وأفكاراً على شاكلة: هذه هي الطريقة الأمثل لتأدية الدور.
– ديفيد (الذي يلعب دوره كولن فاريل) هو الوحيد الذي يأخذ الجمهور عبر العوالم الثلاث المختلفة. في البداية نلتقي به في المدينة، ثم نذهب معه إلى الفندق، وبعد ذلك إلى الغابة، وأخيراً نعود معه إلى المدينة. هل لديك أي مقاصد عن دوره في الفيلم؟
* يمكنك أن ترصد عالم “الكركند” من خلال عينيّ ديفيد لأنه مغمور في الفندق. أظن أنه شخص مدهش ولا يمكن التنبؤ بتصرفاته. نحن ننظر إليه كفرد بسيط، لكن أفعاله في الواقع مفاجئة واستفزازية. من أجل فهم عالمه، تحتاج أن تبقى مع ديفيد.
– في عملك أنت استخدمت الإضاءة الطبيعية ولم تلجأ إلى المكياج. هل تقدر أن تخبرنا أكثر عن هذا الجانب؟
* نعم، هذا صحيح. لم يكن هناك نهار أو ليل. ولم أسمح بوضع أي مكياج. أستطيع القول أن اللحظة الوحيدة التي استخدمنا فيها الإضاءة كانت أثناء الليل.
– هل هي حقاً المرة الأولى في أفلامك التي تستخدم فيها الموسيقى؟
* نعم، هذا صحيح.
– ما الذي جعلك مهتماً بالموسيقى هذه المرّة؟
* لا أعرف من أين جاءت. أعني، أنا فعلاً أعشق الموسيقى، ودائماً أحاول أن استخدم الموسيقى في أفلامي، لكنني أبداً لا أجد الطريقة التي سوف لن تحدّ رنين الفيلم. في الماضي كنت دائماً أشعر إني عندما أستخدم الموسيقى، بدلاً من فتح الأفق أجد أن الأشياء تضيق وتخلق إحساساً خاصاً جداً أو معنى خاصاً جداً بشأن الأشياء. لكن عندما أزيل الموسيقى من أي مشهد، كنت أشعر أن المشهد أصبح معقّداً أكثر ومنفتحاُ أكثر على التأويل، وأن هناك العديد من الإحتمالات الأخرى. مع ذلك، لسببٍ ما، لا أعرف بالضبط ما هو، عندما كنا نكتب هذا الفيلم، شعرت بأنه سينجح مع الموسيقى. بالطبع، مازلت أحاول أن أجد طريقة لتوظيف الموسيقى بحيث لا تكون تقليدية، ذلك لأنني كنت أحاول أن أجعل الموسيقى طبقة أخرى، بمعنى أن تكون متناقضة تماماً مع ما يحدث في المشهد. على سبيل المثال، هناك أحياناً لحظات تكون فيها الموسيقى درامية جداً بينما المشهد فكاهي. إن خلق كل هذه الطبقات المختلفة ودمجها ينتج في النهاية طابعاً مختلفاً للفيلم. في الواقع، ما فعلناه هو إننا استخدمنا الموسيقى لا لوصف ما يحدث في المشهد بل لخلق طابع مختلف للمشهد برمته.
– أنت في “الكركند” (أو سرطان البحر) تركت كل ممثل يتحدث بلهجته الخاصة.. ما السبب في ذلك؟
* العالم الذي نصوّره معاصر، ولدينا أشخاص من كل بقاع العالم، لهذا لم أجد مبرّراً لإخفاء حقيقة أنهم قادمون من خلفيات مختلفة وأقطار مختلفة. ولم أجد أي مبرّر لجعل لهجاتهم متساوقة والإيهام بأنهم من نفس المكان.
