“الفنان” ليس عن السينما الصامتة.. بل سينما صامتة!
هما كلمتان ينطقهما بطل فيلم “الفنان” للمخرج الفرنسي ميشيل أزانافيشوس وذلك في اللقطة الأخيرة من الفيلمWiz Pleasure طبعاً المقصود هوWith Pleasure لكن بما أنه فرنسي فإن اللكنة تغلب.
هذا مفتاح لنحو تسعين دقيقة من فن السينما الفريد. لا شيء يشبه هذا الفيلم من … من … من… أوه لنقل أيام السينما الصامتة…. والسبب أنه فيلم صامت بدوره و- علاوة عن أنه صامت- هو فيلم عن … السينما الصامتة.
الكلمتان هما مفتاح الفيلم الذي نعثر عليه في اللقطة الأخيرة. صحيح أن الباب كان مفتوحاً من البداية بحيث لو وجدنا المفتاح او لم نجده لما كان ذلك مهمّاً، لكن الآن فقط عرفنا ذلك السر الصغير- الكبير: لماذا لم يرحب الممثل (في الفيلم) جورج فالنتين (يقوم به الفرنسي جان دوجاردا) بالسينما الناطقة؟ لماذا مانعها؟ سخر منها في البداية قبل أن يجد نفسه عاطلاً عن العمل. وجد نفسه بلا عمل. نجم فترة ولّت و”شخصية بلا هوية” لفترة جديدة.
هنا نفهم أن جورج لم يرحّب بالنطق لأنه، كونه ممثلاً هوليوودياً، إنّما امتلك في ناصية الحياة الفعلية لكنة فرنسية. وفي تلك الأيام لم يكن ذلك مسموحاً به. الجمهور لم يكن ليفهم او يرضى بأن يقبل لكنة غير أميركية ينطق بها الممثل حتى ولو كان نجماً محبوباً. النطق، الذي بدأ تدريجياً سنة 1927 ثم اكتمل مع مطلع الثلاثينات، فضح كثيرين: بعض الممثلين كان يمتلك صوتاً غليظاً، بعضهم لم يكن يمتلك قدرة على النطق الصحيح، والبعض الثالث، كهذه الحالة، كان أجنبياً، إيطالياً او لاتينياً او فرنسياً، بحيث أن فرصته لدوام الشهرة كانت معدومة. “الفنان”، الذي يتصدّر هذا العام قوائم الترشيحات في أكثر من مناسبة وجائزة دولية من أوروبا إلى الولايات المتحدة، يتحدّث عن واحد من هؤلاء.
الفنان
إذاً، لنعد إلى الوراء: الحكاية بإيجاز أن جورج نجم لامع في السينما الصامتة. تتحرّش به فتاة طموحة اسمها بَبي ميلر (برنيس بيجو) ويساعدها فتصبح ممثلة مساندة ثم نجمة كبيرة بفضله. لكن فيما هي تصعد إلى الأعلى، كان هو يشهد انحداره. منتج أفلامه (جون غودمان) يخبره بأن الخطوة الكبرى التي تنتظر السينما هي النطق، لكن جورج يتركه ساخراً. بعد حين، عندما أخذت أفلامه تفشل في جذب الجمهور وقد نطقت السينما فتوجّه إلى الممثلين الناطقين، يدرك أن المنتج كان على حق. يصنع فيلم مغامرات في الأدغال ويراه يتهاوى بينما الفيلم الذي تظهر فيه بَبي، وقد باتت نجمة، يحقق نجاحاً كبيراً بين الجمهور.
يكتشف أنه أصبح على حافة الماضي، ثم ها هو يسقط في حفرة الأمس. عاطل عن العمل، يبيع مقتنياته في المزاد أو في دكان الرهونات، ثم يحرق معظم أفلامه ويسقط مغشياً عليه فيما يحاول كلبه إنقاذه. حين يفيق في المستشفى يجد بَبي إلى جانبه، وبعدما تنقله إلى بيتها يكتشف أنها هي من اشترت مقتنياته حتى تحفظها له.
