الفيلم السوري “الإفطار الأخير”: الحب في زمن الحرب
عمرو علي
انطلقت مطلع يونيو الماضي في صالات الكندي بدمشق، العروض التجارية للفيلم الروائي الطويل “الإفطار الأخير”، تأليف وإخراج عبد اللطيف عبد الحميد وإنتاج المؤسسة العامة للسينما بدمشق، والحائز على جائزة أفضل سيناريو في مهرجان الإسكندرية لدول البحر المتوسط 2021.
ويعتبر الفيلم محطّة جديدة في سينما عبد اللطيف عبد الحميد، واستعادة حقيقية لسينمائي كبير، والاستعادة تأتي هنا بوصفها ذروة جديدة تحيلنا إلى أفلام سابقة مثل “نسيم الروح” و “خارج التغطية”، وهي علامات مفصلية في سينما عبد اللطيف عبد الحميد، لعلّ أبرز ما يميزها كونها سينما مدينية، في سياق فيلموغرافيا حافلة بأفلام ريفية، إن صحَّ التعبير.
والحقيقة أن المتابع لسينما عبد اللطيف عبد الحميد سيلاحظ بسهولة ابتداءً من فيلمه السابق “عزف منفرد” رجوعاً نحو الخلطة السينمائية الفريدة التي يستخدمها، والخلطة هنا تجيء كمرادف للأسلوب المتميّز واللغة السينمائية البليغة في التعامل مع الفيلم بوصفه تعبيراً درامياً و بصرياً حاملاً للرؤية و للموقف الواضح من الحياة، و لعلّ الإفطار الأخير يتحوّل بهذا المعنى إلى نموذج مثالي لسينما عبد اللطيف عبد الحميد التي تمزج بين الواقع و الخيال، في إطار من الواقعية السحرية التي لا تخلو من كوميديا الموقف أو النزعة الساخرة، بما فيها القضايا الكبرى كالحبّ والحرب والموت، هذا عدا عن حالة الحزن الشفيف التي تغلّف الشخصيات بفعل أزماتها الكبرى أو الصغرى، وهذا بالتأكيد نوع من أنواع السمو عن التعبير الواقعي الجافّ وصولاً إلى الإعلاء من قيمة المشاعر والأحداث، ما دام التعبير الفنّي نفسه درجة من درجات هذا الترّفع.
حكاية الفيلم بسيطة، وهذه أيضاً واحدة من سمات سينما عبد اللطيف عبد الحميد التي لا تتعالى في النتيجة النهائية على المشاهد باعتباره المعني والمُستَهدَف الأول، وهذا ما يجعل من أفلامه حالات خاصّة ونادرة في السينما السورية تجمع بين الفنّي والجماهيري معا، دون أن تميل نحو ضفّة من هاتين الضفّتين على حساب الأخرى، وهي أفلام يمكن قراءتها أكثر من قراءة، ولكنها تبقى في النهاية محكومة برؤية ثابتة لا يمكن تأويلها بعيداً عن المرمى الرئيسي.