– عدد من المخرجين المعاصرين، مثل الإيطالييْن ماثيو جارينو وباولو سورينتينو، لجأوا إلى التمويل العالمي وإشراك نجوم كبار من أميركا وبريطانيا. أنت اتبعت الطريقة ذاتها، الإنتقال من مشاريع منخفضة الميزانية إلى مشاريع أكبر. بما إن “الكركند” مشروع أضخم من أعمالك السابقة ، هل فرض ذلك ضغوطات على عملية صنع الفيلم؟
* انتقلت إلى لندن قبل أربع سنوات بعد أن حققت ثلاثة أفلام في اليونان، وقد اتخذت قراري بالإنتقال لكي أكون قادراً على التقدّم في عملي وتطويره بالعمل مع آخرين ضمن مقياس مختلف. اللغة الإنجليزية وفّرت لي إمكانية العمل مع مواهب عالمية، وهذا أمر عظيم بما إن فيلماً كهذا يصعب تحقيقه في اليونان.. مع إنه ليس ضخماً قياساً إلى أعمال هوليوود. هو ضخم قياساً إلى أعمالي السابقة. في اليونان كنت أعمل مع أصدقائي الذين لم يتقاضوا أجراً مع ذلك خلقوا معي الأفلام بشغف، ومن هذا الشغف تحصل على شيء أكبر مما تحصل عليه من المال.
– انتقالك إلى مشاريع أكبر إنتاجياً، هل أدى إلى تغيير علاقتك بالجمهور.. خصوصاً وأن عدداً أكبر من الجمهور سوف يشاهد الفيلم؟
* هذا لا يعنيني. لقد أردت أن أحقق فيلماً أكبر إنتاجياً لأن ثمة أدوات معينة تحت تصرّفي في ما يتعلّق بالمواهب والمواقع. ليست هناك قضايا أخرى تشغلني.
– هل ارتفاع الميزانية أثّر على عملية التصوير؟
* بسبب قيود الميزانية، لم يتوفّر لنا ترف إجراء بروفات مطوّلة. البروفات كانت قليلة جداً. شخصياً أميل إلى الإرتجال. الأداء عموماً بدا عفوياً تماماً.. وهذا في الواقع يعطي الحصيلة النهائية شيئاً من الطاقة.
– هل كان صعباً الحصول على دعم مالي لهذا النوع من الأفلام التي تصوّر مجتمعاً غير مثالي؟
* حاولنا أن نركّز على علاقة الحب وتعقيداتها في العالم المعاصر، وهي ثيمة عامة وسهل فهمها، كما إنها جذابة مادياً. من جهة أخرى، استطعنا أن نجتذب الدعم المالي من أقطار أوروبية مختلفة، وحصلنا على ما يكفي لإنتاج الفيلم.
من فيلم “سن الكلب”
– في فيلمك هذا وفيلمك السابق “سن الكلب” Dogtooth أنت خلقت مجتمعاُ غير مثالي إلى جانب النتائج السلبية بوضوح للعيش في عالم شمولي. هكذا أنت باستمرار تنتقد مفهوم اليوتوبيا أو أي محاولة لخلق مجتمع أفضل من مجتمعنا الراهن. لم أنت مهتم بثيمات اليوتوبيا واللايوتوبيا؟
* لست متأكداً، حتى إنني لا أرى اليوتوبيا واللايوتوبيا كأماكن مختلفة جداً. أعتقد أن اللايوتوبيا تأتي أحياناً من محاولة خلق نوع من اليوتوبيا، لذلك أجد أن هذه الأشياء متصلة ببعضها كثيراً، ومن الصعب رؤية الحد الفاصل بينها. هذا شيء يثير اهتمامي. قد يكون لدى الناس نوايا طيبة حين يخلقون هذه القوانين التي من المفترض أن نتبعها لكي يكون لدينا مجتمعاً أفضل، لكن إلى أين سيقودنا ذلك؟ هذا معقّد جداً ويثير شتى الأسئلة التي نأمل أن يثيرها فيلمنا.