لكن كبرياءه يدفعه لمحاولة دمار نفسه من جديد لولا أنها تنقذه هذه المرّة. معاً سيمثلان فيلماً جديداً. إنه هنا، بعدما يقدّمان مشهداً أمام الكاميرا (داخل الفيلم) بنجاح كبير، يقول له المنتج: “هل تستطيع إعادة تصوير هذا المشهد” فيجيبه جورجwiz pleasure وهنا فقط، ثانية قبل نهاية الفيلم، نفهم السبب الذي من أجله كان على جورج أن يمتنع عن الاستمرار في التمثيل وأن يترك قافلة السينما تمضي من دونه.
“الفنان” ليس فيلماً عن السينما الصامتة. إنه فيلم صامت. وهو ليس فيلماً عن التصوير بالأبيض والأسود. إنه بالأبيض والأسود. ليس فيلماً عن تقنيّة السرد في أيام زمان الأول، بل عن تقنية السرد في تلك الأيام والكيفية التي كان الفيلم ينتقل فيها من مشهد لآخر. إذا كنت تعتقد أن أفلام الأمس ساذجة ستجد هذا الفيلم ساذجاً، أما إذا كنت تعتقد أنك تستطيع فهم كنه السينما من خلاله، كما تفهمها من خلال فيلم مارتن سكورسيزي الذي لا يقل قيمة “هيوغو” فأنت في ضيافة فيلم من النوع النادر. فيلم ربما يقدّم حكاية من نوع صعود نجم وهبوط آخر في المقابل (كما في “مولد نجمة”مثلاً) لكنه في الوقت ذاته أفضل فيلم عاطفي تم تحقيقه في العام المنصرم. في مواجهته، كل فيلم ناطق يتبادل فيه البطلان كلمة “أحبّك” يبدو لعب “عيال”. أمراً خالياً من البراءة ومفعماً بالزيف.
طبعاً أستطيع الدخول في بعض التفاصيل لكي أستنتج أن هناك اختلافات معيّنة: الفيلم الجديد من صنع العشرينات لم يكن بهذه النظافة التي عليها هذا الفيلم- لكن هل نستطيع أن نلوم المخرج إذا ما صنع فيلماً سليم الصورة؟ طبعاً لا. بالتالي، هذا ليس موضوع خلاف خصوصاً حين النظر إلى صنعة الفنيين الذين عملوا في الفيلم من مصمم المناظر الأميركي لورنس بانت، إلى مدير التصوير الفرنسي غويلوم شيفمان إلى موسيقي الفرنسي لوفيك بورس. كل منهم يكمل الصورة المنشودة التي في بال المخرج.
إنه ليس أمراً بسيطاً إقدام مخرج ما على تحقيق فيلم صامت. نعم يستطيع سينمائي ما أن يقرر، بفرض أنه وجد منتجاً مجنوناً، تحقيق فيلم روائي طويل من دون استخدام كلمة واحدة. لكن الأصعب هو البحث عن السبب. لماذا يريد تحقيق مثل هذا الفيلم.
المخرج أزانافيشوس وجد السبب: فيلم صامت عن السينما الصامتة.
طبعاً حتى هنا كان يستطيع إنجاز فيلم ناطق عن السينما الصامتة وسواه فعل ذلك. لكن إذا ما صنع الفيلم من لحمة وعجينة أفلام ما قبل العام 1927 أو نحوها، فإن الناتج ستكون تماماً هذا الفيلم الماثل باستثناء مشهد كابوسي قصير (يسمع الممثل صوت آخرين وأشياء ترتطم لكنه لا يسمع صوته) والمشهد الأقصر الذي ينطق فيه بالكلمتين الجوهريّتين.
كان الفيلم عُرض في “كان” وخرج بجائزته الأولى من هناك، ثم ها هو الآن معروض في كل مكان حول العالم… لنتصوّر مجدداً: فيلم صامت معروض في صالات السينما الكبرى حول العالم! مثل “هيوغو” لمارتن سكورسيزي و”منتصف الليل في باريس” لوودي ألن هو جزء من ثلاثية تدعو إلى حب الماضي لأنه من دون حب الماضي فإن الحاضر لا جوهر له.