الفيلم الياباني “لصوص المحلات” ينتزع “السعفة الذهبية”
في مفاجأة كبرى من مفاجآت مهرجان كان، منحت لجنة التحكيم الدولية التي ترأستها الممثلة الاسترالية كيت بلانشيت جائزة “السعفة الذهبية”، أرفع جوائز المهرجانات الدولية شأنا، للفيلم الياباني المشغول جيدا “لصوص المحلات” للمخرج الياباني الكبير هيروزاكو كوريدا.
بعد مسابقة ضمت 21 فيلما، من بينها بعض الأفلام الفقيرة فنيا، منحت لجنة التحكيم الدولية في مسابقة الدورة الـ71 جائزة “السعفة الذهبية” إلى فيلم “لصوص المحلات” Shoplifters للمخرج الياباني هيروزاكو كوريدا ” الذي شارك مرات عدة من قبل في مسابقة كان خلال السنوت الأخيرة. وبذلك يتفوق الفيلم الياباني على كل الأفلام الفرنسية التي شاركت في المسابقة باستثناء فيلم “كتاب الصورة” للمخرج الفرنسي- السويسري الكبير جان لوك غودار. ففي خطوة استثنائية لم يسبق لها مثيل من قبل، منحت لجنة التحكيم جائزة “السعفة الذهبية الخاصة” إلى المخرج المرموق الذي لم يسبق له الحصول من قبل على مثل هذا التكريم من مهرجان بلده.
وربما تكون هذه الجائزة الاستثنائية قد منحت بالاتفاق مع إدارة المهرجان لأن لائحة المهرجان لا تجيز للجان التحكيم منح أكثر من “سعفة ذهبية” واحدة، وإن كانت تجيز منحها لفيلمين معا كما حدث عام 1979عندما فاز بها فيلم “سفر الرؤية الآن” لفرنسيس فورد كوبولا وفيلم “الطبلة الصفيح” لفولكر شلوندورف. وكنت قد كتبت من قبل عن هذا فيلم غودار البديع هنا، وقلت إنه ربما يكون الوصية الأخيرة السينمائية لمخرجه الكبير (87 عاما) أحد الرواد الأوائل لحركة الموجة الجديدة الفرنسية التي ظهرت في أواخر الخمسينات.
يتفوق الفيلم الياباني أيضا على فيلم “مربي الكلاب” الإيطالي الذي كان مرشحا بقوة للجائزة، والفيلم الروسي “ليتو” (صيف) الذي نال حماسا كبيرا من جانب النقاد الفرنسيين الذين رشحوه منذ عرضه في اليوم الثاني للجائزة المرموقة، كما يتفوق الفيلم الياباني على الفيلم الصيني “الرماد هو أكثر المواد البيضاء نقاء” للمخرج جيا جانكي الذي كان مرشحا بقوة رغم عدم إعجابي شخصيا به كونه أقل كثيرا في مستواه من الفيلمين السابقين للمخرج نفسه “لمسة الخطيئة” (2013) و”الجبال قد تنفصل” (2015) رغم أنه يقدم لوحة جميلة واقعية للصين الحديثة من خلال قصة تدور في أوساط العصابات الاجرامية.
تماسك أسرة بائسة
يصور الفيلم الياباني المتوج بالسعفة الذهبية أسرة يابانية فقيرة تعيش “تحت السلم” إذا جاز التعبير، أي على الهامش تماما في شقة ضيقة مكونة من غرفة واحدة، يقيم فيها ستة أفراد، بينهم طفلان وفتاة مراهقة، هذه الأسرة التي توجد في مجتمع صناعي ثري هي نموذج للبؤس والرغبة المستمرة في التغلب على الظروف الاجتماعية الشاقة، لكنها أيضا نموذج للتماسك الأسري المدهش والتحايل من أجل الاستمرار في الحياة. الزوج الذي تخطى الأربعين يقنع زوجته بتبني طفلة مسكينة عثر عليها تحت المطر في ضواحي طوكيو الفقيرة، فتزداد مسؤولية الأسرة حيث يتعين عليها اطعام هذا الفم الجديد الوافد، فهناك صبي لدى هذه الأسرة يعرف أنه ليس ابنها وغالبا تم أيضا انتشاله من الضياع والتشرد بنفس الطريقة من قبل من دون مراعاة للإجرءات القانونية المتعلقة بالتبني وهو ما سيؤدي الى اتهام الأسرة فيما بعد، أي مع تفاقم الأحداث والكوارث، بـ”الاختطاف”. وهناك شقيقة الزوجة الشابة التي تلجأ لتعرية جسدها عبر “غرف التشات” من خلال الانترنت حيث تعمل في أحد محلات التعري أمام الكاميرا “أونلاين” لتكسب بعض المال حتى يمكنها شراء أدوات التجميل المطلوبة. وهناك أخيرا الجدة العجوز التي يتعيش الجميع على ما تحصل عليه من معاش قليل. لكن هذا المصدر لا يكفي، ويأتي وقت ينقص أيضا الى النصف، كما يقوم الزوج مع زوجته بالسرقة من محلات السوبرماركيت، ويلقن الطفلين أيضا كيفية السرقة وانتشال الأشياء البسيطة من المحلات.