– مسألة المكان مهمة جداً في اليوتوبيا واللايوتوبيا معاً بما أن المجتمع يحدّد المواطنة وما هو خيّر وما هو سيء من خلال الشكل المكاني وما يمثّله في مؤسساته. بناءً على ذلك، الفندق والمدينة شكلان حاسمان في فيلم “الكركند”. على نحو مثير للإهتمام، أحداث الفيلم لا تدور في المستقبل. الفيلم ليس مستقبلياً بل هو واقعي ومعاصر. ما هو مصدر إلهامك في اختيار هذين المكانين؟
* هذا لأن قصتي لا تحتاج بالضرورة إلى أن تدور في المستقبل. العالم الذي يصوّره الفيلم يمكن أن يكون عالماً بديلاً، يشبه العالم الذي نعيشه لكن بقوانين مختلفة. لكن حين نأتي إلى اختياراتنا للمواقع فإنني أظن أن الفيلم ينتمي إلى دراما السجون إلى حدٍ ما، بما أنك تنظر إلى مكان حيث يحتجز هذا المجتمع كل الذين أخفقوا في حياتهم. الفندق يبدو مكاناً حسناً والذي يشبه السجن تقريباً لكن أيضاً له جانب إيجابي وسار حيث أنه يرعى العلاقات ويقود الناس إلى نتائج إيجابية أكثر، على الأقل حسب تعريف قيادات ذلك العالم. من هنا نشأ ذلك الموقع، وبينما السجون تكون عادةً نائية ومعزولة عن بقية العالم، فإن إيجاد موقع رعوي، في هذه الحالة، كان مهماً. إن جميع المسجونين في الفندق يجب أن يرتدوا بزّات خاصة ويتبعوا أسلوباً دقيقاً وصارماً في الحياة.
كل شخص يعيش في خوف من الظلام، ومن المضاعفات التي لا يمكن التنبؤ بها، إذا لم يتمكنوا من الإمتثال واتباع التعليمات.. التي هي معقّدة وغير مرنة. المشاهد في الغابة تعزّز فكرة أن الفندق القديم جميل جداً، لكنه في الواقع سجن. أما المدينة فهي تمثّل المدينة المعاصرة جداً والتي يمكن أن تكون في أي مكان في العالم، من دون ربطها بالضرورة بمجتمع معيّن. بهذه الطريقة نتخطى أي نوع من السمات المحلية.
– الأشخاص في الفندق هم أولئك الذين لا يميلون إلى اتباع القوانين، ولهذا تم إرسالهم إلى الفندق كعقاب. مع ذلك، في النهاية نرى الشخصيات الرئيسية تجاهد للعودة إلى الحالة السويّة حسب تعريف مجتمعهم. إنهم يريدون أن يكونوا قادرين على إيجاد الحب والإرتباط بعلاقات خاصة بالزواج الأحادي. ألا ترى في هذا تناقضاً في الحبكة؟
* أفهم تماماً ما تعنيه. الأفراد لا يذهبون إلى الفندق لأنهم لا يريدون اتباع القوانين. إن شخصاً مثل بطلنا، والذي ينفصل عن زوجته، يجب أن يذهب إلى الفندق لكي يجد امرأة أخرى.. هذا ما يفرضه القانون. وذلك بالضبط ما يستكشفونه، إن عليك أن تتبع قوانين معينة. هناك أفراد لا يعتقدون أن عليهم اتباع القوانين وأن من الأفضل لهم أن يكونوا أحراراً من أي نظام. ثم لديك هذه المفارقة عن رجل يتمرّد على القوانين ويجد نفسه في مكان حيث الأفراد يظنون أنهم أحرار لكنهم يتبعون قوانين مماثلة للمكان الذي يحاولون جميعاً الهرب إليه. ذلك شيء آخر كنت مهتماً بسبره، أعني، مفارقة محاولة الإبتعاد عن شيء ثم خلق شيء مماثل. ونحن نعرض هذه التناقضات لأن العالم ملئ بمثل هذه التجاورات والتعارضات بين الناس والأنظمة والأيديولوجيات والفلسفات. السؤال المهم هو كيف يكتشف الناس إلى أين ينتمون فعلاً، وما هو الأفضل لهم، وكيف تكون حراً حقاً إذا كنت تتبع أياً من هذه الأشياء.
– أشعر أن الفيلم ذو قسمين، الثاني تدور أحداثه في الغابة، وهو مختلف جداً في الطابع والشكل عن الأول. لم نجد متابعة لفكرة تحويل الأفراد إلى حيوانات، والمواقف الفكاهية اختفت في القسم الثاني. بعض النقاد وجدوا القسم الثاني أقل جاذبية. هل يمكنك التعليق على هذا؟
* أعتقد أن القسمين من الفيلم لهما طابع وصوت خاص جداً. وعلى الرغم من أن هناك تنويعاً ما فإن الفيلم متماسك ومتناغم. الفكاهة مستمرة، وربما يصبح الفيلم أكثر قتامة فيما هو يتقدّم، كما يصبح أكثر رومانسية.