والبساطة هنا تأتي في إطار السهل الممتنع كونها أفلاما بسيطة في الشكل والمضمون، ولكنها عميقة عند السعي نحو إماطة اللثام عن المعنى المستتر خلف القشور، وفي”الإفطار الأخير” فإننا هنا إزاء البطل سامي (عبد المنعم عمايري) و هو خيَّاط المسؤولين الذي يفقد زوجته رندة (كندا حنَّا) في بداية الفيلم بسبب سقوط قذيفة هاون على منزله، فيستسلم الرجل لحزنه لقسط من الزمان، وتظهر له الزوجة في كلّ زاوية من زوايا البيت، تارة في الصالون، وتارة أخرى في غرفة النوم، حتى أنها تلاحقه إلى الفندق حيث قرَّر قضاء ليلته علّه يتخلّص من الذكرى التي تقضّ مضجعه، ولكنه في النهاية يبقى محكوماً بطيف زوجته الراحل الذي يتراءى له في كلّ مكان، حتى خلال رحلته إلى الساحل السوري ليحلّ ضيفاً على العم أبو يوسف (عبد اللطيف عبد الحميد) في محاولة بائسة للنسيان، إلى أن يحسم أمره أخيراً بتنفيذ وصية زوجته بالزواج من امرأة كانت مُعجبة به اسمها جومانا (راما عيسى)، فيتزّوج سامي فعلاً، و لكن الموت يترّبص به من جديد عندما يفشل في التوسّط لدى المسؤولين الكبار اللذين يخيّط لهم بدلاتهم من أجل الإفراج عن شقيق جاره (يوسف المقبل) المنتمي لإحدى المجموعات المسلّحة في البلاد، فيندفع هذا الجار إلى تفخيخ سيَّارة سامي وقتله انتقاماً منه وعقاباً له بسبب علاقاته الوثيقة بمسؤولي الدولة اللذين ينظر إليهم الجار السلفي المُتشدّد، كما يبدو من شكله وطريقة كلامه، بوصفهم أعداء له، فيموت الرجل ويلتقي في المشهد الأخير بزوجته رندة ليتابعا إفطارهما الأخير معاً.
لعلّ مشكلة الكتابات النقدية التي واكبت هذا الفيلم تكمن في إصرارها على النظر إلى الفيلم من منظور الواقع سعياً لتحديد نسبة التطابق بين الحدث الدرامي والواقع، أو بين هذا الحدث وإمكانية حدوثه في الواقع أصلاً، رغم أن هذا المذهب في النقد ينتقص من قيمة الفن السينمائي عندما يطالب الفيلم بأن يكون نسخة طبق الأصل من الواقع، فالفيلم ينهل من الواقع بالتأكيد، ولكنه لا يسعَ في المقابل إلى توثيقه والاكتفاء بتصويره، وهو بذلك لا يختلف كثيراً عن الرواية واللوحة بوصفه تعبيراً فنّياً عن رؤية ذاتية.
ولعلّ البعض مثلاً يأخذ على شخصية البطل سامي كونها مثالية زيادة عن اللزوم، فهو حتى لا يقبل تقاضي المال نتيجة خدماته عند التوسّط للناس لدى المسؤولين الكبار، رغم أن شخصية مثل سامي لا يمكن بالنسبة إلينا أن نتوقف لدى قراءتها عند البعد الأول أو السطحي، فهي في المحصلة تحمل منظومة من القيم الأخلاقية التي تعبّر عنها بالأفعال لا بالأقوال والشعارات، وهي بذلك تتجاوز مجرّد كونها شخصية درامية من لحم ودمّ، لتصبح معادلاً درامياً للقيم التي تحملها. والأمر نفسه هنا ينطبق على شخصيات مثل رندة والجار السلفي المُتشدّد.
ولعلّ الأهم من وجهة نظرنا عند قراءة هذا الفيلم، أن تأتي قراءته بوصفه جزءً من عالم عبد اللطيف عبد الحميد السينمائي الذي راحت تتشكّل معالمه منذ فيلمه الروائي الطويل الأول ليالي ابن آوى، أي أن الأمور لا بدَّ أن تُنَاقش من طبائعها و ليس من خارجها، و لو أننا نظرنا إليها من هذه الزاوية لأصبح تحليل المفارقات، التي قد تبدو للوهلة الأولى عصيّة على التفسير في إطار الواقع أو المنطق، أمراً يسيراً وسهل المنال، فالبطل سامي سرعان ما سيندفع بعد دفن زوجته إلى زيارة مسؤول كبير في الدولة لأخذ مقاسات بدلته الجديدة تحت ضغط السكرتيرة