هناك تركيز واضح على مشاهد تناول الطعام، ففي هذه الحالة يصبح الطعام هو أساس الوجود نفسه، أما الجنس فقد هجره الزوجان منذ زمن بعيد ربما بغرض اقصاد الطاقة، أو أفول الرغبة، وعندما تأتي الرغبة أخيرا ويحاولان للمرة الثانية ممارسة الجنس داخل الغرفة الضيقة، يقطع خلوتهما وصول الطفلين من الخارج.
كيف يمكن أن تسير حياة هذه الأسرة الغريبة؟ هذا ما يسعى كوريدا للكشف عنه تدريجيا بأسلوبه الواقعي المغرق في واقعيته، الذي تشوبه مسحة رومانسية انسانية هادئة، وميل لتوليد الضحك من داخل المأساة من دون مبالغات ميلودرامية، بل يبدو الفيلم بأكمله مصنوعا بحسابات دقيقة في طول اللقطات، وزمن استغرق كل لقطة على الشاشة، وتجاور اللقطات مع بعضها البعض، وعلاقة الداخل بالخارج، والأطفال بالكبار،مع براعة في اقتناص الأداء المناسب في الوقت المناسب من الطفلين. والفضل يعود بالطبع لقدرة كوريدا في السيطرة على ممثليه الصغار والكبار، بحيث ينتزع منهم ما يعادل الحياة نفسها. نه عمل متميز كثيرا في السينما اليابانية منذ رحيل العملاق كيروساوا.
ضد العنصرية
ذهبت الجائزة الكبرى للجنة التحكيم، التي تأتي في المرتبة الثانية بعد “السعفة الذهبية”، الى الفيلم الأميركي البديع “رجل الكوكلوس كلان الأسود” BlacKkKlansman لسبايك لي، وهي جائزة في مكانها الصحيح تماما، فالفيلم عمل ابداعي ساخر يعتمد على مذكرات شخصية حقيقية لضابط شركة امريكي من أصول افريقية هو “رون ستولوورث” (يقوم بدوره جون ديفيد واشنطن) ينجح في اختراق منظمة الكوكلوكس كلان العنصرية في كولورادو في السبعينات عن طريق الاتصال التليفوني مع رئيس الفرع، ثم يتفتق ذهنه عن فكرة الاستعانة بزميل له من البيض هو “فليب زيمرمان” (يقوم بدوره آدم درايفر) لكي يتقمص دوره أمام المنظمة العنصرية ويقوم بتسجيل اتصالاتها وخططها للإيقاع بها في النهاية، فهو لا يمكنه الظهور بنفسه كرجل أسود ولا ساءت العاقبة. والفيلم من أكثر الأفلام التي خرجت من هوليوود فضحا وسخرية وتعريضا بالسياسات العنصرية في الولايات المتحدة، وصولا الى تعرية ونقد موقف الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب في نهاية الفيلم حينما يربط سبايك لي بين أحداث فيلمه وبين الاعتداءات العنصرية العنيفة التي وقعت العام الماضي في ولاية فرجينيا والتي تقاعس ترامب عن ادانتها بوضوح.
جوائز التمثيل
جائزة أحسن ممثلة نالتها الممثلة الكازاخستانية الشابة سامال يسلياموفا عن دورها في الفيلم الروسي- الكازخستاني- الفرنسي- البولندي “أيكا” (أو الصغيرة) للمخرج سيرجي سفورتسفوي. وهو يدور حول البؤس الإنساني وكيف تواجه فتاة شابة غريبة الفقر والفاقة والديون والأكثر، الحمل ثم التخلص من الجنين والاصابة بنزيف لتدخل في سلسلة لا تنتهي من المتاعب.
أما جائزة أحسن ممثل وكما توقعنا في مقال سابق، فقد فاز بها الممثل الإيطالي مارشيللو فونتي عن أدائه الرائع في فيلم “مربي الكلاب” لماتيو غاروني، وهو من أفضل ما عرض في المسابقة وكان يمكن له الفوز بالسعفة الذهبية، ويعتبر الفيلم دراسة بالكاميرا في شخصية رجل يبدو ضعيفا خاضعا يعمل في تربية وتنظيف الكلاب، شديد العطف عليها، لكنه يحمل في داخله شراسة لا تقل عن شراسة العملاق العنيف الفظ سوني الذي يقوم بتعذيبه، ولكن على نحو أكثر قسوة وذكاء.
