مشاكل البنية الدرامية في الفيلم السوري القصير “فقدان”

يعجز المرء عن تحديد مشكلة رئيسية واحدة في في سياق الفيلم الروائي القصير (فقدان) من تأليف و إخراج رامي القصَّاب و إنتاج المعهد العالي للسينما بالقاهرة كمشروع تخرّج للأخير من قسم الإخراج السينمائي.

يُعاني الفيلم، المُشارك في الدورة الأخيرة لأيام قرطاج السينمائية ضمن برنامج السينما الواعدة والذي عُرِضَ قبل شهرين ضمن مُسابقة الطلبة في مهرجان القاهرة الدولي للفيلم القصير، من تصدّعات عدّة في بنيته الدرامية تتكافل جنباً إلى جنب مع مشكلات تقنية وفنيّة جمّة تُخلخل النتيجة النهائية للفيلم حتى تكاد أن تطيح به كلّياً رغم بساطة الفكرة إلى الحدود التي تحدّ من قدرة هذه البساطة على التأثير وتحّولها من ميّزة كما يجدر بها أن تكون في الإنتاجات القصيرة إلى نقطة ضعف.

تدور أحداث الفيلم حول مجموعة مُهاجرين سوريين غير شرعيين يستعدون لعبور الحدود السودانية نحو مصر برفقة مُهربَين من أبناء المنطقة: شباب ورجال وامرأة (يارا قاسم) تحتضن طفلتها الرضيعة.

 خوف وتوجّس يُسيطر على الجميع قبل انطلاق سيًّارة النصف نقل وسط الصحراء. توتر يتصاعد بعد طلب المُهربَين من المجموعة رمي الحقائب و الأغراض الشخصية وصولاً إلى كسر عود أحد الشباب من أجل تخفيف الوزن و الأحمال. تنطلق السيَّارة أخيراً نحو وجهتها ولكن سرعان ما تسقط الفتاة الرضيعة من يديّ والدتها لتموت فور وقوعها. يستنفر ركاب السيَّارة ويطلبون من السائق ومُرافقه التوقّف فوراً لإنقاذ البنت.

يرفض المُهربان العودة إلى الوراء خوفاً من تعرّض السيَّارة للقنص من حرس الحدود. تُحاول الفتاة إقناع المُهربيَن بالعودة ولكنهما يُصمّمان على موقفهما ويهدّدان الركاب بأسلحتهما النارية ليعود الجميع، ومن ضمنهم الأم المفجوعة، إلى السيَّارة التي تُتابع طريقها إلى مصر وكأن شيئاً لم يحدث.

يُبنى الفيلم على حدث رئيسي يصلح بلا شكّ كمادة لفيلم قصير خاصّة أنه يلامس قضية إنسانية وعالمية مُلّحة تتمثّل في أزمة المُهاجرين، وتنفتح في الآن نفسه على أسئلة وجودية أكثر شمولاً من قبيل الصراع بين عاطفة المرء وغريزته واحتمالات النجاة والبقاء، لولا أن المُعالجة قد أطاحت بكلّ ذلك لتسدّ الآفاق الرحبة وتقطع الطريق نحو مآلات أكثر انفتاحاً وعمومية على صعيد الفيلم ككلّ، خاصّة مع قرار الأم المُتسّرع بركوب السيَّارة وترك ابنتها امتثالاً لأوامر المُهربيَن، وكأن البنت الميّتة محض دمية أو إكسسوار يُمكن الإستغناء عنه بهذه السهولة، دون حتى أن تنهار الأم أو تفقد وعيها إزاء هذه المُصيبة.

كان يُمكن للفيلم أن يترك المرأة مُعلّقة بين احتمالين أحدهما يعني الموت والآخر يعني الحياة، وهذه نهاية كفيلة بطرح تساؤل إنساني مُلّح وحاضر على الدوام وكفيل برفع قيمة الحدث الدرامي بوصفه مُعادلاً لقدر غامض يصعب تفسيره ويجوز تصنيفه أحياناً في خانة العبث والطيش، خاصّة مع تركيز البطلة على الأداء الخارجي دون التعبير عن حدّة وكبَر صراعها الداخلي بين رغبتين مُتساويتين من حيث الشدّة والاتجاه.