التي سترفض اعتذاره عن الحضور وستصرّ عليه من أجل إتمام العمل، وفي هذا الموقف، من وجهة نظرنا، سخرية بيّنة من عالم اليوم المحكوم بالعبث والجنون، حتى أن موت رندة نفسه في بداية الفيلم كان نتيجة مباشرة لهذا العبث الذي يحكم الحياة، والأمر نفسه ينطبق على مشهد العشاء الذي يجمع بين سامي والعم أبي يوسف وسط الصواريخ و القذائف التي تنهال على الشخصيتين في الأرض الزراعية الخلاَّبة، بينما يتنازع سامي الخوف من الموت جرّاء قذيفة طائشة كما ماتت زوجته في بداية الفيلم، و بين خوفه من ظهور طيف هذه الزوجة وسط الزرع و الأشجار كما سبق و أن تراءى له في شلاَّل المياه العذبة، بينما يبدو العم أبا يوسف متبلّد المشاعر، فالرجل قد اعتاد على هذا القصف اليومي، أو لعلّه قد توصّل إلى درجة متقدّمة من درجات التصالح مع الموت، رغم جمال الحياة و نضارة الطبيعة التي تحيط به، والتي لا تستأهل بالنتيجة سوى العيش و الاحتفاء، وإن كان البعض يرى في مثل هذا المشهد جنوحاً نحو المبالغة، أو قفزاً فوق منطق و طبيعة الأشياء، فإنه يجيء من منظور الفيلم حاملاً لمعناه الضمني، و لو أتى هذا المعنى بلبوس الواقع، حيث أنه يدعو من ناحية الشكل للسخرية من الموت، بل إنه يحطّ من شأن الموت على اعتبار أنه قد صار حدثاً متوقعاً، خاصّة حين يتصيّد ضحاياه في الطبيعة البكر، وفي هذا تناقض حادّ وصارخ بين المكان والحدث، أي بين الطبيعة بوصفها أصلاً للحياة وبين الموت باعتباره ضيفاً ثقيل الظلّ يطال الطبيعة اليانعة ويسعى كي يحيلها إلى هشيم و يباس.
ولو أن المشهد ينحو في الشكل نحو السخرية من هذا الموت، فإنها في المضمون تلك السخرية التي تجمع بين الأضداد في آن واحد، وإن كان المرء يُحَار إزاء هذا العبث في أن يحزن أم يبتسم، فإنه لا بدَّ في المحصلة من أن يتخذ موقفاً من هذا الموت العابر الذي طاب له المقام في البلاد طويلاً، و لعلّ الفيلم يقدّم في جانب من جوانبه صورة مشتهاة للحياة، رغم النزعة التشاؤمية التي تتكلّل بموت البطل بعبوة ناسفة مزروعة في سيَّارته على يد المُتشدّد، رغم ما تحمله شخصية البطل من قيم جديرة بالحياة، و بهذا المعنى يتجّول الفيلم بين الحبّ والحزن والموت، لكنه يعود في النهاية إلى نقطة الانطلاق الجوهرية، وهي الحبّ الذي يجمع بين الزوجين، حتى أن العالم بعبثه و سخريته وجنونه يكاد يصير ظلّاً لقصّة الحبّ الفريدة التي تجمع بين سامي رندة.
هكذا يصبح “الإفطار الأخير” فيلماً عن الحبّ والحرب، أو عن الحبّ والموت باعتباره المعادل التّام والنتيجة النهائية للحرب، ولعلّ المفارقة الأبرز أنه يجيء، رغم المزاج التشاؤمي والنهاية المأساوية، طافحاً بالحياة، وحيوياً و متجدّداً في الشكل، خاصّة وسط التناغم الكبير بين العناصر السينمائية المتألقة في مواقع عدّة، من بينها مشهد ظهور رندة في المنزل حيث تننقل الكاميرا من غرفة إلى أخرى و كأنها في سباق مع طيف المرأة قبل أن تغيب من جديد.
والفيلم في هذا السياق، يعلي من قيمة الحبّ والنبل، وهو دعوة للتمسك بهذه القيم بوصفها خلاصاً فردياً وجماعياً في وجه الموت الذي يترّبص بنا و يُراد لنا، ولهذا يأتي الفيلم، من وجهة نظرنا، واحداً من ألمع إنتاجات القطاع العام في السينما السورية خلال الآونة الأخيرة، طالما أنه قادر على التأثير في العقل و الوجدان بنفس القدر من المساواة، ولا ريب في ذلك، ما دام ما ينبع من القلب يصل إلى القلب.