السيناريو والاخراج
تقاسم جائزة أفضل سيناريو فيلمان هما “ثلاثة وجوه” للإيراني جعفر بناهي، وهي جائزة غير مستحقة في رأيي، كون الفيلم لا يقدم جديدا بل يبدو موضوعه معادا ومكررا في سياق السينما الإيرانية خاصة التيار المرتبط بتجربة المخرج الراحل عباس كياروستامي، أما الفيلم الثاني فهو “لازارو السعيد” للمخرجة الإيطالية اليس رورواتشر، وهو بدوره قد يكون فيه بعض المشاهد الجيدة لكنه مفكك البناء ومتعدد الأساليب مع كثير من الغموض والارتباك الناتج عن تداخل الأحداث والشخصيات، كما يميل الى التسطيح والنمطية في بناء الشخصيات. لكنه من اخراج امرأة.
وكما توقعنا من قبل كان لابد أن تنحاز لجنة كيت بلانشيت الى أفلام المخرجات. لذلك فقد منحت جائزة أخرى غير مستحقة الى المخرجة للبنانية نادين لبكي عن فيلمها الروائي الثالث “كفر ناحوم” المفكك الملئ بالاستطرادات والتكرار، الذي يتفرع في شتى الاتجاهات ويعاني من الترهل الشديد والتكرار والميلودراما والخطابة والمبالغات. لا أن هذا الفيلم بدا وكأنه ترك تأثيرا كبيرا على أعضاء اللجنة، ربما بسبب تصويره الوجه غيرالسياحي لبيروت، ولحياة الأطفال المشردين في شوارعها التي تمتلئ بالقمامة والمخلفات والذين يتاجرون في كل شيء. وكان الفيلم الأجدر بهذه الجائزة هو الفيلم الروسي “ليتو” أو حتى الفيلم المصري “يوم الدين” وهو أكثر تماسكا من حيث السيناريو وأكثر وضوحا في شخصياته وحبكته من كثير من الأفلام التي شاهدناها.
وقد منحت اللجنة جائزة أفضل إخراج الى المخرج البولندي- المقيم في بريطانيا- باول باولكوفسكي عن فيلمه البديع “حرب باردة” أحد أفضل أفلام المسابقة وسنخصص له مقالا مستقلا مقبلا.
الكاميرا الذهبية التي تمنح عادة لأفضل عمل أول ذهبت الى الفيلم البلجيكي “فتاة” للمخرج لوكاس دونت، الذي يصور بشكل بديع ومؤثر كيف يعاني صبي أو بالأخرى فتاة في جسد صبي، في الخامسة عشرة من عمرها، من أجل التحول الجنسي لتصبح فتاة بشكل كامل وتصبح أيضا راقصة باليه.
جوائز “نظرة ما”
جائزة أحسن فيلم من الأفلام التي عرضت في قسم “نظرة ما” حصل عليها الفيلم الدنماركي “الحدود” للمخرج علي عباسي (من أصل يراني) وهو واحد من أفضل ما شاهدناه في المهرجان عموما، وكان بالتأكيد يستحق أن يكون في المسابقة الرسمية فهو أفضل من كثير مما عرض في هذه المسابقة. ورغم أنه قد يبدو فيلما من أفلام الرعب، الا أنه مبتكر في كل شيء: في الموضوع، وشكل بناء السيناريو، والتكوينات التشكيلية، والشخصيات الغريبة الفريدة التي يصورها، كما يتميز بالأماكن التي تدور فيها أحداثه، والموضوع والمغزى الإنساني والفلسفي الكامن في طيات موضوعه. إنه عمل يتمتع بخيال مدهش يدور حول المصير الإنساني في عالم متغير.
ونالت المخرجة المغربية الشابة مريم بن مبارك جائزة أفضل سيناريو عن فيلمها الجميل البسيط الجديد في موضوعه “صوفيا” وهو من نوع الدراما الاجتماعية التي تفاجئنا بمسارها الذي يختلف تماما عن ما سبق أن شاهدناه في الموضوع نفسه.
وحصل فيكتور بولتسر على جائزة أحسن ممثل عن دوره في فيلم “فتاة”، بينما فاز المخرج الأوكراني سيرجي لوزينيستا بجائزة أحسن مخرج عن فيلمه “دونباس” الذي افتتحت به التظاهرة.
بذلك يسدل الستار على دورة أثارت الكثير من الجدل سواء بسبب مقاطعة شركة نيتفليكس للمهرجان وحرمانه بالتالي من عرض عدد من الأفلام الجديدة الجيدة التي كان من الممكن أن تجعل المسابقة أكثر ثراء، أو النظام الجديد في تقسيم العروض ومنع الصحفيين من مشاهدة أفلام المسابقة قبل يوم من عرضها العام كما كان الحال طيلة السنوات السبعين الماضية، وحظر صور “السيلفي” على البساط الأحمر، وهو أهون الضرر بالطبع وان كان البعض قد اعتبره أكبر اعتداء على الحرية الشخصية!