 و لعلّ واحدة من المشكلات الكبرى في الفيلم تتبلور في افتقاد الأحداث للمنطق ومُفارقتها له، فالسيَّارة كانت طوال الرحلة تعبر بسرعة متوسطة دون أن يبدو أنها ضمن منطقة مكشوفة للحراسة، كما أن ارتفاع الأم عن الأرض قد لا يؤدي، بسبب قصره، لموت الرضيعة مُباشرة فور سقوطها، و لكن أحداً من الشخصيات، بما في ذلك الأم نفسها، لم يخطر له في بال أن البنت ربما لا تزال على قيد الحياة، كما أن قرار التخلّص من أغراض المُسافرين الشخصية جاء مُتأخراً للغاية و كان من الأجدى رميها منذ بداية الرحلة و ليس عند وصول السيَّارة إلى بقعة مجهولة في الخلاء.

يزخر الفيلم بشخصيات كثيرة سرعان ما تُنسى طالما أنها تظهر كُلّها بوصفها مُجرّد مجاميع. أناس يرفض الفيلم مدّ جسور إنسانية بينهم خلال الرحلة ويترّفع دونما سبب عن رسم ملامح واضحة و صريحة لشخصياتهم تحّولها على الأقل إلى أنماط، يكتفون بالصياح و الهيجان عقب سقوط الطفلة دون أن يقوم أحدهم بفعل يتجاوز حدود الصراخ و الثرثرة، وسط مُبالغة كبيرة في الأداء و جنوح واضح نحو الإستعراض والإنفعال، والثابت أن المشكلة الأبرز تكمن في عدم تصوير لقطة سقوط الطفلة، لأسباب تقنية على الأرجح، رغم أن الفيلم برّمته يقوم على هذا الحدث، حتى أن الفيلم يتعّفف عن تصوير لقطة واحدة لجثّة الطفلة المرمية فوق الرمال عقب موتها المُفتَرَض و هو ما لا يمكن تبريره بحال من الأحوال.

صحيح أنه يُحسَب للفيلم الجودة في التصوير و الإضاءة و حُسن إختيار موقع التصوير والتوفيق النسبي في الأزياء، إلا أن كلّ ذلك لم يفلح في انتشال الفيلم من مصائده العديدة، مع تشتّت في أسلوب التصوير الذي يُراوح بين لقطات ثابتة وأخرى محمولة ترفع أحياناً من مستوى التوتّر و التشويق  ولكنها تُقلّل في الآن نفسه من القيمة الجمالية والقدرة التعبيرية للكادر السينمائي وتُحيلنا مُباشرة نحو الإشتغال الرائج و التقليدي، وسط تشتّت في المونتاج والعجز عن الإمساك بزمام الإيقاع، مع الآخذ في عين الاعتبار دمج السيناريو بين الذروة والنهاية عقب استفاضة تأسيسية طويلة على حساب إشباع الجرعة العاطفية عقب سقوط الطفولة، إضافة إلى إهمال لدور شريط الصوت وتوظيفاته الإبداعية لصالح الاعتماد على الموسيقى بمفهومها التقليدي كمُنبّه للمشاعر و مُثير مُجرَّب للتعاطف.

يُدلّل فيلم (فقدان) على حقيقة مفادها أن أكثر الأفلام إنصافاً للقضية الإنسانية السوريّة كانت تلك التي أنجزها صنَّاع أبقوا على مسافة موضوعية فاصلة بينهم و بين المأساة، طالما أن المآسي و إن قُدِّمَت بتجلياتها الأكثر قسوة و وحشية، لا يمكن لها أن تجيء مُجردّة عن الإطار الإنساني والوجودي، ولا تكفي وحدها لإشادة بنيان فيلم، فالأحداث التراجيدية الكبرى و في مُقدّمتها الموت كانت وستبقى لصيقة بهمّ وجودي يستدعي التأمّل بوصفه قضية الأحياء المكلومين، و الطامة الكبرى أن الفيلم يتعامل مع الموت بوصفه حدثاً روتينياً يتناوله بتكثيف و اقتضاب إلى الحدّ الذي يُحجّم من وقعه ويحّوله إلى حادثة عابرة وممسوخة، وهذا ما انسحب تالياً على الفيلم برّمته باعتباره فيلماً قصيراً لم يكتمل.

يتكأ (فقدان) على حادثة الموت ولكنه لا يُحيط بجوانبها أو يرصد تداعياتها، وكأن طريقة الوفاة و شرطها الزماني و المكاني كفيلان بإضفاء القيمة المُتوخاة على الفيلم وهذا ما لم يحدث أبداً.